ما حدث كان يجب أن يحدث. إنما، ما قيل، كان يجب أن لا يقال فقط. الكلمات هي الممر الإلزامي للفهم والعمل. إذا تم استجواب العالم العربي برمته، منذ بدئه حتى اللحظة، لماذا حصل هذا الإنحدار، فإن الجواب الطبيعي، أن هذا الممر المظلم، لم يكن مضاء أبداً بالحرية. المسار كان معتماً جداً. الأصوات لم تكن منيرة أومنارة. كانت قمعية: افعل. فعل طاعة. لا تفعل: فعل منع. كانت الحقائق مهزومة مراراً. لهذا، بلغنا الهاوية، بعد مئة عام من القفز في عتمة الظلم وفعل الأمر وفقدان الهوية، وضياع الأوطان، وطغيان التخلف الديني والسياسي، والتدمير الاجتماعي.
إن محكمة متسامحة جداً، تحكم بضمير مرتاح، بقسوة مبررة، أن من تحكّم بنا، كان من أولى مهماته، تسييج الشعب وتدجينه وتغريبه عن واقعه وإغراقه في التبعية ومكافأة الأحرار بالسجون. مئة عام عربي، لم يذق فيها الإنسان طعم الحرية. باختصار، الإنسان العربي، لم يكن إنساناً بلياقته البشرية والاجتماعية والفكرية كإنسان. هو برتبة تابع أو خاضع مكافأ، أو برتبة حر متمرد ومتحرر كإنسان، معاقب بالإلغاء.
هذه المقدمة، هي خلفية لسؤال مزمن: لماذا غابت، أو غُيبت الديموقراطية، واستعيض عنها بصناديق الاقتراع، كشاهد زور على الولاء والطاعة والإمحاء.
أولاً وثانياً وأخيراً، هناك كذبة دارجة لتبرئة السلطات كافة، وهي كذبة صناديق الاقتراع. هذه الصناديق خدعة ونفاق وتدليس. إنها آلية تبرر للسلطة ارتكاباتها. حساب الصناديق يواصل ضرب أرقام قياسية في الولاء، وسط خلاء وطني وإنساني وسياسي.
في لبنان، كذبة تصدقها الأكثرية. إنه لأمر معيبب أن يكون مطلب الكثيرين، إجراء انتخابات مبكرة. عيب. هذا إفتراء على حق طبيعي بائن. الحقيقة تفصح عن معادلة سليمة: “يا ناس. يا شعب. يا كلكم. اسمعوا جيداً: لا تعوّلوا على صناديق الاقتراع في نظام سياسي يعادي الديموقراطية. الأنظمة العربية برمتها، وفي لبنان، لا تحلموا بصدقية صناديق الاقتراع التي تتلهفون لها. الطائفية، دكتاتورية تامة، وموزعة على الطوائف، بكل الظلم والعسف المتاح. لا ديموقراطية مع الطائفية. الديموقراطية التوافقية، كذبة بلقاء. لا وجود لهذه الصيغة في لبنان. الديموقراطية في لبنان تحمل عنواناً واضحاً: الطائفية قتلت وعد الديموقراطية مراراً. والدليل، واضح، بيّن، جليّ، صارخ. لم تفرز صناديق الاقتراع، من زمان الاستقلال الناقص والمتناقص دائماً، حتى اليوم، إلا زعامات الطوائف المبرمة… إننا البلد الوحيد الذي يكذب ويصدّق كذبته، ومستعد أن يدافع عن كذبته، بكل ما يملكه من أسلحة طوائفية.
اطمئنوا. المستقبل كالح. صناديق الاقتراع في العالم العربي، هي وسيلة لاسباغ الشعبية الكاذبة. للنظام أو الأنظمة. والبرهان بسيط. صناديق الاقتراع في الأنظمة المؤسسة على المواطنةـ تغيّر وتبدّل وتصحّح وتفتح مسارات جديدة، وتحاسب مسارات ماضية على ارتكاباتها. دلونا على برامج السلطة المؤبّدة في الدول العربية المزمنة. أكانت ملكية، أميرية، جمهوريةإلخ. دلونا على برامج الطوائفيات المستكلبة على السلطة. صناديق الاقتراع لن تحبل إلا بما زنته الطوائفيات… فعيشوا أيها اللبنانيون تحت خيام أتباعها دائماً. فاذهبوا معاً إلى الجحيم.
