في العام 1980 قررت »السفير« أن »تغزو« أميركا، فاختارتني مراسلا لها في العاصمة واشنطن، كنت »ابن ضيعة« وما زلت، وفي مواجهة الآلة السياسية الأميركية المعقدة، وآلاف المراسلين المحترفين، ارتكبت مجموعة من الفضائح، وكسرت قواعد المهنة، ولأن الأميركي يقول »القوة هي الحق«، فقد وصفت وزارة الخارجية الأميركية »السفير« بأنها »أبرز الصحف القائدة في العالم العربي«.
هنا حكايات عن »صوت الذين لا صوت لهم« وعن الاعلام في عاصمة الاعلام العالمي… الولايات المتحدة الأميركية.
صحافي في »واشنطن بوست« أقام، قبل ثلاث سنوات، دعوى على صحيفة يطالبها مع 32 من زملائه، بمبالغ تزيد عن 10 مليون دولار. قال الصحافي انه وزملاءه كانوا يعملون »أوفرتايم« وأن الصحيفة لم تكن تدفع. قبل ثلاثة أسابيع صدر الحكم، وخسر الصحافي الدعوى. قالت القاضية في الحيثيات ان الصحافي بشهادة رؤسائه، كان مبدعا ولم يكن أجيرا، فهو كان يملك شبكة اتصالات سياسية واسعة، وكانت تقاريره تنشر غالبا على الصفحة الأولى، وبالتالي فإن عمله وزملاءه حتى ساعة متأخرة من الليل كانت تقتضيه ظروف »الابداع المهني«، ولو كان المدعي يعمل في صفحة الوفيات مثلا أو حفلات الأعراس، أو برامج احتفالات الكنائس لكان يستحق تعويضا عن عمله الاضافي، أما وأنه »اختار« أن يكون مبدعا فهو خسر تعويضه كأجير (!).
ومع أن قانون العمل اللبناني الذي تظهر نصوصه في لوحة تزين ردهة الاستقبال في »السفير« يتعامل مع الصحافي باعتباره »«أجيرا« يخضع لقانون الأجراء، إلا أن رؤساء التحرير غالبا ومثلهم أصحاب الصحف يجعلونه »مبدعا« برغم أنفه (!).
في مجلة »البلاغ«، مثلا، قبل أن انتقل منها الى »السفير« كان الزميل جورج الراسي يكتب موضوعا ثقافيا من صفحتين، ثم من ثلاث الى أربع، ومع »تطور« الزميل صرت أطلب من جورج كتابة »ملزمة« يعني 8 صفحات، وقبل إقفال »البلاغ« حسم جورج المسألة، دخل المكتب وقال: شرِّف يا أستاذ، مهما حاولت أنا لن أستطيع أن أكتب أكثر من »ملزمتين« في الأسبوع، يا أخي اعتبرني هاويا (!).
البولدوزر و… شركاه
في »السفير« صرنا نطلق على الزميل عصام الجردي لقب »البولدوزر« وهو يستحقه، بدأ في الصفحة الاقتصادية بكتابة قطعة واحدة عن النقابات، بعدها صار يجرف بقلمه من 4 الى 5 قطع، وفي أحد الأيام، وبعد أن ألقى بآخر قطعة أمامي، عاد الى الكتابة. قلت: يا أستاذ عصام الصفحة »سكّرت«. قال وهو »يحضر« الورق أمامه: بدي سكّر صفحة بكره، يمكن إتأخر«.
وفي هذا السياق، يبدو مدير التحرير ساطع نور الدين محظوظا قياسا الى نائب رئيس التحرير محمد مشموشي، فالزميل ساطع يكتب »محطته« بعد نهاية دوامه المفتوح ليلا نهارا، ولأنها زاوية يومية فإنه يملك المناعة للصمود حتى ينتهي منها. أما الزميل مشموشي، فقد كان غارقا قبل أيام في »تسكير« الصفحة الأولى واختيار المانشيت، وتعطيل بعض الألغام المهنية، عندما جاءه الهاتف: سأسافر بعد قليل، وأعود غدا، هل يمكن أن تكتب افتتاحية؟«، كانت الساعة تجاوزت العاشرة ليلا.
وبعد ساعة كان نصف الافتتاحية جاهزا، قرأ الخبر الرئيسي ووضع المانشيت، ثم أكمل »الألياذة«، وكانت الساعة تجاوزت منتصف الليل عندما قرع الهاتف مجددا: خذ هذه المعلومات، ربما تفيد في المانشيت… (!).
