إصلاح العالم. كان هذا حلم الروّاد الطوباويين. راهنوا على مستقبل أقل بؤساً وحروباً. لم يحدث تاريخياً، أن قرناً وصل، ولم يكن أسوأ مما سبقه.
الشعار الجديد للقرن الواحد والعشرين، هو الحزن والمزيد من العنف. الفردوس الإنساني وهم. ما حاوله الفلاسفة سقط في الواقع. ما حاولته الأديان انتهى إلى حروب دينية متناسلة ومتواصلة. حربوب لم تهدأ حتى يومنا هذا، ولن تجد محطة تصالح في المستقبل. مشروع الحرية نحره طلاب الحرية. عندما أمسكوا بالسياسة. مارسوا العنف والاستبداد والعنف. الشعب ليس بقوة أقوياء المال والسلطة والأديان والعقائد.
قبل ارتفاع القبضات ورفع الصوت ومعاندة السلطة وإدانة المجازر، في الأسابيع الماضية، كان العالم يتقدم من مقتلة إلى مقتلة. الحروب إنجيل سياسي تام. الأديان رصيد حربي بكل آياته. لا دين برّاء من الدم، مثله، مثل ألوهة رأس المال. الديموقراطية، ولا مرة كانت كذلك، حتى في أعرق الدول “الديموقراطية”. كل الديموقراطيات كانت تتكئ على الأقوياء. أقوى الأقوياء هو الرأسمال. أما ما له علاقة بالعقائد المبرمة دينياً وعقائدياً وسياسياً، فليس إلا سلسلة من القمع والتنكيل.
السلام كذبة. الغد هو أسوأ من الأمس، وهكذا دواليك.
المستقبل ليس مكتوباً أبداً. هو مصنوع ومفبرك. من كان يظن أن صوت الشعب قوي، عليه أن يراجع الصمم في أذنيه، “الديموقراطيات” الغربية استباحية. اجتياحية. سبعون بالمئة من سكان هذا الكوكب يعيشون تحت نير الاضطهاد. النموذج المفضوح يتجسد بأنظمة الاستبداد العربي. لذلك، وجب عدم استعمال لفظة الشعب أو الشعوب. الكائن العربي، يريد السلامة وليس السلام. السلامة تتأمن بالصمت والخضوع والتكاذب وتبرئة الذات واتهام الآخر بالخطأ والارتكاب.
رواد السلام والتفكير عوّلوا نظرياً، على قرن مختلف، أقل عنفاً، وإذ بنا ندخل قرن الفراديس الوهمية والجحيم الفالت من عقاله. عدوى المذابح. تسطير القتل. كساد أخلاقي. فوضى ملائمة ومدروسة. عنف همجي بثياب أنيقة وإعلام يتقن النفاق والتشبيح. إنه قرن وحشي بامتياز. ما زلنا في ربعه الأول. يُستحسن أن نطلق على عشرينية هذا القرن صفة الجريمة المكتملة المواصفات.
الحق مع الأقوياء، ولو كانوا سفّاحين. افتحوا قواميس السياسة وأنظمة الدول. التحدي الرقمي، أن تجد سلطة سلام وتنمية واحترام وتقديس الحرية؛ سلطة تحارب الفقر، وتتقن العدالة وتعمل في التنمية، وقضاؤها نظيف، وأمنها غير مسعور ونسيت الأمل وأن تمارس ثقافة الحرية، واعتبار الديموقراطية ليست من أجل قلة، بل من أجل الجميع.
هذه طوباوية. أليس كذلك؟ إذاَ، وداعاً أيتها الشعوب. الإنسان أخفق في ابتكار إنسانية تحميه.
قيل إن العولمة هي المسار الجديد، فأطيعوه. والعولمة، تعتبرنا أجزاء مترابطة متصلة ببعضها البعض. وعليه، العالم قرية كونية. الانتماء الجديد، هو انتماء للعالم… قريباً تحضر أمامنا معادلات نهاية التاريخ.
يوتوبيا قاتلة. مساراتها إفقار مستدام. سحق الضعفاء. لم يكن كانط على حق. أنكر أن تكون البشرية تتطور نحو الأسوأ، علماً أنه اكتشف أن المستقبل سيكون أشد قتامة.
