سوء التفاهم
ينظر العربي في المرآة، يرى نفسه. الصورة مهزوزة، فيحتار. هل هي المرآة التي تهتز؟ هل هو نفسه الذي يهتز أمام مرآة ثابتة؟ هل هو يهتز في عالم غير مستقر أمام مرآة مهزوزة أيضاً؟
يدخل الى داخل ذاته. تهتز العقيدة. يفقد الثقة بما حوله. يفقد الثقة بما في نفسه. لا يستطيع الارتكاز الى السماء. يبدو أنها تخلت عنه. الأرض تهتز من تحته. تكاد شظايا القصف تصيبه. الناس من حوله قتلوا بأعداد كبيرة. والخراب في كل مكان. الهجرة دونها الموت على الطريق، أو الذل حيث يستقبلونه. حرب على الإرهاب لا مكان لها إلا على أرضه العربية وما يحيط بها.
بقية الأرض تتشكّل من دول منتظمة أو شبه منتظمة. شعوب تمارس هويتها، كلٌ في دولة. مجتمعات الآخرين لها إطار ناظم. مجتمعه العربي لا إطار له. وإن وُجِدَ فهو سلطة قمعية. يقمعه ويهينه ويذله حكام الداخل والخارج.
ما عاد الدين يقدم الأجوبة. يُكثر من الصلوات فلا يجد ملاذاً. عالم عصي الفهم. هو أصلاً عالم مشوّش. نظام العالم يجعل الفهم صعباً. لكن العربي يشعر أن حالته مختلفة لأن الحرب عنده لا عند غيره (في كوريا سلاح الدمار الشامل موجود، لكن التفاوض وارد). ما الذي عنده من أهمية تجعل العالم يرسل إليه جيوشه كي تتقاتل وتتحارب على أرضه؟ الدين خرج من يده. النفط لعنة. تستفيد منه قلة في الداخل والخارج. موقعه الجغرافي؟ الأرض تتحوّل الى صحراء. مع اضطراب الوعي يتحوّل العقل الى صحراء. عقم داخل النفس وخارجها.
استسلام؟ فليكن. لكن الاستسلام غير مقبول منه. استسلم ولم يَسْلَمْ. تستمر الحرب. وجوده لا يبعث على الاطمئان لدى الغير. كيف يجعل وجوده مقبولاً في الخارج؟ بل كيف يستسلم ويَسْلَمُ؟ هو دائماً موضع شك. يوضع تحت المجهر. قيد المراقبة. هو دائماً في غرفة الاتهام. يسألونه فيجيب. لا بد، في نظرهم، أن يكون عنده شيء خبيء. أما قام بثورة 2011 بشكل مفاجىء؟ الأنظمة الحاكمة عنده لا تطمئن إليه. يقدمون تقاريرهم للجيوش الأجنبية، طالبين أن يستمر القصف لأن الوضع لا يبعث على الراحة. يتساءل الرقيب حول مدى معرفته به، ربما يضمر. الأ يعرفون أنه لا يضمر شيئاً سوى الرغبة بالسلامة. ربما داخلهم الشك أن سلامه الداخلي مفقود، وأنه ربما ينفجر مرة بعد أخرى، حين وحيث لا يتوقع هو أو الآخرون. هي النفس البشرية؛ عميقة الغور. يقيمون نظاماً غير عادل وغير منصف ويريدون منه الركون الى هذا المصير الذي يقررونه له. الأرجح أنهم لا يهتمون بما يريد وبما يضمر، وأنه يزعجهم ما دام باقياً.
سوء الفهم بين العربي والخارج قائم ويستمر. ربما يصير أبدياً. منطقة العربي فاصلة واصلة بين عالمين. هذان العالمان لا يريدانه؟ ولا يكترثان بما يريده؟ ولا يعبآن بمصيره. يريان فيه بيئة التكفير والإرهاب. جريمتان الحكم عليهما بالموت. لا يعترفان بأنه يبحث عن عدالة وعن كرامة وعن عيش فيه الحد الأدنى من مقومات الوجود البشري المتاح للغير.
يراجع هذا العربي تاريخه. يراه بعين العجب أو الاستغراب. في البداية، بعد ظهور الاسلام، جرى التوسّع بالفتوحات لبضعة عقود من الزمن. بعد ذلك كان توسّع الأمة ثقافياً ولغوياً. منذ أكثر من ألف عام تحكم هذه الأمة سلالات وأنظمة من العبيد، أو الذين يعتمدون على العبيد. أحياناً، في أيام حكم المماليك مثلاً، وهو حكم امتد حوالي 200 عاماً، تحوّل العبيد الى سلاطين. في معظم مراحل التاريخ توسّع الوجود العربي، وتوسعت اللغة العربية، لا بالفتح العسكري بل بالثقافة. ليس الزعم هنا أنها ثقافة موحدة، أو يجب أن تكون موحدة. لكنها ثقافة لها لغة واحدة. يحفظ كتابها المقدس عن ظهر قلب حتى الذين لا ينطقون بالعربية.
الذين منهم سموا نفسهم عرباً وجدوا طبيعياً بعد الحرب العالمية الأولى، ومع تصاعد حركات التحرر القومي، أن يشكلوا أمة وأن يكون لهذه الأمة كيان سياسي. فشلوا في ذلك. وكان قيام دولة إسرائيل في عام 1948 هزيمة نكراء، رغم موازين القوى. توالت أشكال المقاومة. برهن ادعاء الأمة أنه ما زال على قيد الحياة. شعوب هذه الأمة قامت بثورة 2011. طالبوا بحياة من نوع آخر، غير ما اعتادوا عليه.
يستغرب هذا العربي، الذي ينظر في المرآة، تاريخه كما يستغرب الآخرون. لا بل هو يشكك أكثر مما يفعله الآخرون.
قدره أن يبقى. مكتوب له أن يشقى. أن يبقى وأن يشقى معاً؛ هذه مشكلته ومشكلة العالم. البعض يحب أن يسمي ذلك إشكالية.
يدرك في آخر جلسة مع المرآة أن المشكلة الحقيقية هي سوء فهم العالم. سوء فهم العالم له. وسوء فهمه للعالم. كيف يبدأ من جديد في فهم العالم؛ في الانخراط فيه؛ في تجاوز ما هو عليه؟ سؤال يتوجب الجواب عليه ما دام البقاء قدر.
ينشر بالتنسيق مع موقع الفضل شلق