يزدهر الكذب في لبنان. يتنامى. ينتشر. يترسخ. حقائق الكذب اقوى من الحقائق الصادقة. الكذب دين لبناني بفقه سياسي ملائم. خطابنا المتعدد والمتناقض مفزع. مفتوح على المنازلة الكلامية والسياسية. لدى اللبنانيين قدرة الاختراع لمعتقدات جديدة ورخيصة. كأنه، مسموح في السياسة، ان تكذب، ثم تكذب، وتبقى تكذب، حتى يصدق الكذبة كذبتهم.
راجت منذ شهور مقولة السيادة. بات مطلب السيادة اولاً. المعركة الانتخابية بين “سياديين” و”لا سياديين”. صدَّق الشارع ذلك. الشاشات رطنت بالسيادة. القوى الجديدة، ركبت موجة السيادة. بالفعل، وكنتيجة لاكتساح مطلب السيادة الساحة السياسية والساحات الطائفية. تبين لنا، ان وجود الاغبياء والكذَبة، أمر ضروري “للمجتمع” اللبناني. ولأن الإنسان عندنا، هو في مرتبة التابع، وليس في مقام الصانع، حُمِّلت السيادة وفقدانها مسؤولية انهيار الدولة، وافلاس الدولة.. حتى باتت السيادة عقيدة فريق وازن، يصر على ان شفاء لبنان، يكون باستعادة سيادته.
بالغ “السياديون” في زرع هذا المعتقد الحقوقي في اذهان العامة والخاصة. صرنا نسمع “حكماء” و”قانونيين”، و”مفكرين”، و”احزابا”، و”اعلاميين” و.. حتى بلغ السيلُ الزبى. أي، نستعيد السيادة، ويشفى لبنان. وازداد الانقسام اللبناني اصطفافاً وصراخاً: أعيدوا الينا السيادة. ولم يكن مستغرباً أن يكون مطلب السيادة، هدفه مستحيل: اخراج المقاومة من لبنان.
رفع شعار السيادة، يعني التغطية على كل ارتكابات النظام السياسي. كي تكون لبنانيا، عليك الإنتماء إلى منظومة المرتكبين. لا اعرف كيف ينتشر الغباء على جموع متعلمة ومثقفة وراقية، ولكنها، عندما ترى الى لبنان، تقرأ بالمقلوب. برفع شعار السيادة، تتراجع مسؤولية الطبقات التي حكمت لبنان منذ نشأته.. يروى ان الرئيس فؤاد شهاب كان جدياً جداً في مكافحة الفساد، وتعميم التنمية. صح. ولكن اجهزته الامنية كانت كفيلة بتنظيم وسائل السرقة، تأميناً لمبدأ “الاثراء المشروع”. السيادة تغطي جريمة المصارف. تحمي حاكم مصرف لبنان، تعفو عن قضاء قضى على نفسه، مقابل إثراء غير شرعي. قلة قليلة من القضاء، يُقال عنها شريفة. ولكننا لم نسمع صوتها. الصمت زينة القضاة. قلعة مقفلة على العدالة، ومفتوحة من فوق ومن كل جانب، لكل القوى السياسية – أعجب لقاضٍ ان يكون مستقلا، طالما أنه يتشفعن على زنود المافيات السياسية. بالمناسبة، لبنان، ليس بلداً سياسياً. انه مشتق من قصة علي بابا والاربعين ألف حرامي وأكثر.
الغريب ايضاً. انضمام “منظومة” التغييرين الى رفع شعار السيادة.
رجاء. نحن لا ننتمي الى فئة الغشمنة. اننا نعرف قراءة مبدأ السيادة. السيادة باعتراف القانون، هي شعب ودولة.
هل عندنا شعب؟ لا. عندنا شعوب تنتمي، لهوية انسانية وسياسية، الى مناهل دينية ومذهبية، ترضع من اثداء غربية وعربية، حليبها فاسد ومفسد. ليس عندنا شعب. لا وجود ماديا لجملة “الشعب اللبناني”. نحن شعوب في كل وادٍ قبلي، اميري، ديني، رأسمالي، الخ. تهيم في وجهها، ولا تخجل ابداً من اعلان انتمائها، الى دول، بعضها في الجوار الجغرافي، وبعضها يبيض بيضة من السلال الغربية.
اسارع الى القول، ان لبنان، طوال تاريخه، ومنذ ولادته، لم يكن سيداً مستقلاً. ولا مرة كان سيداً، ابداً، ابداً، ابداً. كونه بلد طائفي ومركنتيلي، فهو منتشر الولاءات. مَنْ مِنَ الدول لم تطأ جيوشه ومصالحه ارض لبنان. ما يمكن تعداده، ان لبنان كان، فرنسيا بريطانيا، قبل ان يقتنع السنة بالقوة والاكراه والتقسيم الذي انجبه سايكس – بيكو، ويصبح لبنان مستقلا عن سوريا، مع ولاء ماروني الى غرب. بتعدد عواصمه، وولاء السني، الى سوريا. ثم تناوبت الولاءات، بعد جولات عنف وحروب اقليمية. “حروب اسرائيل”. انعكست على “الصيغة” اللبنانية الهشة. المسيحيون رفعوا شعار السيادة مقابل مسلمين رفعوا شعار التحرير. الاميركيون، دخلوا لبنان مع “مشروع ايزنهاور”. بواسطة “العبقري” شارل مالك وقبول الموارنة به. قرر لبنان ان يكون في حلف دولي اقليمي. (مع عراق نوري السعيد) في مواجهة القلعة السوفياتية.