القرن الراهن شهد تفاقم فقر لا مثيل له. الأبارتيد الاجتماعي، يفتك في النسيج الاجتماعي. المستقبل كله في خطر. الانتحار البطيء سياسة راسخة. الإنسان جدير بالعذاب. اليوتوبيات مخدِّر سيء السمعة. إذاً، يصح أن نقف مع الشاعر العربي القائل:
“قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل”…
ضحايا بربرية الدائنين الربوبين بمئات الملايين. الفقراء، راهناً وقديماً، يُموّلون الأغنياء. الخبير وولفونسن شرح باختصار عملية القرصنة الرأسمالية: “أنا أقرض. وأنا أقدم. وأنا أنجز، وأنت تستدين” ثم تدفع ثمن إفقارك من لقمة عيشك وصحتك وضحكتك.
هذا عالم أم جحيم؟
الخطير جداً، أن يصبح المال هو الحاكم والمتحكم والذي يلجأون إليه ليحكُمَهم.
الأنظمة السائدة عالمياً، انتزعت بأكثريتها صلاحية كتابة القوانين، بسبب قوتها المالية. الشعب مخدوع. يظن أنه في نظام ديموقراطي. الديموقراطية التي يرتكبها الأقوياء، في صناديق الاقتراع، هي صاحبة الأمرة والولاية.. لقد تنامى ذلك، فتملكت قوى المال، السلطة السياسية، مجالس الشعب (أو النواب). أصحاب المليارات، يأمرون ولا يقترحون. “أنا موجود أنت إذاً مطيع”. الرأسمال هو النظام. هو يكتب القوانين ويشن الحروب ويقمع الشعوب.
استطاع الرأسمال القبض على الفكر. امتلك الصحف. دور النشر. الإذاعات. التلفزيونات. المواقع الإلكترونية. وسائل التواصل الإجتماعي. البشرية تسمع ما يقول الغول الغربي. الأخبار الحقيقية، ممنوعة من الحضور، كتابة وشفاهة… جمهوريات الصمت المالي، تُعوّض عن صمتها بارتكاب “سياسة انشاء جمعيات صحية وإنسانية و..”.
المال يشتري. لا شيء أبداً يَعصى عليه. اشترى الأرض. الشركات. المواصلات. الإعلام. الكتّاب. الأديان. المصارف. الجامعات. وسائل التواصل. الصناعات الخفيفة. صناعة الأسلحة. منصات الدعاية. سلطة الإعلان.
يا إلهي. هذا ليس إنسانياً أبداً! من قال إن الإنسانية تصنعها السياسة؟
ماذا يتبقى للديموقراطية؟
ماذا يصمد من بنيان الدولة؟
كيف يمكن ممارسة الحرية في ظل قمع رأسمالي؟ حقاً، لسنا في “قرية كونية”، نحن في جحيم إنساني، والآتي أعظم… لسنا نعيش في كوكب واحد… هناك تابعون وعددهم بالمليارات، وهناك قوّاد.
العولمة الساحقة، أداة ذات جدوى في تغيير الإنسان. الإنسان المقبول، هو الإنسان المستهلك. لذا، لدينا، شركات عابرة للحدود القومية. الرأسمال اجتياحي. التسويق إلزامي. الاستهلاك دين له مليارات الأتباع. الثقافة نُزعت عنها النزعة الإبداعية، فصارت اتباعية. عليها أن تقف مواقف إيجابية من الاستهلاك السريع. ولا بد من التوأمة مع الشركات العملاقة. توأمة المتبوع للتابع. أما الثقافة، فالمهم فيها، أن تكون سهلة المنال، أي في ذروة السخافة.
العالم اليوم، محكوم بإيديولوجيتين: ايديولجية الاستملاك التام للإنتاج، وايديولوجيا الاستهلاك التام. ثنائية تامة.
انتهى زمن الرأسمالية في بلد أو منطقة. الرأسمالية راهناً، كوكبية. هناك تابع ومتبوع. للمتبوع سلطة القول والفعل. الآخرون عليهم واجب التنفيذ. الطبقات لم تعد كيانية أو قومية. الطبقات باتت عابرة للحدود. وأخطرها طبقة المساهمين في الرأسمال الكوكبي.
أين الأفكار؟ أين القيم؟ أين المبادئ؟ أين العدالة؟ أين التنوير؟ أين المساواة؟ أين الفكر؟ أين الإنسان؟ إنسى، هذه مفردات برسم الموت. ما بقي منها صدى. إلى متى سيظل هذا الطغيان الكوكبي؟
لا أحد لديه جواب.
الجواب الأوحد: الانتساب إما إلى القاتل أو المقتول. الرأسمال بحاجة إلى حروب، أكثر من حاجته إلى أسواق استهلاك اقتصاد الحروب الفتاكة؛ أسواق مجزية جداً لأصحاب الأموال.