كتب نصري الصايغ:
ستون يوماً فقط، والعداد لم يتوقف. وأركان النظام واحزاب السلطة لم تفهم بعد.
هناك حدث زلزالي: الشعب لم يعد غائباً. الشعب لم يعد منقاداً. الشعب يرفض طغمة السلطة. خرج من الخنادق الطائفية. هو الآن في رحاب الساحات، ولن يعود إلى “أهل الكهف”. وعيه على امتداد الأفق اللبناني الجديد…حدث ذلك والطغمة ذاتها لم تفهم بعد.
هناك انجازات غير مسبوقة. حصلت بالقوة السلمية وحدها. من دون ضربة كف. من دون نقطة دم. من دون تبني مقولة، “خطوة إلى الامام خطوتان إلى الوراء”. من انجازاتها، اسقاط حكومة يدعمها كل الاقطاب وتمثل كل القوى المهترئة. سقطت الحكومة بقبضات الساحات والشوارع والمدارس والجامعات… جيل جديد من الشباب، أحدث قطيعة تامة مع الاحزاب الفاشلة والنقابات التافهة والسلطات المتوارثة والرثة. جيل جديد، لا تشبه بأحد، ولا يشبه الا نفسه. لا يشبه الاصطفاف الطائفي والقبلي والعشائري. جيل يتساوى فيه الجميع مع الجميع. هذا الجيل الساطع، يحمل غضباً وقبضة وأملاً واصراراً. جيل، قوته في عقله وقبضته. وهذا كان كافيا، لمنع انعقاد جلستين للمجلس النيابي، المحصَّن. انهارت حصونه. لم يتجرأ النواب، اصحاب الالقاب والحسابات المصرفية والوكالات الحصرية والمرجعيات المذهبية، أن يخترق مجموعات متراصة من السواعد والقبضات والارادات.
من انجازات هذا الحراك، أن حرَّر الناس من لا مبالاتها ويأسها ومن انعدام الامل. زحفت الناس إلى الساحات. تغيَّرت لغتها. صار للغة ملمس الحياة. صار للكلام مصداقية الانتماء إلى المستقبل، تصنعه ارادات نقية صارمة، تؤمن بالحرية، تاج الشخصية اللبنانية. تقول بالعدالة وتريدها للجميع. تعيد للقوانين مرجعيتها وللدستور مكانته في المقام الاول… صار للكلام، معنى يتداوله الناس، يومياً: لسنا طوائف بل نحن مواطنون. ولسنا اتباعاً، بل احراراً يرزقون.
ومن انجازات الانتفاضة، وهي بعد وليد، انها قصمت ظهر السلطة. فها هي حائرة. ستون يوماً من الدوران حول محور انكسر. انهم مختلفون على كل شيء. عاجزون عن تسمية رئيس حكومة. عاجزون عن التفكير، الا كما كانوا يفكرون. لم يفهموا بعد، أن الماضي مضى، إلى غير رجعة. أي حكومة سياسية مرفوضة، ولو تألفت ونالت اجماع الذين أنجبوها بالاغتصاب التام، لحقوق الناس وتطلعاتهم.
ما مضى قد مضى. لا رجعة اليه، حتى لو لجأت السلطة المفككة إلى الجنون، وانزلقت إلى العنف… ومن المؤكد، انه حتى ولو لجأت السلطة إلى العنف، فستكون سلمية التظاهر، اقوى بكثير من اسلحة، يصعب تلقيحها من قبل عسكرٍ، آباؤهم في الحراك، وامهاتهم يتصدرن الصفوف. فالجيش ينتمي إلى شعبه أكثر من انتمائه إلى قادته… مبارك هذا الذي في لبنان اليوم.
ومن انجازات الانتفاضة، انها تترسخ كتقليد لبناني جديد، من اقصى الشمال، حيث للريح هناك ميل جنوبي، ومن أقصى الجنوب، حيث للهواء، هوى شمالي، وحيث لكل المناطق التقاء في الساحات، حيث لا مجال لتعداد مواقعها في كل المحافظات والاقضية… وأهم ما في قبضة الانتفاضة، تفكك السلطة، وتوحد الناس. وإلزام “التيار” بنهج سياسي جديد، وهذا كان من المستحيلات، من قبل، بسبب اصرار التيار على مقولة تالفة: “الرئيس القوي”، و”لبنان القوي”. كل هذا انكسر ولا امكانية لتجبيره.
غير أن فريقاً لبنانيا ما زال يعتصم بالماضي بحرفيته. وجماعات العنف تنتسب اليه. هذا الفريق يصر على أن “الحراك” خطر عليه وحده. وهذا امر مبالغ فيه كثيراً. السلطة، من زمان، منقسمة حول سلاح المقاومة، ومن يعادي سلاحها، يجلس مع المقاومة على طاولة الحكم، وفي مقاعد المجلس النيابي. لبنان الرسمي مشرع ابوابه للرياح الاميركية. وأميركا تملي وتسمع وتستشار وغب الطلب. الساحات ليست كذلك ابداً. انما، هناك من التزم من زمان بموقف معادٍ للمقاومة، وهو في “الحراك”. غير أن جدول اعمال الانتفاضة لا يأتي على ذكر هذه القضية ابداً.
ثم… هل حقا أن المقاومة تخشى الحراك ومراميه. العكس هو الصحيح. المقاومة قوية، وقوتها تخيف الاعداء والاميركان واتباعها في المنطقة. فليس من المنطق ان تخاف من نتائج ما سيفضي اليه “الحراك”. أن المقاومة التي تخيف “اسرائيل” ليس من المنطق ابداً، أن تخشى من شعبها، حتى ولو كان بعضه يرفضها، ليس كمقاومة في مواجهة العدو الصهيوني، بل كجزء من محور على تضاد مع محور آخر. وبكل اسف، هذان المحوران، يتمحوران حول قضايا سياسية استراتيجية، تحت عباءتين مذهبتين.
وعليه، يلزم مراجعة حقيقية لطبيعة الواقع والوقائع. الانتفاضة تأسست على محورين اثنين: مطالب اجتماعية وحياتية وبيئية (اين الكهرباء؟ اين البيئة؟ اين العدالة؟ أين الاموال المنهوبة؟ اين المحاسبة؟ اين المساءلة الخ) ومطالب سياسية، حيث أن هذا النظام التحاصصي، قد افضى إلى كارثة كبرى، والى مقدمات اجتماعية ومالية تشبه المجاعات التي عانت منها دول افلست، ووضعت اليد الدولية على مصيره. النظام محطم وأعمى. لقد فقد بصره وبصيرته، وعجزه الراهن دليل على نهاية صلاحيته، التي لم تكن صالحة، منذ الاستقلال حتى فجر الحراك.
ومع ذلك، ما احدثته الانتفاضة لا رجعة فيه إلى الوراء ابداً.
ما حدث كبير جداً. والهدف، هو تحرير لبنان من طغمة الفساد والطائفيين والمحاصصين، وذلك بمقاومة شعبية سلمية عارمة.
لبنان تغير كثيراً. ما مضى قد مضى. ولا يمكن لأحد أن يستمر بالتفكير والعمل، وكأن شيئا لم يكن.
يبقى السؤال: الانتفاضة في الساحات والشوارع إلى متى؟
الجواب: الطريق ما زال في أوله. الا أن الطريق مفتوح على المزيد من الانجازات، برغم عناد اهل السلطة، الذين أفلسوا، حتى بات حضورهم في الاجتماعات العامة متعذراً.
السنيورة برا، برا، نموذج يُحتذى.