في ما بعد، عرفنا فترات بعناوين اقليمية ودولية، وكان لبنان في كل مرة ينقسم عموديا، بين حلف وآخر. لبنان كان فرنسيا. ثم بريطانيا فرنسيا. ثم اميركيا. ثم ناصريا، ثم فلسطينيا، ثم سوريا، ثم سعودياً. ثم … لا يدعين أحد براءته من هذه السيرة السيئة.
وكي نسهل المسألة. أسأل اللبنانيين، من كان ينتخب رؤساء جمهورية لبنان. بريطانيا وراء تنصيب كميل شمعون. وبعد فتنة ال 58، اتفق ايزنهاور وجمال عبدالناصر، على فؤاد شهاب ومن بعده شارل حلو، وتأمين التغطية العربية العامة لاتفاق القاهرة. هل يظن أحد، ان اتفاق القاهرة لبناني. لبنان بصم، من دون ان يقرأ، على اتفاق القاهرة، في عز ارتفاع نبرة التحرير وسلاح المقاومة الفلسطينية.
ابو عمار حكم نصف لبنان. كان مرجعية لبنانية… أين السيادة طوال 15 عاماً من الدم المسفوك، شاركت فيه المقاومة الفلسطينية، وفصائلها العديدة، والقوى المسيحية، كتائب واحرار ومردة (في البدايات).
حصل ذلك في زمن استدعاء الجيش السوري لوقف الانتشار الفلسطيني المسلح. ثم حصل الانقلاب على الجيش السوري، فانحاز الى الفريق الذي كان قد تلقى من السوري ضربات موجعة، جعلته يتراجع. ألم يكن لبنان دمية. اليس هناك “سيادة؟” ثم اكتمل “النقل بالزعرور”. تم استدعاء العدو الاسرائيلي. اجتاح الجنوب ووصل إلى بيروت والجبل ونصف البقاع، وصارت اسرائيل شريكاً مضارباً للقوى العربية، وأمنت وصول بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية، في مناخ من الضغط والتهديد لنواب متذبذبين. ثم اجتاحت بيروت الغربية، وارتكبت أفظع جريمة على الارض اللبنانية، في مخيمي صبرا وشاتيلا.
من نحن؟ نحن اولاد الجرائم المتبادلة. اين السيادة؟ طلب من الجيش السوري ان يقتحم وزارة الدفاع. انسحب الجنرال ميشال عون، وخسر رهانه على “لبنان سيد حر ومستقل”.. ما هذه الكذبة.
منْ مِن رؤساء لبنان، جاء بقرار لبناني؟
رينيه معوض اغتيل بعد ايام من انتخابه. سوريا رشحت ودعمت الياس الهراوي. (آخر من يفكر فيه اللبنانيون). ثم اختارت خلفا له، الرئيس اميل لحود. ثم انفخت الدف وتفرق العشاق. وصار اللبنانيون، بلا وصاية شاملة. فلكل حزب وطائفة وصاية تخصه فتوزع لبنان الى شرائح. تعطل الدستور. تعطلت الفذلكات السياسية. وبدأ لبنان معطوبا. غير قادر ان يحكم نفسه بنفسه.
حاليا، لا بد من اتفاق اميركا والسعودية وإيران. ” فانتظروا يا لبنانيين”.
هذا الكيان، مخلوق، ليكون ناقصاً. من الصعب جداً، أو من رابع المستحيلات، أن يكون دولة ووطناً وشعباً واحداً. نحن شعوب متباغضة، متطاعنة، ومتقاتلة، وتعوَل دائماً على الخارج.
لو كان لبنان سيادياً عن جد، منذ بدايته، لكنا كلنا لبنانيين، ولكانت “المقاومة” الراهنة، جزءاً من دعامة الدولة… في السياسة يتم ابرام الطوباويات. هذا هو لبنان من زمان. لا يعيش من دون ان تنام طوائفه في المخادع الواعدة بإنجاب دعم يصطدم بدعم آخر. وإذا، احترسنا كثيراً، لا يمكننا أن نقول، ان لبنان سيد ومستقل، بل، انه موزع، كما كان، على قوى اقليمية ودولية في حالة عداء.
لبنان ليس جزيرة. شعوبه منخرطة كليا، إما في التحرير، وإما في التأييد العلني والمبرم، لأشقاء عرب، باتوا يصلون سياسياً في “اسرائيل”. هل يعني ذلك ان في لبنان، قوى تستعجل الالتحاق بالتطبيع والتحالف؟ من ينكر ذلك، يكذب.
أخيراً. ان السيادة، كشفت لدى الفريق السيادي. فكرة المحاسبة التي كانت تصدح في المظاهرات، ثم، باتت مفردة التسوية، عقيدة، فوق كل العقائد.
هذا هو لبنان. لا سيادة. لا استقلال.. ولا مستقبل.