ما زلت أنتظر، كل مساء، الصوت العميق الآتي من البعيد: ايه.. كيفك؟ شو الأخبار عندك؟
أردُ ضاحكاً: أنت تعرف أن لا شيء يسرّ عندنا. الأخبار عندك!
ويندفع كلوفيس مقصود الأممي الذي لم يغادر لبنان قط، برغم ابتعاده لنصف قرن أو يزيد، يسرد عليّ تفاصيل المعركة الرئاسية، مع فاصل عن رفع العلم الفلسطيني على سارية أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، ثم يعود إلى تفاصيل معركة البلدية في الشويفات وانتخاب المختارين في وادي شحرور، قبل أن يخلص إلى سؤالي عن تطورات الوضع في سوريا، بغير أن ينسى إبداء رأيه في أوضاع مصر ومسيرة الحرب ضد داعش في العراق… ويختم سائلاً: هل ستحتفلون بالذكرى الأولى لغياب منح بيك؟
قبل أن أجيب يستدرك الدكتور: الأستاذ هيكل مريض.. هل زرته، هذا أكبر شاهد على عصرنا؟ أتذكّر يوم أخذتك إليه وشنع على مقالاتي؟ هل التقيت وليد جنبلاط مؤخراً.. ما رأيه؟ قبل أن أنسى: هل قرأت مقالي الأخير.. لقد كتبته وأنا مستلقٍ على ظهري! ستقول إنني كتبته بقدمي المكسورة! أعرف أنك مُحبّ.
أغتنم لحظة الصمت فأهمّ بالكلام، لكنه يستأنف أسئلته: ماذا تفعل السعودية في اليمن؟ في آخر لقاء مع علي عبدالله صالح قدّم لي حزمة من القات، فضحكت، وقلت له: أتريد أن تخدّرني لأصدّقك؟؟
]]]
ولقد أخذنا حب الحياة الذي كان يبثه فينا كلوفيس مقصود إلى الافتراض أنه أقوى من الموت.. لأن فكره ظل نيراً حتى النفس الأخير، وظلّ قلمه الطليق من القيود يكتب ويكتب في مختلف المواضيع: لفلسطين والعروبة، للبنان الوطن خارج القيد الطائفي، للعالم كما رآه ذات يوم من قصر كمال جنبلاط في المختارة إلى بيت جواهر لال نهرو في نيودلهي أو من مكتب جمال عبد الناصر في منشية البكري بالقاهرة أو من جزيرة بريوني في يوغوسلافيا التي ابتدعها جوزيب بروز تيتو عاصمة جميلة لعدم الانحياز وانتهت معه، أو من نيويورك التي افتتحها باسم الجامعة العربية بعنوان فلسطين.
على امتداد ستين سنة وأكثر كان كلوفيس مقصود الداعية والمبشر والعامل من أجل أمة عربية واحدة موحّدة، من أجل إنسان عربي يكون في أرضه الحرة بكرامته، يصنع غدَه بكفاءته.
لقد تجاوز كلوفيس مقصود الموت مؤتمناً نفسه على تراث الكبار الذين عرفهم، فألفوا مناقشاته التي تشبه المحاكمات الضاحكة حتى لا تُحرج من خرج على مبادئه أو على ناسه… ولهذا عرف الأمة جميعاً، مشرقاً ومغرباً وبين بين، كما عرف العالم بالشيوعية وبعدها، بالاشتراكية بنسخها العديدة التي أضاف إليها نسخته، وبالرأسمالية قبل أن تنتصر في الكون جميعاً وبعد انتصارها علينا وعليه.
يكاد كلوفيس مقصود أن يكون العربي الأممي الذي يعرفه الكون كله محاضراً، كاتباً وباحثاً، ومَن لا تقنعه الحجة والبرهان العلمي يفحمه بالنكتة القاضية.
كان العربي الكامل، عقل العرب قبل لسانهم، الفلسطيني في واشنطن، المصري في لبنان، اللبناني في مصر، الجزائري في باريس، والعربي في نيويورك، كما في كل عواصم الدنيا، والأممي في أوقات الفراغ.
لم أعرف في حياتي المهنية بامتداد خمسين سنة رجلاً أكثر منه متابعة، محاوراً إلى حد الجدل، جاهز الدليل من التاريخ حتى خيّبت أمله الوقائع اليومية وسقطات الملوك والرؤساء، لا سيما في المواجهة مع العدو الإسرائيلي.
ومع أن كلوفيس مقصود قد عاش معظم عمره خارج لبنان إلا انه ظل رفيقاً لرفيق عمره منح الصلح وشريك طرائف البيك في المنتدى القومي، مطعم فيصل، الذي كان يطعم رواده فكراً وظرفاً قبل الأكل وبعده، وضرب اليتم الجميع بعدما أقفلت أبوابه أمام الجامعة والثقافة والظرف والنكتة الصاعقة والأحزاب القومية المشاكسة في ما بينها كما مع اليسار.
ولقد تكامل كلوفيس مقصود، فكراً وعملاً، مع المجاهِدة التي لا يطويها النسيان هالة سلام التي واجهت الإسرائيليين، في معقل نفوذهم، واشنطن، بشجاعة قصر عنها الرجال، باسم فلسطين التي تبقى مشعة في وجداننا عنواناً لقضيتنا المقدسة.
وكان هذا الثنائي نموذجاً مشرقاً في النضال من أجل القضايا المحقة.. ولقد جاهدا فانتصرا على الإهمال والقصور والتقصير، وعوّضا غياب السفارات وانشغال الرؤساء والملوك والوزراء خلال لقاءاتهم الرسمية مع المسؤولين الأميركيين بحماية عروشهم ولو على حساب القضية المقدسة.
لا أظن أن أحداً منا يعرف رجلاً له من الأصدقاء والصديقات، عرباً وعجماً، أميركيين وأوروبيين، آسيويين وأفارقة، اوستراليين وصولاً إلى آخر اكتشافات الرحالة العرب، جزر القمر، مثل ما لكلوفيس من الصداقات.. أما المعارف فأمم متحدة.
إنه أمة في رجل، هذا الكاتب، الباحث، الخطيب المحاضر، المناقش حتى إفحام المجادل، بعد الوقائع بالنكتة القاضية.
إن جميعنا، هنا، نحفظ لكلوفيس مقصود، قبل مواقفه الوطنية ـ القومية ـ الإنسانية، وبعدها، صورة المثقف العربي الكوني، الكاتب، المحلل، الخطيب، المفوّه وباللغات الحية جميعاً.
صناجة العرب، الداعية والمحامي والقاضي، المتظاهر: أنه علم من أعلام المرحلة ـ شاهد على الهزيمة، رافض التسليم بها قدراً. مخترع الأمل حتى لا يقتلنا اليأس.
لذلك فهو باقٍ معنا.. وبعدنا
ولعله الآن يضحك منا، لأننا نفترض أنه قد خلانا ورحل!
ورحم معه أستاذ الجيل والصديق الكبير للمعرفة وطالبيها، طالما أننا هنا، في الظلال الوارفة لذكرى رجل القانون، باني الأجيال الذي لن ننساه الدكتور محمد مجذوب.
طلال سلمان
(]) الكلمة التي ألقاها الزميل طلال سلمان في الندوة التكريمية لتذكر الراحلين الكبيرين محمد المجذوب وكلوفيس مقصود في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب الـ 60»
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان