غزة ـ حلمي موسى
توقفت الحرب على إيران، إلّا أن الحرب على غزة مستمرّة. ففي غزّة بدأت الحرب، وهي لن تنتهي إلا من غزّة، حيث المقاومة بقيت حتى اليوم الأخير من الحرب على إيران تقول كلمتها، وتشعل الغضب في نفوس قيادات العدو.
وتعدّ عملية “القسام” ضد “كتيبة الهندسة القتالية”، والتي أودت بحياة سبعة من ضباط العدو وجنوده، واحدة من العمليات الأشد إرباكا لجيش الاحتلال.
والعملية محرجة من كل النواحي، خصوصا أن مقاوما اعتلى العربة المدرعة المبنية على دبابة “سنتوريون” وقام بإلقاء عبوة في داخلها من دون أن ينتبه لوجوده أحد. وفي عملية سابقة، اعترف جيش الاحتلال بأن ناقلة الجند المدرعة التي لاحقها مقاومون وهربت منهم، كان في داخلها أحد قادة الجيش الاسرائيلي الكبار.
كما خلصت التحقيقات الإسرائيلية إلى أن “نمط ملاحقة المقاومين للمدرعات الإسرائيلية في غزة ليس حدثا منفردا بل هو متواصل ومتكرر”.
ونشر الصحافي نوعم أمير التالي:
“شاهدت الآن الفيديو المروّع لكارثة الناقلة المدرعة في خانيونس – على رئيس الأركان هذا المساء أن يتصل بقائد الفرقة 36 ويرسله إلى البيت”. وكشفت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن “فيديو القسام الذي أظهر قبل أيام انسحاب آلية من خانيونس بعد إطلاق النار نحوها، كان بداخلها أحد كبار قادة الجيش في المنطقة الجنوبية وأصيب في الحدث ضابطان من قادة الفرقة العسكرية بجروح طفيفة”.
ووفق التحقيقات الأخيرة لجيش الاحتلال، نقل المراسل العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت” يوآف زيتون التالي:
“وقعت كارثة خان يونس تحديدًا في الوقت الذي بدأ فيه جيش الدفاع الإسرائيلي بتوسيع نطاق قتاله ليشمل المناطق المركزية في أكبر مدن قطاع غزة، حيث بقي اثنان من أخطر معاقل “حماس”، وهما البلدة القديمة ومخيم اللاجئين. ومع وقف إطلاق النار مع إيران، من المتوقع أن تقرر المؤسسة الأمنية والقيادة السياسية في الأيام المقبلة إذا كانت الألوية ستعطى لقتال أوسع نطاقًا في غزة، أو لعقد صفقة أسرى شاملة من شأنها أن تؤدي إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد وانسحاب القوات من القطاع.
وخلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، فحصت “الفرقة 36” والقوات البرية في الجيش النتائج الأولية لناقلة الجنود المدرعة التي احترقت وتضررت بشدة بعد نقلها إلى “إسرائيل”، كجزء من التحقيق في الحادث الخطير، والذي مازال جاريًا في القيادة الجنوبية. ولم ينجُ قائد الفصيلة ومرؤوسوه الستة – الذين كانوا في مركبة قديمة الطراز تفتقر إلى أنظمة حماية فعالة كالسترات الواقية – من الكارثة، واستمرت مهمة التعرف على جثثهم لساعات طويلة حتى الليل. ومن أهمّ الأمور التي يتم التحقيق فيها هو الاشتباه بإدخال أسلحة متفجرة إلى ناقلة الجنود المدرعة، بعشرات إلى مئات الكيلوغرامات، إلى جانب المقاتلين، بطريقة عرضتهم للخطر، مع الاشتباه في انتهاك إجراءات السلامة التشغيلية.
خلال القتال الطويل في غزة، وقع عدد من الكوارث المماثلة في ناقلات جند مدرعة أكثر حماية، مثل مركبات NMR، كان من أهمّ الدروس المستقاة أنه يجب فصل العبوات الناسفة والمواد المحمولة والمنقولة لتدمير الأنفاق أو المباني والتعامل معها بطريقة مختلفة وأكثر أمانًا أثناء الهجوم. منذ هذه الكوارث، التي أودت بحياة العديد من المقاتلين منذ بداية الحرب، حرص الجيش الإسرائيلي على نقل المواد المتفجرة بشكل أكثر أمانا، حتى لا تُفعّلها طلقات “آر بي جي” أو عبوة ناسفة مثبتة في مركبة عسكرية تحمل متفجرات، وفي حال حدوث ذلك، تكون عند مسافة نسبية عن المقاتلين، لتقليل المخاطر.
وقد قدّر الجيش في البداية أن الإرهابيين ألصقوا عبوة ناسفة كبيرة من نوع “شواظ”، أمس عند الظهيرة وفي وضح النهار، على ناقلة الجنود المدرعة (POMA) والتي كان على متنها المقاتلون السبعة، والذين لم ينجُ منهم أحد، كما ذُكر. إلا أن وثائق الحادثة التي نُشرت كجزء من دعاية “حماس” تُشير إلى أنه، وخلافًا للتقييم الأولي، لم تكن عبوة “شواظ” المرتجلة مثبتة على ناقلة الجنود المدرعة، بل ألقاها الإرهابي الذي ركض نحو ناقلة الجند وتسلق عليها، وألقى العبوة في حجرة المقاتلين من خلال فتحة القائد – التي كانت مفتوحة ومكشوفة.”
