بين السيئ والأسوأ… نختار الأسوأ. فضيلة لبنانية ساطعة. لا وجود لأرخميدس. لن يخرج على اللبنانيين أحد ليعلن لهم: «أيفريكا»، وجدتها… وجدتها… ليس لنيوتن موعد بعد. ستسقط التفاحة من فوق إلى تحت عموديا، وفق منطق الجاذبية. لا جاذبية بعد في لبنان. كل الاتجاهات ضد جاذبية الدولة. لا يُتوقع أن يخرج دخان أبيض، من أي «فاتيكان» طائفي أو مذهبي، ليعلن اسم «البابا» الجديد. لذلك، وبانتظار أن تمُنّ القيادات السياسية المذهبية على اللبنانيين، ببشارة قانون انتخابي، على قد الأحوال الطائفية، فلننصرف إلى اقتراح «اللقاء الأرثوذكسي» ذي الصراط الطائفي المستقيم، والذي لا تأتيه لوثة وطنية من أي جهة من جهاته.
إنما، وقبل ذلك، لا بد من نبرة تحمل عبء التفلسف قليلا، لوضع الأمور السياسية، في نصابها المفهومي. في التفلسف السائد ما يلي: إن المجتمعات البدائية، هي مجتمعات دون دولة… والمجتمعات البدائية ينقصها شيء ما، هو الدولة. مجتمعات دون دولة، هي مجتمعات غير تامة التكوين. جماعاتها لا تجتمع، بل تصطدم. تتجاور ولا تتفاعل، فالدولة هي قدر كل مجتمع، ولكنه ليس قدر اللبنانيين، والذين يتحدثون عن الدولة في لبنان، مصابون في عقر أخلاقهم. انهم يكذبون.
يقول رينال: «إن كل الشعوب المتمدنة، كانت سابقاً همجية». لبنان، تمدّن كثيراً في الاشكال، لكنه ظل أسير الهمجية الطائفية في السياسة ومشتقاتها. لدينا احتباس وطني. لدينا عجز مزمن. لا إمكانية للإقلاع من حال الجمود. بهذا المعنى يعيش اللبنانيون، دونية سياسية، لتفوق الطائفية فيه، على ما عداها من انتماءات وقضايا وحقوق.
يقع اقتراح القانون الأرثوذكسي في هذه المرتبة. يتفوق على القوانين السابقة والاقتراحات المتداولة، انه الأكثر صفاء والأكثر جدارة بما يطلق عليه التمثيل الطائفي.
يحظى هذا الاقتراح بمشروعية طائفية تامة، ولا ينال في قياس الوطنية، إلا علامة صفر صافٍ ونقي، بلا أي التباس. إذ، لا وطنية في الطائفية. «الوطنية الطائفية» كذبة منحطة، شبيهة بما ابتدعه الماركسيون، «بالطائفة الطبقة».
شرعية المشروع الأرثوذكسي، متأتية من واقع «السطو» التي يتعرض له التمثيل المسيحي. فأكثر من نصف النواب المسيحيين «يسطو» عليهم السنة والدروز والشيعة. لا سطو تعانيه الطوائف الإسلامية. انها مكتملة النصاب. تمثيلها مغلق، تشوبه احيانا نتوءات عابرة، لا تزيد ولا تنقص… النصاب المسيحي ناقص من جهة، ومشلّع من جهة أخرى.
مر زمن كانت فيه المارونية السياسية تسطو على التمثيل الشيعي والتمثيل السني، وتسيّر دفة اللوائح، وفق غايات السلطة التي جسدتها المارونية السياسية. هذا زمن ولى ولن يعود. إنما، لا بد من استنتاج: لا عدالة طائفية البتة. السطو قانون لبناني. الغش الطائفي، ينخر التمثيل الطائفي. (لا وطنية في ما جرى ويجري). ثم ان لعنة الديموغرافيا أصابت المسيحيين بالجدب ونفحت الآخرين الخصب. وهذه هبة لا أحد قادرا على ردها أو رفضها. المسيحيون يناصفون، ولا يملكون قدرة ملء النصف الخاص بهم.