هل نحن مخلوقات بشرية سوية؟ كان يجب أن نكون كذلك. والأدلة كثيرة. عقولنا سليمة. أفكارنا واضحة. نحلم أحلاماً مزمنة، نحلم بالحرية للجميع، بالمساواة، بالمساءلة، بالديموقراطية، بالعدالة، بالتقدّم، بالعلم، بالإبداع، بالثقافة، بالنقد، بالحوار الحر، بالمواطنة، بالوطن، بالكرامة، بالكفاية، بألف قضية نبيلة. نحن لسنا خصياناً البتة. لكنّ أنظمة الاستبداد المتنوعة، الملكية والأميرية والجمهورية والطائفية، خصتنا جميعاً، وجعلتنا مسخرة المساخر… الدليل، من يجرؤ في هذا العالم العربي المشوّه، على أن يقول: أنا مواطن حاف. مواطن حرّ. مواطن يفكّر بصوت عالٍ. مواطن يجلس أمام الشاشات ويلبطها برجله ويبصق عليها لكثرة نفاقها ودهلستها واستهتارها بالحقائق. هذه الشاشات العربية بشعة إلى درجة تتفوق فيها على بشاعات الأنظمة وسادتها وملوكها ورؤسائها وطوائفها.
نحن في سلم الإعلام المرئي، تحت الحضيض المنمّط. إنها صورة طبق الأصل عن تباعات الحكّام وحاشياتهم وسياساتهم. والأنكى، أنهم لا يتاجرون بغير الكذب. التحريض العنصري والطائفي والمذهبي، عملتها الذهبية المثالية.
لنتعقّل قليلاً: لبنان، لم يكن ولا مرّة لبنانياً. هو ممر ومعبر لكثير من الدول الإقليميّة والدوليّة. لم يكن سيّداً مستقلاً ولا مرّة. مريض بالتبعيّة. حكّامه، أبناء شرعيون للقوى الخارجيّة. هذه هي بنيته. إنّه منقسم على ذاته مراراً. يتعكّز على عكّازات إقليميّة. راجعوا انتخابات رئاسة الجمهوريّة. بشرفكم… متى كان رئيسنا بأصوات لبنانيّة، غير مرخّصة من المراجع الإقليميّة والدوليّة. بشرفكم… هل يستطيع لبنان أن يؤلّف حكومة؟ خلص بقا. كفى نفاقاً وتباكياً. لبنان خلص، إنّه ليس هنا أبداً. ابحثوا عنه في أميركا وباريس وإيران والسعوديّة ومن لفّ لفهم.
التواضع اليوم، فضيلة فضلى. نحن لسنا نحن أبداً. نحن كلّ الآخرين، إلا نحن. إنّ محكمة التاريخ قاسية ورهيبة. لقد حكم التاريخ علينا بأن نعترف بتاريخنا. تاريخنا عار علينا جميعاً. لبنان الجميل، هو لبنان الإبداع والثقافة والفكر والفن والريادة وقشور الحداثة. كلّ هذا ازدهر في ظلّ طائفية منحسرة قليلاً. لكن، عندما استذأبت الطائفية في الحرب وما بعدها، بتنا ننسب المبدعين إلى طوائفهم لا إلى نصوصهم وابداعهم. أين النقد اليوم! أين من يرفع لا، ويستظل ظلها العميق.
لاءاتنا اليوم طائفية، لا إبداعية أو ثقافية… لا أبغي إعطاء أمثلة البتة، لئلا أكون سخيفاً وضحلاً وأميّاً، وشبيهاً بمناخات الولاءات. عار أن تصبح الجامعات في لبنان زرائب للطوائف وأفكارها. لم ينجُ أحد من رسن الطائفية، إلا قلّة هامشية تصرخ في هذه البريّة العربية، ولا من يسمع.
نصيحة: لا تصدّقوا الغرب الديموقراطي. ديموقراطيته تخصّه وحده. ويرغب في التعامل الجدّي ، مع الدكتاتوريات والأنظمة الطائفية والعنصرية. الغرب متوحّش عندنا. سارق لنا. منافق علينا.يعيث فينا فوضى واستتباعاً.
هل هذا العالم موحش عن جد؟
لا، إنّه متوحّش ومفترس، والويل للضعفاء.
وتسألون لماذا فلسطين مختلفة عنّا؟ الجواب: الفلسطيني تحت الاحتلال يمتلك من الحرية والمواطنة والكرامة ما يجعله يقاتل بدمه ليلغي الاحتلال والإذلال. إنّه يريد مكاناً له، كان له، وسرق منه. على مرأى من أنظمة عربية متواطئة أو…
إلى متى كلّ هذا؟
لا أعرف.