… ولعل طلال سلمان هو »الأجير« الوحيد الذي لا يشغله فجر ولا نجر عن أن يكون مبدعا.
في أميركا يعمل المعلق جاك أندرسون مع اثنين من مساعديه على مدى 24 ساعة لينتهي الى كتابة »زاوية« من 700 كلمة تنشرها ما يزيد عن 100 صحيفة أميركية، أما »آرت بوشوالد« فإنه يستهلك أسبوعا كاملا لكتابة زاويته، وهو أغلى »أجير« في أميركا. وفي جامعة »نورث كارولينا« حيث أدرس حاليا كتابة »السيناريو« قال أستاذي السيد أوليفر في المحاضرة الأولى: عندما تكتبون عليكم أن تعرفوا أن ثمة الكلمة التي تكتبونها قد يصل الى ألفي دولار، وأن السيناريو من 120 صفحة قد يصل ثمنه الى 7 ملايين دولار، وهو المبلغ الذي قبضه كاتب سيناريو »حديقة الديناصورات« (!).
تحقيق من دون قهوة
… ولا صحافة من دون حرية، وهي حرية الكاتب أو الصحافي في مواجهة المسؤول عن التحرير أولا، وفي مواجهة السلطة ثانيا وهنا حكاية.
كان قد مضى على دخولنا مبنى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن حوالى ساعة، عندما سأل طلال: ألا تضيّفون القهوة هنا؟ ورد السيد جون براكت معتذرا: لا. ولكن يمكن أن نتناولها في الكافيتريا، بعد أن ينتهي التحقيق؟
اعتقدت للحظة أنني أسأت الفهم، سألت ببلادة: التحقيق؟ قال السيد براكت وهو يشير الى زميله: السيد شيلدون رابابورت يعمل في مكتب التحقيق والبحث في وزارة الخارجية (!). وتبادلت مع طلال نظرة سريعة، أعقبتها ضحكة مدوية تشاركنا فيها بمتعة متحفزة.
كنت قد أخبرت مسؤول مكتب لبنان في وزارة الخارجية السيد براكت ان رئيس تحرير »السفير« طلال سلمان يقوم حاليا بزيارة أميركا بدعوة من اللجنة العربية الأميركية لالقاء بعض المحاضرات، وأبدى السيد براكت اهتماما بأن يستمع الى »إيجاز« من طلال حول ما يجري في لبنان والشرق الأوسط، ووجهة نظره في الموقف الأميركي، وبناء عليه تم تحديد الموعد. كانت »السفير« في تلك الفترة بداية عام 1984 قد تحولت وعلى مدى 6 أشهر الى قضية ساخنة في أميركا، فقد نشرت في تاريخ 17/7/1983 محضرا يكشف عما دار في لقاء سري عقد في باريس وضم وزير الدفاع الأميركي كاسبار واينبرغر من ناحية وعددا من الضباط الكبار، ومن ناحية ثانية وزير الدفاع السعودي سلطان بن عبد العزيز وسفير المملكة العربية السعودية في واشنطن بندر بن سلطان وعددا من المسؤولين.
وورد في المحضر معلومات التقطها حاكم ولاية نيويورك »ايبر كوش«، واتهم من خلالها علنا الوزير واينبرغر بأنه »يخفي معلومات عن الرئيس رونالد ريغان شخصيا وعن الكونغرس الأميركي«. ورد واينبرغر بأن المحضر »فبركة إعلامية«، وأنه لم يسمع في حياته عن صحيفة اسمها »السفير«. ودخلت وزارة الخارجية على الخط، ووصفت الصحيفة بأنها »أبرز الصحف القائدة في العالم العربي«.
وزاد »كوش« فقال إنها أبرز صحيفة عربية في الشرق الأوسط، وأن الوزير واينبرغر يستطيع شراءها من المكتبة القريبة من مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.
»الأف.بي.آي« يتدخل
وبلغ السجال بين الوزير والحاكم ذروته، عندما قام مكتب التحقيقات الفيدرالي »أف.بي.آي« بزيارة مقر كوش في نيويورك »للاستفسار« عن مصدر التقرير ومن قام بترجمته. وتناقلت وسائل الاعلام بما فيها شبكات التلفزيون الرئيسية وصحف »نيويورك تايمز« و»نيويورك يدست« ومجلة »تايم« نصوص الرسائل المتبادلة بين الحاكم والوزير حول المحضر السري، ولأن مصدر المحضر كان واشنطن، فقد انهالت المكالمات على مكتبنا تطلب مقابلة أو إيضاحا، ومن بينها مكالمة من مكتب الوزير واينبرغر، وثانية من مكتب الحاكم كوش وثالثة من قسم التحقيق والبحث في وزارة الخارجية يدعوني لزيارته (!).
