دونالد ترامب جاء من تلفزيون الواقع ومليارات الدولارات. فلاديمير بوتين ليس جديداً. تأهل في أجهزة الامن وعرف سر البقاء في السلطة. رجب طيب اردوغان قادم من فروع “الاخوان” في تركيا واحلام السلطنة. يعرف الطريق إلى السلطة والمزيد منها. الرؤساء في إيران يأتون من تحت عباءة المذهب وبركة المرشد.
اما مانويل مكرون، رئيس فرنسا الجديد، فمن أين جاء؟ عمره في السياسة سنتان ونصف. فكيف دخل إلى رئاسة دولة عريقة في الديموقراطية ونظامها الذي يتناوب عليه يمين اصيل ويسار معتق.
شاب دون الاربعين، يقفز في ظرف سنة فقط من دون أي خلفية ليتربع على رئاسة فرنسا. ليس خلفه حزب، لا تراث له، لا مآثر او انجازات، ليس من عائلة سياسية، يغرد خارج كل سرب معروف. لا هو يميني ولا هو يساري ولا هو تقدمي او مجدد. دخل وزارة فرنسوا هولاند لعامين ثم استقال ومنذ سنة أطلق تياره الجديد، فالتف حوله الكبار والشباب وتقرب منه يمينيون ويساريون وباتوا يشكلون قوة أقوى من الجميع. هزم اليمين التقليدي. كان هذا اليمين قد بات متعباً ومشلّعاً وموزعاً. هزم اليسار المائع في اشتراكيته، وأخرجه من الحلبة من الدورة الأولى. فاز على اليمين المتطرف وهو الحزب المتنامي والذي يشكل فزاعة للديمقراطية وللاتحاد الاوروبي والغرباء.
من أين جاء هذا الشاب وكيف وصل، بمشقة عام فقط؟ الجواب من باب التخمين لا من باب المعلومات. لوحظ أن الاعلام احتضنه ومنذ البداية قام هذا الاعلام بتكنيس المرشحين واحداً بعد الاخر. تجند الاعلام في خدمته وتلميع صورته. صحيح أن سيرته ليس فيها ما يشين من مخالفات، كانت قد لوثت سمعة رجال من صلب اليمين ورجال من قلب اليسار. إعلام لم يترك صفة ايجابية لعهد فرنسوا هولاند. كانت رئاسته فاشلة ولكن اليساريين حوله كانوا أكثر تهافتاً وفشلاً وخيانة لليسار…
من يقول اعلاماً، يبني صناعة الواقع لا نقله، وصناعة الحاجة إلى السلطة. كانت فرنسا قد تعبت من يمين فاشل يميل إلى يمين اليمين، ويسار باهت يميل إلى تقليد اليمين. لا اليمين يمين ولا اليسار يسار. سقطا معاً. في مثل هذا السقوط، تسهل مغامرة التجديد، بجديد حقاً، ولو كان مجهولاً من قبل.
ويقال، انه جاء من احضان المصارف والشركات واصحاب الرساميل المليارية. لمثل هذا القول ما يرجحه. ماكرون لم يكشف عن تمويل حملته. القانون لا يفرض عليه ذلك. غيره كشف عن الاموال والتبرعات. هو لم يفعل. ظلت تهمة الحاضنة المالية له، تلاحقه، من دون أن تترك اثرا فيه. نجاح ماكرون يعزى ايضا إلى تهافت خصومه، باستثناء ميلانشون، اليسار الجديد، الذي خاض معركة حقيقية وجديدة وفاز بشرعية التمثيل من دون بلوغ الرئاسة.
أي الطرقات تؤدي إلى السلطة:
هذا السؤال ليس مطروحاً على أي عربي على الاطلاق. العرب لا علاقة لهم بالديموقراطية. انتخاباتهم طالقة والديموقراطية. لبنان المتشدق ديموقراطياً، كذاب. نفاقه الطائفي يغلب الديموقراطية. لا ديموقراطية ابداً مع الطائفية. أما العرب الآخرون، فالسطلة عندهم، اما الوراثة من خلال التناسل البيولوجي، واما بالعسكر، الذي لا يخوض المعارك الا عندما يعلن الحاكم حربه على شعبه او على شعوب جيرانه.
الديموقراطية اختصاص غير عربي من زمان. واليأس العربي مشروع، من حكام مستعدون لأفدح الارتكابات للبقاء في السلطة وفي تأييدها، ابا عن جدود إلى ما لا يحصى من الاحفاد. ملوكاً وامراء ورؤساء. لذا، العرب ليسوا بحاجة إلى افكار او ايديولوجيات. الآيات البينات كافية، وقاتل الله شرور العقل.
من علامات الزمن الراهن، أن العالم يتغير. لم تعرف الوجهة بعد. لكن لا بشائر لاستراحة المحارب في اندلاعات العنف في أكثر من بقعة في العالم. دونالد ترامب لا يؤمن جانبه. انه يتمرن على الحرب في سوريا وفي بحر الصين وقرب كوريا الشمالية. بوتين يحارب حروبه في البلقان وفي سوريا وعينه على ليبيا. اردوغان يحارب على كل الجبهات. من صفر مشاكل في اول عهده، إلى كل المشكلات دفعة واحدة بعد اعوام من رئاسته. أما فرنسا، فلا يحسب لها حساب في الحرب، فهل يحسب لها حساب في السياسة؟
شعرت ميركل براحة مع ماكرون. اوروبا ستصمد في وجه الجنوح الانفصالي عن اوروبا الذي يجتاح الدول الاوروبية. ايطاليا تطمئن المانيا كذلك. اوروبا ستصمد، لان البديل هو الحرب الاقتصادية التي تستدرج حروبا لا يحمد عقباها. أما الشركات العابرة والمصارف القابضة، فهي تستعد لموجة جديدة من تراكم رأس المال، على حساب الرؤوس الفقيرة.
إن العالم يتغير كثيراً، ولكن النظام العالمي الاقتصادي والعولمة الاجتياحية لم تصب بعد بأذى. برغم حمائية ترامب، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي… إن الترسانة السياسية لقيادة العولمة، هي الانظمة الديموقراطية اولاً وكل الانظمة الملحقة ثانياً. إن رأس المال، يتعايش مع كل الانظمة ويعتاش من كل الاوضاع. إن حكم رأس المال، اقوى من نتائج صناديق الاقتراع، وأقوى من الديموقراطية.
ماكرون القادم من صناديق الاقتراع، صُنع من قبل، من قبل آلهة المال وشياطين الاعلام. ولهذين العالمين مستقبل باهر. فليرتجف الضعفاء خوفاً مع المزيد من الفقر والحرمان والحروب.