على صعيد آخر، يزداد تفكير الإسرائيليين بما يجب فعله مع غزة في “اليوم التالي”. ومعروف ان وزير الأمن إيتمار بن غفير مازال يؤمن بطريقة (الرئيس الأميركي دونالد) ترامب القائلة بفتح الجحيم على غزة وطرد اهلها. ولكن بعد كل ما جرى، تزداد القناعة في اسرائيل أن غزة هي الحصن الأخير والذي يدفعهم للاعتقاد بأن اسطورة “متسادا” (المعركة الأخيرة في الحرب الرومانية اليهودية الأولى) هي أقرب الى مزحة مقارنة بما يحدث في غزة.
وذهبت إسرائيل نحو حل تحايلي متمثل بالفوضى وعصابات أبو شباب. ولكن يبدو أن حظوظ نجاحه قليلة. فقد كتبت عيناف لحبي في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، تحليلا بعنون “صعوبة السيطرة على القطاع، والخوف في غزة: الرهان على ميليشيا أبو شباب – مصيره الفشل”، جاء فيه:
تواجه ميليشيا أبو شباب، التي سلّحتها إسرائيل في غزة، صعوبة في ترسيخ سيطرتها الفعلية على القطاع. وبرغم انضمام نحو أربعمئة غزاوي إلى صفوفها، مازالت تعمل بشكل رئيسي في المنطقة العازلة برفح، ولا تستطيع العمل خارج حدودها بأي شكل يُذكر. في غضون ذلك، تتفاقم الفوضى الإنسانية في القطاع، حيث تؤدي الصراعات على السيطرة على الغذاء وتوزيعه إلى مقتل غزيين يوميًا بالقرب من مراكز توزيع المساعدات.
وكان قد ورد في بيان صادر عن الميليشيا، التي ذُكر اسم زعيمها سابقًا في مذكرة داخلية للأمم المتحدة كمسؤول عن النهب الممنهج للمساعدات الإنسانية: “نتوقع حلاً فوريًا لمشكلة سرقة المساعدات. وسيتم التوزيع وفقًا لآلية جديدة تضمن وصول المساعدات إلى كل مواطن”. مع ذلك، لم يتضح بعد إذا كانت الميليشيا ستشارك في توزيع المساعدات، وكيف، وبأي شكل، في حين تواصل مراكز صندوق المساعدات الأمريكي GHF عملها في قطاع غزة.
في الوقت نفسه، اتهم نائب قائد الميليشيا غسان دهيني “حماس” بقيادة عملية نهب منظمة للمساعدات، ودعا سكان غزة إلى تزويده بأسماء وصور ومواقع عناصر المنظمة الإرهابية في مناطق مثل خان يونس ودير البلح والنصيرات والشجاعية والصبرة. وقال: “كل تفصيل يُقرّبنا من تحقيق العدالة والثأر لدماء الأبرياء”.
مع ذلك، لا توجد ثقة كبيرة بين سكان غزة بأبو شباب، وبالتأكيد لا يوجد استعداد للانضمام إلى صفوفها. ويقول رجل من غزة: “هذه الميليشيا تتواجد في مكان بعيد، في رفح. من يجرؤ على الذهاب إلى هناك؟ الطريق خطير، وقد يتعرض المرء للأذى بسهولة. ومن سيثق بأبو شباب؟ هذه جماعة نهبت وسرقت وقتلت. هو (ياسر أبو شباب) نفسه كان في السجن. كيف تعرف أنه لن يقتلني أو يقتل أطفالي؟ يبدو الأمر أشبه بفخّ موت.”
وينبع خوف سكان غزة من وجودهم في مناطق مازالت تحت سيطرة حماس فعليًا، ومن احتمال اعتبارهم متعاونين. بالأمس فقط، أفادت شبكة “القدس” الفلسطينية، التابعة لحماس، أن المنظمة الإرهابية أعدمت ثلاثة “متعاونين” مع إسرائيل. وكانت حماس قد صرحت سابقًا بأنها ستنفذ عمليات إعدام ضد المتعاونين ولصوص المساعدات.
أيضًا، على الصعيدين الاجتماعي والمحلي، فإن وضع الميليشيا بعيد كل البعد عن الاستقرار. لقد أوضحت العشائر الكبيرة والعائلات المؤثرة في قطاع غزة معارضتها لوجودها واستنكارها لأي صلة بها. بالنسبة للكثيرين، لا يعدو أبو شباب أن يكون محاولة إسرائيلية مصطنعة لخلق واقع حكومي جديد، وهو ما يرفضه القطاع نفسه.
بعد الكشف عن تسليح إسرائيل لأبو الشباب، صرّح مسؤول أمني رفيع المستوى في السلطة الفلسطينية لموقع Ynet أن الميليشيا مدعومة من إسرائيل والسلطة الفلسطينية في آن، ومن المسؤول السابق في حركة فتح محمد دحلان. أضاف مسؤولو السلطة الفلسطينية أن أعضاء الميليشيا يتلقون رواتبهم من السلطة، برعاية شخصية من بهاء بعلوشة، ضابط المخابرات الفلسطيني الكبير في غزة.
يبدو أن مقامرة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بإنشاء قوة محلية كبديل لحماس في قطاع غزة – حتى الآن – قد فشلت فشلاً ذريعاً. فالقطاع لا ينضم، والغزيون مترددون، وخوفهم يتزايد.”