في البداية كنت أعتذر باقتضاب، لأن الحاكم كوش كشف ان القنصلية الاسرائيلية في نيويورك هي من أرسل إليه نص المحضر السري مترجما، وبالتالي كنت أرفض أن أحشر في موقف تكون فيه إسرائيل طرفا غير معاد، وكنت مرتاحا مهنيا الى هذا »الضرب الصحافي« الى ان اتصل بي صبيحة يوم الجمعة 16 كانون أول، وبعد نشر المحضر بأربعة أشهر السيد »جاك ماجيرل« من مكتب التحقيق الفيدرالي »أف.بي.آي« وقال انه »يرغب« في أن أزوره في مكتبه، و»نصحني« بضرورة التعاون معه، لأنه يحتمل أن أكون متهما بالتزوير وبترويج معلومات مضللة.
أبلغته انني مشغول (!) وأعطيته رقم محاميتي السيدة ليندا، وأن باستطاعته أن يعطيها ما شاء من الأسئلة، وسوف أجيب عليها، كما انني سوف أنشرها في »السفير«.
وعندما أغلق السيد جاك الخط واعدا بالاتصال ثانية، رفعت السماعة واتصلت بمكتب الحاكم كوش، تحدثت مع كبير مساعديه السيد »بوتنيك« وأبلغته أن لديَّ »معلومات« تؤكد أن حاكم ولاية نيويورك هو موضوع تحقيق من قبل »الأف.بي.آي« وأنه قد يتهم بترويج »معلومات مضللة«.
وفي اليوم التالي تأكدت أن الهجوم هو خير وسائل الدفاع، إذ أعلن كوش في مؤتمر صحافي انه هو، وكذلك مراسل »السفير« الذي هو أنا، موضوع تحقيق فيدرالي وكشف انه أرسل الى واينبرغر رسالة يؤكد فيها انه »بعد المكالمة الهاتفية مع مراسل »السفير« فإنني أشعر بقلق كبير« من هذه الضغوط العلنية.
الصفقة
ولم يعد »الأف.بي.آي« للاتصال بي، ومن هنا فقد كانت مفاجأة أن تستغل الخارجية الأميركية دعوة طلال للتحقيق معنا في مصدر المحضر.
قال السيد رابايورت: من أين حصلت على المحضر؟
تدخل طلال: هل تطرحون السؤال نفسه لو كان الصحافي أميركيا؟
أجاب: ربما، إذا كانت التهمة تتضمن تزويرا، أو معلومات مضللة.
ثم تلاحق الحوار:
قلت: حصلت عليه من باريس.
من أرسله؟
عملائي هناك.
لديك عملاء في باريس؟
نعم.
أكثر من واحد؟
نعم.
كيف أرسلوه؟
بالبريد.
بالبريد العادي.
نعم.
هل ما زلت تحتفظ بغلاف الرسالة؟
ربما. لا أعرف، ربما كانت موجودة في مكان ما، سأبحث عنها.
حسنا سأعرض عليك »صفقة« أنت تعطيني الغلاف، ونحن نعطيك نتائج التحقيق، القضية مهمة إعلاميا.
… وفرقعت ضحكاتنا عندما غادرنا مبنى الخارجية.
في السيارة سأل طلال؛
من أين حصلت على المحضر؟
ضحكنا مجددا، وكان ذلك هو الجواب الوحيد، ولم يكرر طلال السؤال.
* * *
الحرية هي شرط الابداع المهني، ومع ذلك فإنني أعرف رئيسا للتحرير يدفع راتبا بدوام كامل لموظف مهمته أن »يتنصت« على مكالمات المحررين حتى… الغرامية منها، كما ان المخابرات في دولة عربية استدعتني »لأشرب فنجان قهوة«، وعندما سألت رئيس التحرير إذا كان باستطاعتي أن أرفض الدعوة، رد ضاحكا بالطبع، وعندئذ سوف يشربون القهوة في منزلك عند الفجر (!).
