علينا أن نختار، إما نكون بشراً أو نعاجاً. لا مفاجأة أبداً. الأكثريات الأقلوية اختارت. تُقاد وتنقاد بحماسة. لا تشعر بمذلة. تباهي بإمحائها. رقبتها في مستوى النعال، “فقُدنا أيها القائد”. لبنان حظيرة سياسية لنعاج، دينهم الأوحد، طاعة أولياء السياسة. وهذا ليس جديداً أبداً. قيل، الناس على دين ملوكها، حتى لو كانوا أبالسة السياسة وشياطين المذاهب…
هذه حصتنا في التاريخ. علينا أن نمارس فقه الطاعة وإلا…
وعليه، لا بد من الكف عن المطالبة بحلول. أقصى الطموح اليوم، أن يعقدوا صفقة. أولها: “عفا الله عما مضى”، وآخرها: “تعالوا إلى نهب سواء”. لسنا وحدنا كذلك. التاريخ حافل بما يشبهنا اليوم وبما كناه بالأمس القريب والأمس السحيق.
لم تكتشف البشرية بعد، ومنذ أجيال، حلولاً معقولة لمسألة الأقليات. مشكلة مزمنة ومستدامة. نحن ورثتها. منذ البدء، كان الاجتماع الإنساني يتأسس حول سلالة أو قبيلة أو لغة أو أرومة أو دين أو طائفة أو مذهب أو عقيدة أو… قادة. لا يستثنى أحد من هذا المشهد. الإنسان يستحيل عليه أن يكون وحيداً. هو اجتماعي حتماً ودائماً. هو ليس بصيغة الفرد. هذا مستحيل ولا معقول. إنه بصيغة الإنتماء إلى “جماعة ما”. لا وجود خارج هذا الاجتماع إلا للطفار والصعاليك، ومعظمهم من الشعراء. وهؤلاء يبدعون جداً، ولا خوف عليهم، فهم في كل وادٍ يهيمون.
عرفت البشرية أنماطاً مختلفة من الدول وأنظمة الحكم. وإنما هناك أكثرية وأقليات، أو أقليات من دون أكثرية. الإمبراطوريات ضمت خليطاً من شعوب وثقافات وديانات ومذاهب وأعراق و… ولم تجد حلًّا للنزاعات. في تاريخنا، نماذج عن صراع الأقليات فيما بينها. أو عن تسلط الأكثريات على الأقليات. لا شواذ على القاعدة أبداً. الحروب الدينية تعبير وجودي. لم تنجح الديانات التي تعلي من شأن الإنسان وتقربه من الله، من ذبح وقتل وتشريد وتنكيل من يخالفها الرأي والاجتهاد والموقف.
لبنان، ليس وحده ينتمي إلى سلالة التجمعات الأقلوية المزمنة. قبله، حشود فائقة التعداد. المسيحية لم تكن إيماناً وحسب.كانت إيماناً تشتت اجتهاداً وأنجب جماعات نسميها، إما أقليات أو أكثريات. وهذه لم تكن مسالمة أبداً. حروبها تصل إلى درجة اللا معقول. لم نعرف، إلا في المسيحية، حرب المئة عام، في أوروبا أو في معظمها، بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين الكاثوليك والأورثوذكس. لا تسألوا عن أعداد القتلى. لا تتخيلوا أنماط التعذيب والحرق والفسخ والدفن حياً. مرعب جداً هذا المسلسل الذي دام قروناً. ولا يظنن أحد أن هذه انطفأت. فمن أدوات وأسباب وحجج الحرب الكونية، معالجة “مسألة الأقليات” في دول البلقان، وفي بولونيا، وفي صربيا، وفي أطراف روسيا، و… في السلطنة العثمانية، حيث كان التمييز الديني والمذهبي والأقوامي على حافة المفصلة. كم مريع الحل الذي ابتدعته السلطنة العثمانية بحق الأرمن. ثم بحق الأكراد، ثم لا ثم. أوروبا الكاذبة، حملت لواء “إنصاف الأقليات”، ولما فازت بالحرب، نكّلت وقسّمت واستتبعت الأقليات. الأقليات مادة مجزية في تقديم الأسباب للمعارك. عندما تقول أقليات، استعد دائماً للأسوأ. لا مجتمع سليماً إلا إذا اقتلعت المواطنة الولاءات القبلية الموروثة والمحروسة.
