يثبت “الفلسطيني” مرة أخرى، وعبر الاتفاق مع “الإسرائيلي” أنه “فدائي” وأنه مستعد لأن يتحمل وحده الأعباء التي كان يفترض أن تتوزعها دول كثيرة مؤسسات كبيرة في طليعتها الأمم المتحدة.
فبين معاني الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، أو بين نتائجه بصيغة أدق، أن يتولى “الفلسطيني” ونيابة عن إسرائيل تحمل أوزار التركة الثقيلة لدهور الحرب التي نجمت عن الصراع العربي – الفبين معاني الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني، أو بين نتائجه بصيغة أدق، أن يتولى “الفلسطيني” ونيابة عن إسرائيل تحمل أوزار التركة الثقيلة لدهور الحرب التي نجمت عن الصراع العربي – الإسرائيلي على فلسطين وما جاورها من الأرض العربية.
لقد تخففت إسرائيل من أحمال ثقيلة كانت تنوء تحتها، بعدما تطوع “الفدائي” الفلسطيني لأن يأخذها عنها، ولأن يتنطح لحملها أو لنقلها إلى ظهور العرب المعدة لأثقل الأحمال.
كل الإرث الذي خلفته قضية فلسطين، أو نجم عن تطوراتها في مراحلها المختلفة، جيرته إسرائيل الآن “لحساب” شريكها الجديد، الفلسطيني، وأهله الذين لا يمكن أن يتخلوا عنه من العرب.
لقد انفتح، مع الاتفاق “المفاجئ” الدهليز المغلق على المشكلات جميعاً، منذ 1948 وحتى اليوم، وجاءت الفرصة لأن تدخل الشمس فتتوضح المعالم المطموسة وتتبلور وتظهر مجدداً العناوين التي كان قد محاها الإهمال والانشغال عنها باليوميات الطارئة.
وتدريجياً ستبرز مشكلات سبقت القرار بتقسيم فلسطين، ومشكلات أعقبته أو نتجت عنه مباشرة أو عن عدم تنفيذه،
… ومشكلات سبقت العدوان الثلاثي، أو حرب 1956، فمهدت لها، أو ولدت عبر نتائجها السياسية التي شطبت الكثير من نتائجها العسكرية، وإن هي لم تلغها كلية، لاسيما على الصعيد الفلسطيني،
… ومشكلات كالتي كانت قائمة عشية الهزيمة القومية الشاملة في 5 حزيران 1967، وتلك التي استولدتها هذه الهزيمة على مختلف الصعد، وعلى الصعيد الفلسطيني أساساً.
… ومشكلات ما قبل أيلول 1970، في الأردن وما بعدها، خصوصاً وإن العديد من هذه المشكلات قد انتقل بأهله إلى أقطار أخرى أولها لبنان،
ثم هناك مشكلات ما بعد حرب تشرين 1973 وما بعدها، ومشكلات ما قبل الحرب الأهلية في لبنان 1975 – 1990 وما بعدها، وما أكثر القبل والبعد،
وأخيراً وليس آخراً فهناك مشكلات ما قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وما بعده، وصولاً على حرب الخليج الثانية وما نجم عنها متصلاً بشعب فلسطين ودوره ومستقبله فوق الأرض العربية خارج فلسطين.
من خلال هذا الشريط الممتد طوال خمس وأربعين سنة، بكل التحولات والتقلبات والتطورات التي شهدها، تكتسب فلسطين مواصفات “العالم” وليس “البلد”، ومن خلال النتائج يبدو شعب فلسطين وكأنه مجموعة من الأمم وليس بعضاً من أمة واحدة،
فثمة الآن أصناف من الفلسطينيين الذين تتباعد وتختلف وتتباين ظروفهم إلى حد التصادم الحاد:
هناك فلسطينيو الارض المحتلة في العام 1948، وهم قد غدوا “مواطنين في دولة إسرائيل”، دولة العدو، لكنهم – نظرياً على الأقل – ما زالوا فلسطينيين،
وهناك “أمة الضفة” أو فلسطينيو الضفة،
وخارج هؤلاء، نظرياً وعملياً وليس ضمنياً، فلسطينيو القدس الشريف، وهم ممنوعون من أن يكونوا فلسطينيين وممنوعون في الوقت نفسه من أن يكونوا “مواطنين إسرائيليين”،
وهناك فلسطينيو “أمة غزة”،
وهناك أمم الشتات: أمة فلسطينيي لبنان، وأمة فلسطينيي الأردن، وأمة فلسطينيي سوريا، ثم الأمم المتناثرة في بطاح كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية،
ولقد كان لكل واحدة من هذه “الأمم” مشكلاتها العملية، التي كان يمكن أن تتحول إلى عبوة ناسفة للكيان الإسرائيلي أو للادعاءات الإسرائيلية التي تبدأ بادعاء إنها “ضحية العنصرية” في حين إنها “أول العنصريين في التاريخ وآخرهم في عالم القرن العشرين”،
كذلك كانت المشكلات العملية للبشر المنتمين إلى هذه “الأمم” مسؤولية إسرائيلية محسوسة، فبعضها ناجم عن الاحتلال الإسرائيلي بذاته، وبعضها الآخر ناتج عن المشاريع التوسعية لهذا الاحتلال والتي حاول اعتمادها كسياسة ثابتة ووفر لها الدعم الدولي الضروري، سواء على المستوى المعنوي أو خاصة على المستوى المادي.