وحمدت ا” على نعمته، لأن مخابراتنا لا تبخل علينا بالقهوة أثناء التحقيق (!).
هذه وزارتي(!)
قبل اسابيع اثارت صحيفة »نيويورك تايمز« ضجة اعلامية عندما نشرت على صحفتها الاولى حديثا للسيدة الاولى هيلاري كلينتون تنتقد ذاتها وتقول انها كانت »ساذجة الى حد البلاهة« في بداية تعاملها مع الآلية السياسية والاعلامية المعقدة في واشنطن العاصمة. مصدر الضجة كان عشر صحف اخرى، حملت على »نيويورك تايمز«، واتهمتها بأنها كسرت قواعد المهنة، لان حديث السيدة الاولى، كان على مائدة افطار شاركت فيها احدى عشرة صحافية اخرى، واكدت السيدة هيلاري ان الحوار معها ليس للنشر (off the Record)، وبرغم ان البيت الابيض اكد مجددù ان الصحيفة كسرت القاعدة المهنية فعلا، إلا ان »نيويورك تايمز« اكدت، استنادا الى جهاز التسجيل، انها حافظت على قواعد المهنة، وانه ليس من حق البيت الابيض ان يجعل دافع الضرائب الاميركي يدفع ثمن وجبة افطار لاحدى عشرة صحافية دون ان يأخذ المواطن حفنة من المعلومات التي دفع ثمنها.
»ليس للنشر« عبارة سمعتها في وزارة الخارجية الاميركية، عندما كنت اقوم بتحقيق عن اذاعة »صوت الامل« في جنوب لبنان، وشبكة التلفزيون التي تقوم بتمويلها جهات اميركية. السيد »دافيد وين« من وزارة الخارجية اعطاني بعض التفاصيل والمعلومات عن »جمهورية لبنان الحر« بقيادة سعد حداد، وذكر اثناء الحوار شيئا عن »ليس للنشر«. وعندما سألت عن موقف الادارة الاميركية من المواطنين الاميركيين والمؤسسات الدينية التي تقوم بتمويل الاذاعة والتلفزيون، بالاضافة الى ان عشرة اميركيين، بينهم القس جورج اوتس، يعملون فيها، قال: يمكنكم مقاضاة الحكومة الاميركية.
ونشرت »السفير« التحقيق، وذكرت اسم دافيد وين، وفي اليوم التالي للنشر، زرته في »مكتب لبنان« بالخارجية، فاذا به يقفز من خلف مكتبه صائحا: كيف تستطيع ان تفعلها؟، كان الغضب يتدفق من وجهه واطرافه. قلت له: انني مواطن قبل ان اكون صحافيا، واذا كان هناك تعارض بين الوطنية والمهنة فان الاولوية للوطن وليس للمهنة(!).
وكنت »ابن ضيعة« يواجه واشنطن للمرة الاولى، وقد علق احد الزملاء: لن تجد في الخارجية بعد اليوم من يتحدث معك.
ولكن توقعات الزميل لم تصح، وكانت وزارة الخارجية الاميركية توفر دائما من يحكي معي، بل اكثر من ذلك، عندما قدمت للمسؤول عن مكتب لبنان مرة وثيقة مكتوبة على الاوراق الرسمية للخارجية وتحمل توقيع هنري كيسنجر وينصح فيها وزير الخارجية السابق بأن توكل لاسرائيل مهمة التعامل مع لبنان لانها ادرى به، ردت الخارجية الاميركية برسالة تقول:
»نشكرك على مشاركتنا نسختك عن الرسالة المزعومة من الدكتور هنري كيسنجر…
وتضيف: وكما اشتبهت انت، فان الرسالة مزورة…« ولم اكمل قراءة الرسالة، فقد اتصلت بالسيد ميتشيل اوستريان المسؤول في مكتب شؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا الذي تحمل الرسالة توقيعه، وقلت له بالحرف الواحد، ان عبارة »كما اشتهيت« هي محاولة رخيصة لوضعي في صف وزارة الخارجية، ولتأكيد ان الرسالة مشبوهة حتى من قبل »السفير«، وهذا غير صحيح. وطلبت رسالة اخرى، من دون هذه العبارة…
ووافقت وزارة الخارجية الاميركية(!).
قبل ايام، شكا احد الزملاء من ان »الوزير« منع جميع المسؤولين في الوزارة من الحديث معه، لانه يعمل في »السفير«، والوزير لا يحب »السفير«، قال الزميل ان الوزير ابلغه »بلّط البحر. هذه وزارتي«.
لعل الادارة الاميركية تحتاج الى وزراء من هذا النوع، يحيلون المنصب العام ارضا معادية للمعرفة.
…واعتذرت الناشرة عن »الموقف«
…ولا صحافة »موقف« من دون معلومات…
في حوار الزميل جهاد الزين مع شيخ الصحافة العربية الاستاذ محمد حسنين هيكل، يصر الزميل الزين على ان المدرسة المهنية التي تنتمي اليها »السفير« هي مدرسة الموقف، ويأخذ الزميل الزين على »اكبر ذئب صحافي عربي ومسلم« اي الاستاذ هيكل انه اثناء زيارته الاخيرة ل»السفير« »كاد يعطي الانطباع انه يطالب بالغاء اي زاوية رأي في اي صحيفة« لمصلحة التركيز على المعلومات. ويرى الزميل الزين ان »السفير« هي اقرب الى تجربة صحفية »الاندبندانت« البريطانية، في مقابل »الدايلي تلغراف« التي اعتبرها الاستاذ هيكل نموذجا لصحيفة المعلومات.
ويرد الاستاذ هيكل فيؤكد »كان هدفي ان اضغط الى ابعد مدى على عنصري الاخبار والمعلومات… واعتقادي ان قضية المصداقية لدى القارئ العربي اصبحت مشكلة المشاكل لاية صحيفة الآن وبالنسبة لاي كاتب، وهذه المصداقية لاتستعاد بكثرة الالحاح في الكلام ولكن باعطاء الحقائق دورها لتتكلم…«.
هنا تجربة اميركية لعلها تساهم في اغناء الحوار:
»لا مفاجآت بعد اليوم« كان هو العنوان الذي اختارته السيدة ناشرة صحيفة »واشنطن بوست« لتعليق كتبه حول نجاح السيد ماريون بيري في الانتخابات لاختيار حاكم لمدينة واشنطن، عاصمة الولايات المتحدة الاميركية. نجاح بيري كان مفاجئا، كما اشارت الصحيفة في عنوانها الرئيسي بعد ظهور النتائج، وتسأل السيدة الناشرة في تعليقها: كيف يمكن ان »نفاجأ« بفوز كان متوقعا، ولكن، بسبب وجهة نظرنا الذاتية، كنا نرفض ان نراه؟ وتشير الى ان الناخبين لم يتم اختراعهم فجأة، كما انهم لم يتغيروا بين يوم وليلة، وكانوا موجودين باستمرار، وجاهزين ليعبروا عن وجهة نظرهم، غير ان اسرة التحرير اختارت من بين هؤلاء الناخبين من يؤكد »موقف« الصحيفة المعارض لانتخاب بيري. وتكشف السيدة الناشرة عن الخط الفاصل بين »الموقف« وبين »المعلومات«، فتقول ان من حق الصحيفة ان تقف ضد بيري الذي سبق ان استقال بعد ان ضبطه رجال »الاف. بي. آي« وهو يتعاطى الهيرويين مع صديقته في احد الفنادق، ولكن ليس من حق الصحيفة ان تلغي »الحقيقة« التي تمثلها غالبية الناخبين لتأكيد هذا الموقف، وبعد ان اعتذرت السيدة الناشرة من هذه »الغالبية« وعدت ان تشمل استطلاعات الرأي اوسع شريحة من المواطنين كي لا تقع الصحيفة وليس القراء في مفاجآت اخرى.
كلينتون ام سيمبسون
وثنائية المعلومة والموقف تتجدد في ثنائية »الشعبية« و»المهنية«، فالصحيفة عادة تسعى الى اكتساب اكبر عدد من القراء، ولكن ليس على حساب المهنية، ونعود الى »واشنطن بوست« فقد واجهت في يوم واحد خيارين: الخطاب »التاريخي« للرئيس بيل كلينتون بعد فوز الجمهوريين في الكونغرس. ثم بداية »محاكمة القرن« للمتهم »او. جي. سيمبسون« الذي حوله الاعلام الاميركي الى ظاهرة كونية، خطاب الرئيس لم يكن مثيرا فهو لم يعلن الحرب على منافسة ولا حتى هدد باعلان الحرب، وكان مساوما، بينما محاكمة »سيمبسون« جعلت من كل اميركي متراسا على خطوط التماس. صحيفة »واشنطن بوست« اختارت »خطاب الرئيس« مانشيتا لها. قالت في تعليق لاحق: ان الخيار كان قاسيا، فالشعبية مغرية، ولكن الرئاسة الاميركية كانت دائما وسوف تبقى احدى اسس المجتمع المدني والحضاري الاميركي بينما سيمبسون، رغم شعبية المحاكمة، فهو ظاهرة مهمة ولكنها عابرة.