في تاريخنا العربي، مدرسة في تلقين الأقليات أمثولة الخوف، والسترة، والاستتباع، وإلا. بعد وفاة الرسول، وقبل أن يدفن، اندلعت معركة “الأقليات” في سقيفة بني ساعدة. أهل المدينة ضد الآخرين. والآخرون ضد علي وإلى آخره. والمؤسف، أن تلك الأحداث التأسيسية، لا تزال حية ترزق حتى اللحظة، والخلاف السني والشيعي، يشطر الخريطة العربية من المحيط إلى الخليج، وسيظل حيًّا يرزق، ويقتتل الناس فيما بينهم، ليس من أجل أهداف أبداً. بل التحاقاً بالأصل الديني والمذهبي. ولبنان ينال من ذلك التاريخ سجلاً حافلاً من التوجس والتخوف والتخلف.
فرنسا، حقوق الإنسان. فرنسا الحرية والأخاء والمساواة، كانت أرذل سياسة خارجية. كذلك بريطانيا التي غذّت في مستعمراتها الواسعة كل خلاف بين الأقليات. كذلك فعلت روسيا القيصرية. أما الأفظع، فهو الهولوكوست. لم يعانِ اليهود، كأقلية، في العالم العربي القديم، ما عانوه في أوروبا على مدى قرون. خاتمتها كانت على يدي هتلر. وحلها كان على حساب فلسطين. هولوكوست مستدام، منذ مئة عام. برعاية “أرقى الدول الديموقراطية وحفظة حقوق الإنسان”. لا نشتمهم ولا نظلمهم إذا أطلقنا عليهم: “يا أولاد العاهرة”، كل صبح ومساء. لقد حلوا مشكلة الأقليات اليهودية، بجريمة طرد الفلسطيني، كل فلسطيني من أرضه التي عرفته منذ آلاف الأعوام.
فرنسا “البهية والنموذج”، شاركت في الحرب الكونية، بعدما أبرمت اتفاقات ملزمة، بحصتها من الدول والجماعات التي ستستعمرها. ومن ضمنها لبنان.
وهنا، مربط المأساة. لبنان الطائفي ولد في القرن الثامن عشر، ثم نما في القرن التاسع عشر، برعاية دول اصطفت أقلياتها لتكون متكأً لسياساتها. فرنسا من حصة الموارنة. والسنة من حصة السلطنة. بريطانيا وجدت ضالتها بالدروز. رضع هؤلاء جميعاً حليب أمهاتهم الجديدة. لبنان ولد ليكون وطن الموارنة كأكثرية، ولا بأس أن تحتضن غصباً، أقليات مثلها، إنما دونها ولاء وعدواً. أقحم السنة فيه غصباً عنهم. كانوا مع وحدة سوريا. كانوا سنة وعرباً وبعيدين عن التحزب الماروني. السنة. لذلك لم يكونوا حزباً. ظلوا تياراً سنياً عروبياً، سورياً، إلخ. الدروز كانوا منهكين فالتزموا حدودهم كأقلية صغيرة. الشيعة لم يحسبوا لهم حساباً. كان السنة في دمشق ضد شيعة جبل عامل، باستثناء الملك فيصل.
باختصار هذا ملف كبير جداً. آمل أن تعطيني الأيام الباقية، فرصة البحث عن مشاكل الأقليات في معظم العصور ومفاصلها السياسية. وإلى أن تحين الفرصة، نختم بما يلي.
أولاً: لم تجد البشرية بعد حلاً أو حلولاً لمشكلة تعايش الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية والعنصرية إلخ. المشكلة قائمة في أعرق الديموقراطيات. فرنسا نموذجاً. إسبانيا كذلك. بريطانيا أيضاً وأيضاً. أميركا، اللهم أعطها الحكمة، لتعرف كيف تتنازل عن عنصريتها إزاء السود والمسلمين.
ثانياً: لبنان تم تركيب البازل الأقلوي. ليظل في حالة نزاع، لأن كل أقلية، لها انتماءات: الأول لأبناء ملتها، والثانية لحصتها في الكيان. لهذا نجد أن معظم الدول موجودة في لبنان، إلا لبنان، فهو غير موجود. والدليل، ما نحن عليه الآن: أو، دلونا على لبناننا جميعاً. لأن لكل ملة وأقلية لبنانها النقيض للبنان الآخرين.
ثالثاً: لا تطالبوا هذه الطغمة الفاشلة جداً، والمرتكبة للكبائر، بحل لمعضلة الكيان. لا حلول البتة. يكاد لبنان يموت قهراً ونحراً. وأهل الحل والربط، مشغولون بحصص الأقليات.
رابعاً: لبنان باقٍ. ولكن على صورة زعاماته للأقليات. ليس في لبنان شعب. حتى في “الثورة”، تبين أن “الثوار” في كل أقلية يهيمون.
خامساً: حبذا لو تنفع الصلوات. ولأنها لا تنفع أبداً، فلنصب عليهم اللعنات.
وعذراً من كل من تأذى من هذه الأقوال.