كل هذه المشكلات مرشحة الآن لأن تغدو ضمن حساب الطرف الفلسطيني، إذ أن “الاتفاق” تضمن في ما تضمنه تنازلاً إسرائيلياً عن المسؤولية المباشرة عنها وقبولاً فلسطينياً بقبول المسؤولية وتحملها بالنيابة عن الطرف الذي استولدها أو خلقها سواء بالاحتلال أو بالتوسع الاستيطاني، أو بأوهام المشروع الإمبراطوري.
وما من شك في أن هذا “التجيير” للمسؤولية إنجاز إسرائيلي باهر، وعبء منهك ستنوء تحته القيادة الفلسطينية التي استذكرت “روح الفداء” وهيتتطوع لعملية استشهادية من طراز فريد: الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني.
ماذا تملك منظمة التحرير الفلسطينية مما يؤهلها لحل كل هذه المشكلات التاريخية المعقدة والمنهكة والتي كانت تحتشد في الدهليز العميق المحروم من نور الشمس ومن الهواء بحيث يجتاحه العفن والعتمة المشبعة بالرطوبة والعنصرية المعتقة بالإهمال الدولي؟
وهل هذه الصرخات “العربية” التي تتعالى من هنا وهناك، والتي كان أحدها ما ارتفع في بيروت وبلسان رئيس الجمهورية، هي الإعلان المدوي عن الذعر من أن يكون قد فرض على العرب، أو بعضهم، أن يحلوا هم المشكلات الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، في حين تكتفي إسرائيل بالتنعم بالخيرات التي أتاحها أو أباحها لها الاتفاق مع القيادة الفلسطينية؟!.
لكأنما أتيح لإسرائيل أن تحل مشكلات توسعها ومستوطنيها الجدد على أرض فلسطين، في حين يطلب من “الدول” العربية أن تتولى هي حل هذه المعضلات الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي، وبالتحديد منها مشكلة من صاروا اليوم “فلسطينيي الشتات”، وما كانوا ليكونوا كذلك لولا الاحتلال الإسرائيلي، ولولا سياسة التوسع الإسرائيلي التي لم تتوقف في الماضي، وليس من ضمانة في إنها ستتوقف اليوم بما يطمئن “الدول” العربية على حدودها؟!.
مستحيلة هي مناقشة الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني بنصوصه الجامدة، والمبهمة أحياناً، خارج التطورات والتحولات التاريخية والنتائج السياسية التي استولدها الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي تحول في العقدين الأخيرين إلى نزاع فلسطيني – إسرائيلي.
إن الاتفاق يجسد محاولة لوضع نقطة نهاية في قضية صراع مفتوح منذ بدايات هذا القرن.
ومستحيل أن ينتهي صراع امتد قرناً كاملاً، وهو قرن التقدم الإنساني المذهل في مختلف مجالات الإبداع والتطور والاختراع والابتكار العلمي، بكل نتائجه السياسية المفترضة، باتفاق غامض النصوص وملتبس العبارات يوقعه كل من إسحق رابين وياسر عرفات تحت الرعاية الأميركية.
إنه صراع من طبيعة تاريخية، لا يملك أحد أن يصفيه أو ينهيه أو يطوي أمره بإحالته على جيل آخر،
فكيف إذا كان الاتفاق يوحي بأن مجمل المشكلات الناجمة عن قيام إسرائيل وزوال فلسطين ستجير إلى الطرف العربي ليتحملها نيابة عن طرفي الاتفاق؟!
ومفهوم أن يكون إسحق رابين، ومعه شمعون بيريز وأكثرية الإسرائيليين متحمسين لهذا الاتفاق الذي أسقط عنهم المسؤولية التاريخية عن جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، تماماً كما أسقطت – من قبل – مسؤولية اليهود عن صلب السيد المسيح،
ولكن لماذا يتحمس الطرف العربين أو لماذا ستراه يقبل أن يتحمل فوق واقع الاحتلال وعبء مشاريع التوسع الإسرائيلية، مسؤولية مسح الىثار السيئة والجرائم البشعة، حتى لا تتشوه صورة الإسرائيلي؟!
ثم من قال إن الطرف العربي، قادر على إنجاز مثل هذه المهمة القذرة؟! وقادر على تحمل نتائجها بفرض أنه سيتولاها؟!
لكأنما على العربي ليس فقط أن يقبل بواقع الاحتلال، بل كذلك أن يحسن صورته بحيث يبدو وكأنه بعثة تبشيرية جاءت لتحضر “الأعرب” و”البدو” المتخلفين في هذه المنطقة، ثم يطرز له بعد ذلك برقيات الثناء والشكر على إنقاذه من واقعه البائس والظالم؟!
ولعلها المرة الأولى عبر التاريخ يطالب فيها الضحية بأن يوجه برقية شكر إلى جلاده بينما هو يتدلى مشنوقاً من الحبل المعقود حول رقبته؟!
أترون ما أجمل قاتلي وما أرقه؟!
لقد طلب إلي أن أمسح آثار دمي عن البلاط حتى لا يوسخ يديه لو مسحها، وحتى لا يتهم في إنسانيته لو تركت شاهداً على القاتل إلى جانب جثتي؟!
ومهمة القتيلن الآن، تبرئة القاتل.
وبعد ذلك تجيء السلطة الوطنية على ذلك الشبر من أريحا!!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان