ابن خلدون على حق: الدول تموت.
لسنا شواذاً على القاعدة. مئة عام من عمر العرب ودولهم، توشك أن تنتهي، صفر اليدين. بدايات ملتبسة ونهايات بائسة.
أنعم الغرب على العرب بدول هجينة وهزيلة. دول، ليست دولاً. اشبه بممتلكات شخصية أو عائلية. للموارنة كيان يدعى لبنان الحق به السنة بعدما تَمَرْونوا والشيعة بعدما فات الآوان. دولة لبنان الكبير أعطيت لكيانات طائفية أصغر منه. هو دولة محتلة، الاردن لعائلة الهاشميين. السعودية لبني سعود، امارات الخليج المتصالح لأرومات وعائلات مزمنة. ليبيا للسنوسية، حاولوا توزيع سوريا على الدروز والعلويين والسنة. فشلوا. لكن، من يدري كيف تكون سوريا غداً وما بعده بكثير. العراق لهاشمي انقلب عليه ابناؤه حتى وقع تحت الاحتلال الاميركي، وتشظى كيانات طائفية وعرقية.
ويسأل عن العروبة. لا جواب. احزاب العروبة أفلست. قادة العروبة اخذهم النسيان ومحا أثرهم. استنزف العرب العروبة وانفقوها على السلطات الدكتاتورية. فقد العرب عمرهم وما عادوا عرباً البتة.
ابن خلدون على حق: الدول تموت.
الناظر إلى الخريطة السياسية المندلقة من المحيط إلى الخليج، لا يرى عرباً، بل يرى بسرعة أن العرب قد اختفوا، لصالح تحالفين مديدين: تحالف سني بقضايا لا عروبية. ينافسه تحالف شيعي بقيادة ايرانية. حلفان يشطران “الامة” إلى فسطاطين لا يلتقيان إلا في ميادين القتال: في اليمن، في العراق، في وسوريا، في لبنان. لم يبق من العرب الا جامعة عربية مهلهلة، لا تنفع ولا تضر، وجودها وعدمه سيان.
على من يملك مخيلة سياسية أن يجيب عن السؤال التالي: اين العرب غداً؟
الجواب البديهي، أن العرب ما كانوا في الماضي عرباً. نادرة السنوات التي ازدهر فيها الخطاب العروبي، ونادرة المعارك التي فازت فيها العروبة. خسرت العروبة فلسطين. وخسرت العروبة السلطة بعد استبدادها في ممارسة الحكم. خانت الانظمة العروبية عروبتها عندما اصطدمت القطرية بالقطرية، وعندما تنافست على القيادة، وعندما حكمت شعوبها العربية بأعقاب البنادق وأعقاب الاحذية.
العرب انتهوا. فاز عليهم الاسلام السياسي بوجهيه: السني والشيعي. لم تعد الخريطة تحمل اسماً عربياً. يصح أن يبدأ المشهد برواية مطلعها: “كان يا ما كان… ثم لم يعد أحد من بعد”.
على من يملك مخيلة سياسية أن يجيب عن السؤال الثاني: أي خريطة للمنطقة بعد عشرين عاماً؟
الجواب البديهي، كما تكونون يولَّى عليكم. صرنا شعوباً لا شعباً. والشعب صار يتألف من مكوِّنات. والمكونات تتألف من مذاهب وطوائف وأديان وعناصر وعشائر غير مستقلة، مرتبطة بمرجعيات غير عربية ابداً: تركيا لها حصة، إيران لها حصص، روسيا لها حصة، اميركا لها حصص، واسرائيل لها الحصة النهائية، “اسرائيل من البحر إلى النهر”.
من مخازينا الطاعنة، أن التراجع يتم بسرعة مذهلة. الحروب الكبرى اندلعت في المنطقة والرابح فيها اسرائيل، من دون أن تشارك في الحروب، الا بالدعم. حروب العرب ضد العرب، انجبت جيوباً لكل الدولة الخارجية. الارتهان للخارج عقيدة سياسية للمقيمين في البلاد المسماة عربية.
لا يمكن تصور خريطة أمة بعد عشرين عاماً. لا يمكن التيقن من وجود دول معافاة. لا يمكن اكتشاف بلاد تملك ثرواتها، التي تُدفع جزية للأميركي. لا يمكن توقع ديموقراطيات وحريات وإعلام حر وتنمية مستدامة. لا يمكن اختراع دول تساند ما تبقى من فلسطين والفلسطينيين… نحن، باختصار، موجودون غيابياً فقط. لا يعنينا سوى أن نسأل أنفسنا: لماذا تمسحنا إلى هذه الدرجة؟ لماذا اعتدنا على المذلة وتغلب الظلم؟ لماذا وافقنا على استبدال هويتنا العربية الجميلة، بهويات تافهة وسخيفة ومنحطة ومتخلفة.
لقد فضحتنا ادياننا. أن الدين مرتعه وخيم… في السياسة. وعليه، فإن ابن خلدون على حق: الدولة تموت. ونحن، نشاهد تشييع دولنا بشماتة وانتحارية فجة.
ما أفدح هذا الفراغ العربي!
…”وبئس المصير”.