عامر الفاخوري عاد إلى لبنان. لم يكن متسللاً. كان على يقين بأنه طليق اليدين بأوراق ثبوتية، تؤكد انتماءه إلى اميركا، ودخل مصحوباً بضابط غير متخف، متوقعا، أن كل شيء على ما يرام، وأن الطريق مفتوحة له.
ولكن…
عامر الفاخوري ضُبطَ. فجأة تذكره ضحاياه. حضر معتقل الخيام بكل ارتكاباته. الفاخوري ذو ماضٍ اسود. لا يستطيع انكاره. لكنه متسلح “بمواطنية” اميركية، توازن مواطنيته الاسرائيلية. وكبرت كرة العمالة.
ولكن…
تبين أن في “الدولة” اللبنانية، أيادٍ خفية. تمحو الجريمة او تضعها في الادراج. وتبين في ما بعد، أن “الشعوب” اللبنانية ذات انحيازات وولاءات متناقضة. ضحاياه، جن جنونهم. الفاخوري المجرم بيننا. فتحت جراحات المعتقل. استعاد الناجون الايام السود.. تذكروا أن اجسادهم كانت مرتهنة للتعذيب والتشطيب والعزل والاهانة و… القتل. وان على رأس اوركسترا التعذيب، الفاخوري بذاته. أما “المواطنون” المودرن، فصدمهم “الانحياز”. الشاشات لم تستطع التهرب من المجرم، ولكن بعضها، قال: “انه ليس الوحيد”. فلكل فريق سفاحه، او سفاحوه، وكادوا أن يفتحوا ملف الحرب الاهلية بكل فظاعاتها وسفالاتها وهمجيتها، وبدأت المقارنة المتوازية، بين “عميل وطني”، و”عميل غير وطني”، فهل يتساويان ام أن هناك غالب ومغلوب؟ والله عيب.
ولكن…
هذا هو لبنان. معظم الاحيان هو بالمثنى. مع السعودية ومع إيران. مع امريكا ضد أي كان. مع سوريا وضدها إلى حد القطيعة. فتحت الاضبارات الممنوعة، وتداول الناس كلاماً استعيدت فيه مآثر الجبل. مذابح متناوبة. واحدة بقيادة جعجع واثنتان بقيادة جنبلاط. اختفى الضحايا. نسيهم الجميع. حتى اهاليهم الملتاعين تقاعدوا عن احزانهم. ملَّوا الحقد والتشفي. يتموا ضحاياهم. ما عادوا يتذكرونهم. الزعماء اهم من الشهداء. والدليل، أن المرتكبين الكبيرين الاثنين، صارا قائدين متحالفين، وجماعاتهما تصيح: بالروح، بالدم، نفديكما. ولا ينفرد الجبل بالمذابح. كان لطرابلس حصتها. والنتيجة، أن احداً لم يعد يتذكر شهيداً، والجميع يتذكر ويرفع راية النصر للخصمين او للخصوم المتصالحة… ضيعان الشهادة ويا لخسارة الدماء ودموع الامهات.
والجنوب لا يشذ عن الحروب السالفة. ضحاياه منتشرون جنوباً وجبلاً وعاصمة. محا “السلام” اللبناني الجريمة. نظف المرتكبين. غسل أيديهم وأنعم عليها بالخير واليمن والبركات وتدفقات المال. أما بيروت، عاصمة المقابر ومذابح الحواجز وضحايا القاء الجثث في البحر، واعانة العدو الاسرائيلي على تدمير بيروت تمهيدا لاحتلالها، فقد جرى اصدار عفو عام، تمت فيه تبرئة عشرات القادة المرتكبين، ثم جلسوا معاً على طاولة الحكم، وطاولات الطعام، كأن ضربة كف واحدة لم تقع. ثم، تحالفوا وتخالفوا وتعانقوا وتواعدوا وتوعدوا، كأشقاء أشقياء، وبهذه السياسة عادوا وحكموا البلد، ثم نهبوه، والناس على دين نهابيها.
عامر الفاخوري عاد إلى لبنان. جريمته مريعة وتعاطيه معها لا يدل على انه نادم او طالب غفران. هو مزوَّد بانتساب اسرائيلي وجواز سفر اسرائيلي. انه اسرائيلي بالتمام والكمال. وفي عصر “صفقة القرن”، وفي الزمن العربي الزاحف إلى مراضاة ومؤاخاة اسرائيل، يصبح جواز السفر الاسرائيلي، فعل ريادة، لا فعل خيانة. وعليه، فان الدولة محرجة. ليست مرتاحة ابداً بهذه الزيارة. جاءت في غير موعدها. وقبل أن يتم تنظيف اضبارات العملاء والمجرمين من العمالة والجرائم. أما وقد وقع الفاخوري في يدها، فما عليها سوى أن تنتظر الفرج. هل تخضع “للمواطنية الاميركية” التي يتسلح بها مجرم معتقل الخيام، ام ترثي لحالها لأنها، مهما فعلت، تكون في ورطة، وخاصة وان ضحايا المعتقل، حضروا وباتوا يقرعون الضمائر بقبضات يفيد رسم المشهد المأساوي الدامي الذي ما زال ينز ثأراً وحقداً وحقاً.
ولكن…
لبنان، لم يشف من حروبه. اللبنانيون منقسمون وكأنهم عشية بوسطة عين الرمانة. استذكار رئاسة بشير الجميل المقصوفة دليل. استحضار وسائل التواصل لحبيب الشرتوني ونبيل العلم كبطلين دليل ساطع. لم يخطئ الحكم الصادر بحق الشرتوني، الذي جاء في لحظة التحالف الضبابي جداً بين رأس السلطة والمقاومة وحزب الكتائب وجماهير المسيحيين… كل شيء له تفسير على قياسه. ولذلك، لا يزال حدث الشرتوني راهنا، بوجهيه تماماً. وجه الرافض والمدين ووجه البطل والمحتضن… قانون العفو، عفى عن ارتكابات الكبار بحق الصغار فقط. الصغار الذين قتلوا في الحرب، صاروا مجرد أصفار.
يبقى:
مجزرة صبرا وشاتيلا، المرتكبة بأياد لبنانية ورعاية اسرائيلية، بعد انتخاب بشير الجميل بقوة الامر الاحتلالي الواقع، وبعد قتله مباشرة. تبقى صبرا وشاتيلا وصمة عار في جبين لبنان الرسمي والشعبي. التحقيق بالمجزرة موجود وجاهز وموضَّب. ممنوع مسه وممنوعة قراءته. فلتذهب تلك المذبحة إلى النسيان. إنما كيف؟ فهي ما زالت تنزف حتى اللحظة لهول ارتكابها.
انها ملء الذاكرة.
ثم… إلى آخره.
لم يشف لبنان من حربه. انه في حالة هدنة يقظة. الخصوم يأكلون ويحكمون معاً. لا خوف علينا الا إذا اختلفوا. صلُّوا كي يشبعوا ويتفقوا، والا، أعيد فتح الملفات، كما حاولت بعض الشاشات، التي استعادت تحالف بعض الاحزاب مع سوريا، في زمن الوصاية: اين المخطوفون؟ تذكروا الاقبية والاعتقالات. نبشوا الذاكرة السوداء…
يا الله.
متى يشفى لبنان؟ أم أن امر شفائه مستحيل.
عامر الفاخوري، فتح ملف التفكير بعواقب الحرب، والمصالحات الانتهازية، والتعاون المبتور. لا شيء يمحو تأثير الحرب، سوى الاعتراف بها، وبما ارتكب فيها، وطلب الغفران والمسامحة، وابعاد المرتكبين، كل قادة المرتكبين في تلك الحرب، الذين عادوا حاكمين، بلا وخزة ضمير، لفقدان الضمير اصلاً.
اذا ماذا؟
لننتظر: إما ينتصر أبطال معتقل الخيام على سفاحهم، وإما العار.