من لم ينفذ اتفاق الطائف؟ كل الذين حضروا مهرجان الطائف السعودي، هم الذين، لا سواهم أبداً، داسوا على الطائف، بكامل وعيهم لمصالحهم. فاتفاق الطائف يؤسس جدياً، لقيام الدولة المدنية. هؤلاء، لصوص الهيكل الطائفي، حضروا احتفال السفارة السعودية، فيما هم، كلهم، يعني كلهم، بدون استثناء، هم العلة، لأن عقيدة النهب المقدسة، فازت بجدارة لا أخلاقية، في جعل لبنان، كومة من ركام، وعلى حافة الأفول والزوال. هنيئاً لاحتفال السعودية بالفشل اللبناني المبرم والدائم.
ثم، وهذا هو الأهم، أن لبنان، قبل اتفاق الطائف، كان طائفياً صلباً جداً. ولكن اللبنانيين في لبنان، أي في داخله، تعايشوا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولم يكن في أرضية الواقع، نزوع إلى ممارسة العنف. لبنان، من داخله، معافى من العنف. الكل، المعارض والموالي، التابع والرافض، كان له حصة، من دون أن يكون توزيع الحصص عادلاً. إذاً، ماذا؟
من يعود إلى تاريخ الأحداث في لبنان، يصعب عليه أن يجد عنفاً وقتالاً وفتنة، لأسباب لبنانية داخلية. الميثاق الوطني كان ركيزة ولو هشة. الدستور كان مرجعاً، ولو أحياناً. عاش اللبنانيون حياتهم، ببحبوحة أو شظف، بغُنمٍ أو بغُرمٍ، من دون أن يلجأوا إلى عنف. عضّ المظلومون على وجعهم وجوعهم واحساسهم بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي. إنما، هذا الوضع الحرج والظالم، لم يقد إلى أكثر من إعلاء الصوت، وتنظيم الإضرابات وقيام الأحزاب والنقابات، برفع المطالب الخ… أفدح عنف بمستوى منخفض، كان قمع تظاهرة عمال معمل غندور في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1972.
لدى مراجعة هذا التاريخ اللبناني، منذ الاستقلال، حتى ضياع كل استقلال في الزمن الراهن، حيث دلت احتفالية البخاري، أن لبنان مشطورٌ شطرين، كخطين مستقيمين لا يلتقيان. ولقد ظهَّرت صورة المهرجان الفولكلوري، أن اللبنانيين صاروا على دينين: دين السعودية السياسي، ودين إيران السياسي.
سبق أن اندلعت حرب أهلية، هي الأولى منذ الاستقلال، عندما انقسم اللبنانيون، بنزعاتهم الطائفية، إلى معسكرين: معسكر مع كميل شمعون الماروني، الذي وافق على الانخراط في حلف بغداد (ثم فشل) الذي كان معادياً لسياسة جمال عبد الناصر العروبية والفلسطينية. وقد جاء هذا الخيار الشمعوني، الماروني، ليواجه صعود المعسكر الآخر، العروبي، الذي يقوده عبد الناصر..
فتنة العام 1958، لم تكن عابرة أبداً، بل أسّست لانقسام دائم، سياسياً وعنفياً. وفرزاً سكانيا، خاصة في العاصمة.
اذن، لم يكن الصراع الطائفي لأسباب داخلية.
وعندما وافق لبنان، على اتفاق القاهرة في العام 1969، انفرزت الحكومة والسلطة الى معسكرين. وازداد الشرخ في النسيج اللبناني المهلهل اساساً، “لا تهزوا واقف على شوار”. الخريطة العربية كانت مهتزة. والدول العربية، لم تكن في وارد الحرب، بعد نكسة حزيران/يونيو 1967 وخسارة القاهرة ودمشق والأردن، اراض اوسع وأكبر من الارض التي احتلتها اسرائيل. كان خيار اليأس غالباً. الشعوب العربية تلوك الندم.. ارتاح لبنان قليلاً، في زمن ما يسمى “الانتصار الإسرائيلي”.
في ذلك الزمن تحديداً، برزت المقاومة الفلسطينية، واهتز الاقليم. حرب ضد الفدائيين في الأردن. ممنوع المرور في بلاد الشام، لذا كان التسرب من الأردن الى جنوب لبنان. تعاطف فريق لبناني غالبيته إسلامية مع الفدائيين. دافعوا عن المقاومة. الانفجار الكبير بين التكتلات الشعبية الطائفية، غيَّر لغة التخاطب بين اللبنانيين: هناك من يريد لبنان لبنانياً “حاف”. ويرفض الدخول في معركة لا ناقة له ولا جمل فيها، الى جانب ان ثقافته مستقلة عن ثقافة العرب، تتعاطف في ما بينها، خاصة في الملمات والمصاعب. وفريق من المسلمين، انخرط في القتال، الى جانب قوى “وطنية”، وكان ما كان.
