في وداع الثقافة والمثقفين

في البداية، أكتب الخاتمة: السلطة تكره الفكر وتطارده. السلطة تخشى المثقف وتنفيه. نجحت القوى الظلامية والعسكرية في وأد الحرية، وفازت في تحويل ناسها الى نعاج، وتفوَّقت في إنجاب متفوقين في انتاج انسان مطيع، يأكل ويشرب وينام. إنسان بأفق ثقافي هو الآتي: المستقبل غداً يصنعه العبيد. الأحرار والحرية مجرد طوباوية ومثالية. القطيع يُدرك أن الحرية مرتعها وخيم.
بعد هذه الخاتمة أولاً، لنتفحص واقعنا العربي، بلداً بلداً، نظاماً نظاماً. من المحيط إلى المحيط. التفكير ممنوعٌ. محرَّمٌ. في الصمت نجاةٌ. غابت الثقافة. الثقافة تفكير ونقد وتطلع واختراق وخروج على السائد، ومجازفة إلى حد الابداع. العربي راهناً، يجيد الاحتذاء. يطيع غرباً في ذروة سعاره الرأسمالي، ويصطف معه في الخطوط الخلفية، ويُقلّده في “سيرك” سياسي خاص، لا يشبه أبداً مؤسسات الغرب. الغرب يُريدُ العرب اتباعاً. نجح في وضع خارطة طريق، سياسو-اقتصادية، وتطوَّع عرب المال، وعرب العسكريتاريا، وعرب التدين الزائف، في ابتداع سياسة تجميل البشاعات.
أهم منجزات الحقبة السديمية العربية، أنها قتلت المستقبل الذي يحتضن شعوباً، حكمت بالإخضاع وإنجاب جيل، بعد جيل، من أبناء الإهانات. إنجاب ضحايا القنص الديني والمذهبي. أجيال عربية، تخرّجت من مدارس ترفع شعاراً إلزامياً: “قل نعم، وانعدم كإنسان. قل نعم، ولا تسأل ابداً. اللا ممنوعة. صدَّق الكذب واكفر بالصدق. كن عنيداً في طاعتك. لا تسأل عن العدالة والحرية. إياك أن تبدو على سحنتك إشارات رفض. استسلم. هذه أفضل الوسائل للبقاء والنجاح. ادع أنك منتصر. كن خروفا يجيد الثغاء”.
أليس العالم العربي، موحداً، يقول نعم وينجو؟
إلا أن الرفض فشل. كان رفضاً من حركات دينية، اشد ظلامية من أقبية أنظمة مرتهنة. “من تحت الدلفي لتحت المزراب”. وعليه، لا حقيقة تُقال. يُنظر الى الانسان كعامل وصانع ومنتج في مشروع يدُر أموالاً، مع فروقات طبقية عاتية. عدد العمال هو أضعاف مئوية، في دول الرفاه النفطي. ولا تحظى بأدنى من الكفاف. ولا يحق لها أن تئن. ولا يجرؤ المظلومون والمستغَلون على الاعتراض، أو التلويح به.
أما في دول العسكريتاريا، فلا شبيه لنظام عقوباتها المزاجية. كل من يقول لا، ويفكر، ويكتب، وينتقد، فنهايته ستكون في أقبية التعذيب. والسجين، متهم، بخيانة جسيمة، لأنه يفكر بصوت عالٍ. من أراد ان يفكر في أنظمة الاستبداد، ليس عليه إلا أن يقلد “الجنس في الخفاء”.
فلا مستقبل غداً، أو بعد غد. ومن الأدلة على ذلك أن هذه الخريطة العربية، فصيحة جداً في ما تقوله وتفعله. العالم العربي، هو أخصب الأمكنة لممارسة الحروب الخاسرة والفادحة. دلونا على بلد عربي واحد، لم يتعرض، أو يعرض نفسه، لسفك دماء شعوب، إضافة إلى شعبه. هل بإمكانكم أن تتذكروا حروب العرب الخاسرة، التي خرجوا منها، يرفعون شارة النصر. يا للعار. أعيدوا قراءة الأدبيات السياسية لقيادات نكسة حزيران. وهي ليست نكسة ابداً. كانت فاجعة وخسارة ماحقة. جيش إسرائيلي، يمحق بأيام، بل بساعات، ثلاثة جيوش عربية. ومع ذلك، يا جبل ما يهزك ريح. ازدادت قبضة الأمن على أناس يسألون. غير أن التفكير جريمة والثقافة ممنوعة.
لماذا خسرنا؟ من المسؤول؟ الأنظمة قررت أن تنتقم من الشعب. يا للعار.
ولا بد في هذا السياق، من استعادة الحروب بين “الاخوة الأعداء”، وبين أبناء الحزب الواحد أيضاً، بعد الانشقاقات، وبين الجيران الحميمين بالأحقاد، (المغرب والجزائر)، وبين الأشقاء الحزبيين (سوريا والعراق) وانتظام الحزبين اللدودين في معركة دمّرت المنطقة، لصالح الغرب وإسرائيل.
ولا بد من تذكر حروب اليمن، من الخارج والداخل، وتطاحن الاخوة الماركسيين في الاغتيالات والانقلابات. على ان لا ننسى اليمن، الذي عرف عبر سنوات وعقود، حروبه وحروب الآخرين عليه، حتى الأمس القريب.
أما ما حصل في لبنان، فهو مدرسة تحتذى في ممارسة العنف الأهلي. رقم قياسي زمني: 15 عاماً. رقم قياسي في عدد القتلى والمخطوفين والمهجرين.. والحبل على الجرار سلمياً. أما سوريا، فقد نُحرت بعدما انتحرت سياسياً. العراق راهنا يستعيد حربه. الأكراد نجوا مؤقتاً. السودان، تمرّن مراراً على العنف والإنقسام والإنشقاق..
