متعب أن تنتمي. لا راحة لمؤمن بقضية، ولكن…
كان الانتماء، من زمن ما غير بعيد، يملأ الانسان العربي ايماناً ونضالاً وتوقعاً. كانت الأمة حضناً لإمكانات كثيرة: الوحدة، الحرية، الاستقلال، العدالة، الديمقراطية، التقدم. حظنا من ذلك الزمن، الانكسار. تخّلع كل شيء. مادت الأرض وتشتتت. عدنا إلى العصور المظلمة. عصور بلا ضوء ولا رجاء. حصتنا من البقاء، الحزن على ما فات واليأس مما آتٍ، والخوف على ما هو الحال.
ليس لنا في هذا العالم موطئ لحلم ضئيل. جل ما نطمح اليه، تباطؤ سرعة النزول إلى الهاوية. إن أي سياحة في الأرض العربية محفوفة بالدم والمواجع. مكان اقامتنا، حضور احتفالات النحر والانتحار في سوريا، في العراق، في اليمن، في مصر، في ما تبقى من دول خائفة من دينها على ايمانها. لبنان استثناء. يحتفل كل يوم بالجدل البيزنطي بين طوائفه وزعاماته الصغيرة جداً. نوع من الهبل السياسي. شيء من جنس العبث. مشاهد من العداوات بين متشابهين. أفضلهم من يكذب أكثر، من يفجر أكثر، من يحارب طواحين الطوائف بسيوف الطوائف.
لكن، في مكان ما من هذه الامة المدنفة، مساحة للصدق، حيث يطيب الانتماء، حيث للموقف شجاعة التفاؤل، حيث لليل خاتمة الصباح، وحيث للريح مسالك الحركة والتغيير. ففي اشد ساعات الحلكة من العتمة، ينبجس “ماء وملح”، وفي اشد الاستعصاءات، يحضر ما يجعل التلبية بحجم النداء عندما يعلو: “يا أشرف الناس”.
لفلسطين عبقرية البقاء على صليبها. لها حظ القيامة والحرية. لا يمكن تعداد العذابات منذ قرن: وعد بلفور، تواطؤ بريطانيا، اقامة المستعمرات، حروب العصابات: “الهاغانا” و”شترن”، ثورة العشرين، ثورة الـ 36، العصيان الدائم، التخلي العربي، خطة “دالت”، النكبة، اللجوء الموجع والمذل وعذاب الهجرة وفقدان كل شيء، بما فيه طعم الحياة. نكسات وهزائم وطعن من كل الجهات. قاتل الفلسطيني بما ملكت يداه. قاتله الاسرائيليون والعرب في كل الامكنة.
استشهد وفاوض… لم يحظ بغير الخسران. امتشق دمه، شهر حجره، سن سكينه، ثم… انتفاضة “الماء والملح”… برغم كل ذلك، ما زال يقول لا. فلسطين بلادي السلطة التي على فلسطين مشتبهة. هي فلسطينية قليلاً ومع ذلك، لم تستسلم.
تعوزنا الذاكرة قليلاً. نحن على مقربة من الخامس والعشرين من ايار. لم يسبقه يوم، يوم لا يشبه أيا من ايام العرب. يوم الحرية والتحرير. المقاومة في لبنان، انجزت وعدها. صدقت مع الامة والزمن. طردت الاحتلال من الجنوب والبقاع. لبنان ابجدية التحرير.
لا، ليس كل ما في هذه الامة يشبه حالها اليوم، من فتك وتوحش ونحر وانتحار. لبنان، الذي استدعى بعضه اسرائيل لنجدته على أخوته، نجا من الفتنة بعد التحرير. لكنه اليوم، بعيد عن روح النضال الوطني، ومستغرق في كتابة نص الانشقاق والعبث، وداشر في ازقة النهب والسرقة والانتهاز والتخلي. لبنان السياسي، لا يشبه لبنان المقاوم ابداً. مقاومة اسرائيل في لبنان، كانت أسهل بكثير من مقاومة الطائفية والفساد ورجالات هذه وتلك.
بلاد “يا أشرف الناس” بعد التحرير غارقة في “يا أتعس الناس”. شيء يدعو إلى اليأس.
لولا فلسطين والخامس والعشرين من أيار، لما طابت الاقامة في بلاد تعاقر الهاوية وتستطيب الاقتتال فيها.
لفلسطين نبوءة الغد. للخامس والعشرين من أيار، آية الاقتداء.
فقط هنا، يطيب الانتماء، ويصير الايمان برتبة : “كن فكان”.