اننا لا نحيا في الزمن المناسب لنا، ولكننا نموت في الزمن المناسب. كأننا دخلاء على الحياة، أو، كأننا ولدنا في الوقت المناسب للقتل.
في كل ذلك، لم نختر حياتنا. تأخرنا كثيراً عن بلاد، قيل انها لنا، ولكنها ليست لنا. لعلنا كنا جديرين بالحياة ولكن بلاداً اختارت لنا أن نقتتل. جل ما نقوم به منذ اعوام “الربيع العربي”، اننا نقتتل، ونتبارى في البراءة. هناك، يا للعار!، قتل شرعي وقتل غير مشروع. انهم يعلقون أهمية على جنسية القاتل والمقتول. يصنفون أمواتاً يجب أن يموتوا، وأمواتاً كان يجب الا يموتوا.. المجد والهوان للأموات جميعاً.
كيف يمكن تمييز القتلى؟ من يمسك بقرار تسمية القتلى أن كانوا شهداء او مجرمين؟ من حبك الخيوط الفاصلة بين القتلى. عربٌ مقتولون وعرب قاتلون. هؤلاء يتشابهون، لأن القتلة مقتولون، والمقتولين قتلة. شيء ما يشوه المشهد: إطلاق الاحكام على القتلة وتصنيفهم مسألة فيها نظر.
لا أقصد معركة بعينها او خندقاً بالذات او معسكراً ما او جبهة هناك او قصفاً من أي جهة كانت. احتفال جنوني بالقتل، ووظيفة الاحياء مؤقتاً، إلى يوم غد او بعده بعصر، أن يتحضروا لدراسة اصناف الاعداء واشكال الاصدقاء… بلاد، قيل انها عربية، وهي حقاً كذلك، ولم تعد كذلك. لقد سطا عليها قراصنة الدين وهولاكو المذاهب وتيمور الاحزاب وجنكيز العسكر، ومنظرو المعارك.
لا اقصد احداث الرقة. هذه نسخة دامية عن معارك أكثر دموية. لا اتحدث عن أي بقعة في جنون تدريب الناس على أن يتعلموا كيف يموتون. الوسائل سوبر حديثة وخرافية. العقائد الدينية جاهزة للسفك. الديموقراطية هي الموت السريع. الدكتاتورية هي اما القتل او المشنقة. الحرية، استباحة للجميل والاقامة في الفشل. لا انسان عندنا. الناس عندنا ماشية تُساق إلى الذبح، والسيف اصدق انباءً من الكتب.
طبعاً لا اقصد اليمن. لا افتح ملف ليبيا. أغض الطرف عن مصر غير المصرية، أغيِّب عمداً العراق وقد نضجت رؤوسه. أمر مرور اللئام بسوريا وما فيها من ظمأ للدم، ولما ترتوي. لا، كل هذا اليف. اعتدنا عليه عن بكرة ابيه. يمر شريط القتلى امامنا كل مساء، ولا نتحسس دمعة. الشماتة والصراخ في المعسكرين. من على حق؟ الحق مع من ينتصر ولو كان خسر شعبه. عفواً. بلادنا بلا شعوب. انها دخيلة على بلادها. لا معنى بعد الأمس واليوم لنشيد “بلادي بلادي… لك حبي وفؤادي”. هذا نشيد غلط، تماماً كلمات الاناشيد التي استولدت من كلمات عاصية على التحقق، كعندنا في لبنان: “كلنا للوطن”. للأسف. ولا حدا للوطن. كلنا للوطف. (وطن طائفي).
منذ مئة عام وبلادنا لا تشبهنا. وشعوبنا لا تشبه نفسها.
افكارها تقدمية وجماهيرها قابعة في جحر ما قبل العثمانية وما قبل الاستعمار. مستقرون في تاريخ سحيق، مفاده: حدثني فلان عن فلان قال: ويا ليته لم يقل. وربما هو لم يقل، ولعلهم زوروا قوله. اننا نعيش في جلباب النص. عيش ملعون.
منا من آمن بنهضة. هراء .هؤلاء سرقوا النهضة وخبأوها في جزماتهم وعب نسائهم وإضبارات اموالهم وصناديق عهرهم.
منذ مئة عام، كنا نعد العدة للديموقراطية والحرية والمساواة والانسانية.
أي ترهات هذه؟ أحزابنا ضدها. حكامنا ضدها. أدياننا ضدها. جماهيرنا ضدها.
فضلوا عليها النظام والعسكر والآية وشهوة السلطة وركوب الحال. هذا لم يكن من صنع الاعداء. اسرائيل وحدها صناعة الاعداء والاصدقاء. ما عدا ذلك، من ويلات، من صنعنا. من جاء الينا، تم استدعاؤه من أحدنا. او من مجموعة آحادنا. كل ما فينا من عندنا. الآخر، جاء لأنه معتاد على التمتع بالجثث.
مئة عام عربي، والعرب يندثرون. أخلو المكان لعصابات الدين وديناصورات المذاهب وفرق الموت المدربة داخليا وخارجياً.
ثم، أن احداً من خارج لا يأتي بلا دعوة او لوحده. غزو العراق نموذج. الذين جاؤوا مع جورج بوش، كانوا عراقيين جداً. الذين زحفوا إلى سوريا وجدوا الطريق مفتوحاً لكل ابن زانية وزانٍ. وهكذا دوالينا.
ما أفدح استسلامنا للقتل. ما أبشع استطابتنا للاحتفالات بالموتى. اننا نبيع اجسادنا لمشاهد نشرات الاخبار. موتنا سلعة. نشرة الاخبار ناقصة أن لم تكن ملونة بدمائنا. احترسوا أيها الاحباء. هناك داخل كل واحد منا، قاتل.
ألهذه الدرجة من الهبل؟
وأكثر من ذلك، طالما ما زلنا نستطيب المقتلة، ونفرح لقتلى الطرف الآخر.
اننا تساوينا مع الشر. فإلى متى؟