يا إلهي. عالم عربي يُسكِره الدم. دينه القتل والفتك. سياسته القمع والاذلال و… التبعية المجزية. والمفجع أن مصداقية الحياة العادية على المحك.
يحدث كل ذلك وخطابنا السياسي المشترك، برغم اختلافاته، هو خطاب مفزع وفارغ ومعلوك. الخطاب الديني شنيع وخطير. نحن أسرى دوامة الظلامية السياسية المُبرمة. اياكم والحرية. لا تتجرأوا على النقد. فما نعيشه، باستثناء مرحلة تحرير الجنوب اللبناني، هو مرحلة نازية صامتة. والعرب مؤمنون بأنهم مغلوبون، من أنظمة غالبة. الصمت سياسة رابحة. التطنيش الشعبي، ضمانة للعيش.
أن تعيش، أفضل من أن تحيا معاقباً.
لماذا كل هذا القمع العربي؟
الخطر الخطير جداً على أنظمة القمع العربي، من المحيط إلى الخليج، هو في تحرر الإنسان من الحاجة ومن الخوف. لكن هذا التحرر، لن يكون غداً. إن غداً، يعدنا بمزيد من العنف والاكراه والمنع، في ظل تبني بهرج الحداثة، وعقد صفقات صداقة وتحالف، مع غرب ساحق ومنافق، يرفع كذباً وتدجيلاً، شعارات القيم والحقوق الإنسانية، وحقوق المرأة، وينساها، لقاء فائض استثماري، بلا نقاش.
الأنظمة العربية، كلها بلا استثناء، ترتعد من الحرية. تعتقل العقول. تمسخ الحقوق. تُقدّس الفساد والإفساد. تحتل الشاشات بكذب فائق الفجور، وانحيازات فائقة السخف. أنظمة تخشى وترتعد من الحرية والأحرار، وتسوّق التبعية “الجميلة”. هذا الخيار السلطوي، تنافسه ظلامية دينية، تمنع اساساً، فسحة للتفكير، وتنشئ معسكرات دينية وفقهية، وتوظف الله قائداً للمعارك قولاً وفعلاً وقتلاً.
إنه لأمر مؤلم ومحبط، أن نعيش قرناً من التقهقر. قرناً من إعدام الاحلام الطبيعية: دولة بنظام ديموقراطي، وعدالة اجتماعية، ومساءلة سياسية واقتصادية، وثقافة متحررة من قيود سلفية، وجيوش لا تتعاطى السياسة البتة.
كل هذا، كان صعباً جداً. اليوم وغداً وبعيداً جداً، لن يحصل إلا العكس. سنختنق. المرتكبون ثلاثة: غرب استكباري، انتهازي، “شلمسطي”. ثم عسكرة بدائية خائفة ومخيفة، وقتل الحرية، بأمن استباحي… دين الدكتاتوريات والأنظمة الدينية والملكية، بحاجة ماسة الى المزيد من الانتشار الأمني، والتوحش المنظم، والدعاية المطمئنة الى خضوع الغلابى.
مئة سنة مرت، تم فيها اغتيال الفكر والثقافة. عصر النهضة كان واعداً. مصر احتضنت الحداثة وعرّبتها. سوريا ساهمت وتجرأت. لبنان كان رائداً. نقطة انطلاق فكره كانت من مصر. كانت الثقافة زمنذاك واعدة. ثم، بدأ الإملاء الديني السلفي والقمع العسكري. كانت البلاد العربية، بعد “انسحاب الاستعمار”، تحتضن النهضة، إلى أن ورثها طرفان نقيضان: عسكر واخوان مسلمون. ومنذ ذلك الزمن، بدأ العد التراجعي للثقافة. لا فكر مع العسكر.. لا ثقافة مع الدين.
نجا لبنان، في بعض الفترات الرخوة سياسياً. كانت الثقافة جسراً. يمتد من المغرب إلى اليمن. مروراً بالجزائر وتونس وليبيا ولبنان ومصر ومعظم البلاد غير النفطية. كان الكتاب عندما يطبع في بيروت يعرض في كل عواصم “الانفتاح ” العربي. نعم. كان لدينا محيطاً ثقافياً ناشطاً. الأسماء بالآلاف، حتى لبنان الصغير، كان مطبعة العرب. منارة ثقافية صافية. أحد وجوهها، “الندوة اللبنانية”. رائدها ميشال الأسمر. ضيوفها، مفكرون ومثقفون وشعراء من المشرق إلى المغرب.
لبنان، كان مدرسة ولم يكن ترجماناً لغرب أو انعكاساً لطائفة أو مذهب. الحرية الفكرية في لبنان، كانت رحبة جداً. ومن ضاقت به سبل الكلمة بسبب القمع، وجد في لبنان ملجأ للإبداع.
هذا زمن مضى. لبنان انتحر ونحر الثقافة كذلك.
ثم.. اندلعت حرب الميليشيات. عنف الطوائف، وتم اغتيال التجربة الثقافية الإبداعية التحررية اللبنانية.. ومن يومها، بدأ لبنان يحتضن موته.
لبنان اليوم بلا مثقفيه ومفكريه.
البديل هزيل ومعيب. شاشات تصنع رأياً عاماً تافهاً يُدار بالريموت كونترول. غابت العقلانية، حضر الماضي بثقله وأعبائه.
وعليه، لا حياة لمن تنادي.