المشروع الأرثوذكسي، لم يهبط من السماء. هو وليد شرعي لاستفحال الطائفية، وتفوق الظلم الطائفي، الذي تستشعره «الأقليات». دكتاتورية الأكثريات الطائفية، أوصلت لبنان إلى الحائط. ولا عورة في هذا النظام طائفيا. فجهابذة النظام والمدافعون عنه، من كتاب ومفكرين وحقوقيين وخبراء، يعرفون لبنان بأنه طائفي. يستعيرون أحيانا مفردات حديثة للهروب من القذارة التي تصحب صفة الطائفية. إذا كان لبنان طائفيا، فلماذا هذا التمثيل الملتوي للطوائف، عبر خلط غير منسجم في لوائح، الغلبة فيها لطائفة الأكثرية على طوائف الأقليات… لبنان انتخابيا، موزع بين لوائح بقيادات سنية أو شيعية أو درزية أو نصف مسيحية. التوابع في اللائحة، ليسوا على دين مذاهبهم، بل على دين أسياد لوائحهم.
كذبة كبرى ان يعزى إلى قانون الستين، انه سبب في حروب لبنان الطائفية. القانون الانتخابي في عهد الرئيس كميل شمعون، لم يكن يشبه قانون الستين، قوانين ما بعد الطائف، عمليات اكروباتية طائفية، لاسترضاء زعماء الطوائف وإلحاقهم «بالفضل السوري».
لا تملك القوانين اللبنانية للانتخابات معجزة القفز فوق طامة الطائفية الكبرى. ليست هي المرض، بل هي تعبير عنه. وليست هي العلاج، لأن «الوحدة الوطنية» المرغوبة والمأمولة، شفوياً على الأقل، ليست من اختصاص قوانين الانتخاب. ثم ان أي قانون سابق، او يتداول به راهنا، تمكّن من توحيد اللبنانيين.
قوانين الانتخاب في لبنان، لا علاقة لها بكل الشعارات الوطنية، هي آلية لتوزيع المقاعد الطائفية، محاصصة على الجميع. هي ثوب على قياس المجتمع اللبناني. قوانين التلاقح الطائفي، تنتج هجائن طائفية، هي مزيج من الكذب المتبادل والرخص المفضوح، بين طائفتين. طائفة مع طائفة، يساوي طائفتين، لا طائفة وطنية.
يشكو أهل البيت المسيحي من الظلم التمثيلي. يريدون استعادة نصاب حضورهم، بلا منة من أحد. بهذا، كما يقولون، انتصب العدل الطائفي، فلا يفوز مسيحي بأصوات سنية يدين لها او شيعية يتبع خطاها بشفاهه ومصالحه لا بقلبه. إنما، ما رأي المسيحيين، في ظلمهم لبعضهم البعض. ففيما يصوت الماروني لأكثر من 24 نائبا، فإن الكاثوليكي سيصوت فقط لثمانية، أما الأرمن والأرثوذكس والأرمن الكاثوليك والسريان، فلن يكون نصيب كل واحد منهم اكثر من خمسة. أي ظلم ان يكون من حق الماروني ان يحظى السني والشيعي بنسبة تمثيل تصل إلى حدود أربعة وعشرين نائبا، فيما الآخرون، دون العشرة.
في السابق، كانت الشكوى قائمة على فقدان مبدأ المساواة بين اللبنانيين، التي نص عليها الدستور. الآن، ما رأي جهابذة القانون، أمام هذا الظلم الطائفي؟
فليقلع فلاسفة النفاق الطائفي عن الكلام على الوحدة الوطنية، ومخاطر الانقسام المذهبي. البلد مقسوم، ليس بسبب القوانين الانتخابية. لذلك، لا بد من مشعوذ سياسي يخترع للبنانيين، قانونا يتناسب وبربريتهم الطائفية. والمشعوذون ليسوا قلة بيننا.
وليقلع اليساريون والعلمانيون عن طلب النسبية والدائرة الواحدة. هؤلاء، عليهم ان يهتدوا إلى الدستور الذي رسم خريطة طريق للانتقال من البربرية الطائفية إلى الدولة المدنية، من دون افتئات على الطوائف أبداً. في الدستور نص يهرب منه الجميع: «إقرار قانون انتخابي، خارج القيد الطائفي، إنشاء مجلس شيوخ للعائلات الروحية، وإنشاء هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية».
الهدايا التي وزعت بمناسبتي الميلاد ورأس السنة كانت مسلية وممتعة ومفرحة. تميزت واحدة من بينها، قدمها الرئيس حسين الحسيني بالمناسبة. أفضل هدية تلقيتها كانت منه، نسخة عن الدستور اللبناني… فشكراً يا دولة الرئيس. هذا هو «الكتاب» الذي رذله البناؤون.
*نشر في “السفير” بتاريخ 14/1/2013