وهناك ثنائية اخرى هي ثنائية القومية والمحلية.
صحيفة »واشنطن بوست« كتبت تقول انها تركز جهودها على تغطية ولاية ميريلاند وولاية فيرجينيا والعاصمة واشنطن. قبل 10 سنوات كانت »البوست« صحيفة قومية تسعى الى تغطية الولايات المتحدة كلها. وعلى النقيض منها صحيفة »يو. اس. اي. تودي« التي يزعم الناشر فيها انها الصحيفة الاولى في اميركا، وان توزيعها يصل الى مليوني نسخة يوميا. »يو. اس« تقول ان سر نجاحها هو في عدم وجود »مقر رئيسي« لها في اية ولاية، اي انها ليست محسوبة على ولاية بالذات، بينما »لوس انجلس تايم« تحسب على كاليفورنيا، و»نيويورك تايمز« على نيويورك… وبالتالي فان »يو. اس. اي. تودي« تحرص على تغطية جميع الولايات ولكن هذا وحده لا يفسر نجاحها، اذ ان صحيفة »وول ستريت جورنال« توزع يوميا مليون ونصف المليون نسخة مع انها تصدر من مدينة نيويورك، وفيها المقر الريسي للصحيفة، ولكنها تكسر حدود الجغرافيا عندما تختار ان تخاطب »طبقة« معينة على المستوى القومي، وقارئ صحيفة »وول ستريت« اذا لم يكن مليونيرا فانه يحلم ان يكون مليونيرا.
الشفاه… والقريدس
ولا صحافة من دون تخصص…
كنت اقوم بتغطية مؤتمر للادباء والناشرين في نيويورك، وقد شارك فيه ما يزيد عن 30 ألف مؤلف وكاتب(!)، توزعوا في فنادق المدينة، وفي اليوم الثاني للمؤتمر كنت اجلس في بار فندق »وارلدوف استوريا« والى يميني شاب يافع، وعن يساري سيدة ممتلئة بالعافية.
بعد »التسخين« سألت الشاب: هل انت مؤلف؟
اجاب: ليس بعد، وضعت كتابا عن »شفاه المرأة« واعمل حاليا مديرا للتحرير في مجلة »بلاي بوي« المجلة لمن لا يعرفها تنشر صور المرأة ربي كما خلقني« وتقوم بمقابلات سياسية فاضحة وتابعت الحوار:
ولكنك ما زلت شابا، عادة يحتاج الصحافي سنوات قبل ان يصل الى ادارة التحرير… وغالبا لا يصل.
انا لم اصل تماما، انني مدير التحرير المتخصص بشفاه المرأة، وسوف يستغرق الامر سنوات، قبل ان اصبح مديرا لتحرير »النهود«، يعني، كما يحدث في المجلات الاخرى، ولكننا في »البلاي بوي« نهبط كلما ازدادت خبرتنا، بينما انتم تصعدون(!).
قلت بحسد: اعتقد ان مهماتك شاقة…؟
تمامù. عليّ ان اتفحص في اليوم الواحد ما يزيد عن 100 زوج من الشفاه، وان اختار من بينها ما يصلح للنشر، ونحن نتعرض لمنافسة غير اخلاقية مع مجلات اخرى تركز على ارداف المرأة لتخفي جهل القائمين عليها بالجمال الهائل الذي تختزنه شفاه النساء(!).
وهنا تدخلت السيدة التي تفيض بالعافية في الحوار، قالت: انت محظوظ بالتأكيد، اذ لا يستطيع احد ان يسرق شفاهك بعد النشر، معي الحال، يختلف فقد وضعت كتابا عن »طبخ القريدس مقليا« وهو ما اخذ مني جهود خمس سنوات، لافاجأ في العام الماضي بأن سيدة قد نقلت الكتاب حرفيا، ولكنها جعلت العنوان »طبخ القريديس مشويا« وعندما اقمت الدعوى عليها، اصر القاضي الغبي على ان هناك فرقا كبيرا بين المقلي والمشوي و… خسرت القضية(!).
رافع شوقي
السفير، 2831995