اذاً انقسم اللبنانيون، لأسباب اقليمية، وليس لأسباب داخلية. لقد تعايشوا ولو على مضض. أما بعد دخول الفلسطيني و”احتلاله” منصة الصدارة، في لبنان، وتحوله إلى صاحب القرار في المناطق التي هيّمن عليها، فقد افسح المجال، امام القوى اللبنانية المسيحية، أن تطلب العون من “اسرائيل”.. “وعالمكشوف”. ارتكب لبنان المسيحي آنذاك خطيئة تأصيل التطبيع الى حدود العسكرة.
ثم كان ما كان، حتى إجتاحت إسرائيل لبنان مرتين في العام 1978 ثم 1982. احتلت إسرائيل الجنوب وبيروت والجبل ونصف البقاع الخ.. وادخلت لبنان في عصف قاتل، أدى الى تجدد القتال، وترسخ القوى السنية اولا، ثم الشيعية في مواقع متعارضة كلياً، مع القوى المارونية والمسيحية. اما “حزب الله”، فقد كان غريباً عن الاصطفافات الداخلية مع إنطلاقته الأولى في ثمانينيات القرن الماضي. همه تحرير الجنوب ومقاومة الاحتلال الاسرائيلي والتحضير لتطوير النضال المسلح، وصولاً الى أن يكون قوة رادعة وذات وزن وثقل داخلي واقليمي. انقسم العالم العربي بعد ذلك الى، مُطبعين عرباً، والى ثوريين بزي ديني اصولي.
لم يلجأ اللبناني الى العنف، إلا لأسباب خارجية. ولا مرة استعمل العنف لأسباب داخلية.
لبنان، كان معافى من العنف. اي ان الصيغة اللبنانية، الهشة والرثة، كانت ضمان أمان اللبنانيين. أي ايضاً، ان الدستور والميثاق، أمّنا حدود الخلاف ونقاط الالتقاء. والصراع كان سياسياً وطائفياً، ولكنه لم يكن عنفياً. كان لبنان قد استطاع ان ينأى عن العنف، ولو كان وجوده مهلهلاً وظالماً وسائباً. السرقة عمرها من عمر لبنان، ولم تنج دولة في العالم الثالث، من دكتاتورية النهب والفساد.
اذاً، وبعد هذه السردية يصبح اليأس خياراً صحياً. يدفع السائلين عن المصير اللبناني، الى تغيير الاسئلة وتكذيب الكذابين، بالأسماء والرتب السياسية والطائفية. لا أجرؤ راهناً على تسميتة وتعداد ارتكاباتهم. “الف مرة جبان ولا مرة الله يرحمو”.
يختبىء هؤلاء المرتكبون، “كلن يعني كلن”، وراء وتحت المستحيل السياسي. لبنان، لم يكن ولا مرة، سيداً ومستقلاً. سيادته مشتتة ومبعثرة، والناس فيه، على دين طوائفها. وهذا امر طبيعي جداً. لأن المواطنة لم تولد بعد. والوطن، قسمة ونصيب. لكل تكتل ديني وطائفي، حصة. وضمان هذه الحصة، الاستقواء بالشارع الانتخابي. المطبع لنزعاته اللاسياسية. اللبناني لا ينتخب سياسياً ابداً. ينتخب غريزياً وبهيمياً. لا ينتخب، حتى لبنانياً. وبهذا، هناك مستحيل اكيد: لا سيادة مع الطائفية. والطائفية اساس كياني. ركيزة وجود لبنان. لو لم تكن الطوائف رصيداً شعبياً، لما ارتكبت باريس الفادحة: لبنان الطائفي. وهذا ليس عيباً فرنسياً ابداً. انها مدرسة استبدال الاستعمار المباشر، ببقاء فتيل الانفجار بيدها وبيد اتباعها.
ولسنا غرباء عن اورشليم: “يا اورشليم يا اورشليم”، يا قاتلة الانبياء وقاتلة شعبها، كم مرة اردت ان اجمع بنيك تحت جناحيها، فلم تريدوا، هوذا بيتكم يترك لكم خراباً. نبوءة تحققت بالعنف. العنف اساس سياسي. هو حاضر للفتك والنحر والقتل. اي مقتلة تعيشها 43 دولة راهنا. هذا ليس شغل الله، بل شغل الشياطين السياسية، التي ابتكرت: “الغاية تبرر الوسيلة”.
قيل الكثير، عن صراع الحضارات. كذب. لا حضارة في لبنان. نحن فسيفساء وخرافة تواجد وتواطن. لقد سئمنا توالد الاحقاد. منسوب الاحقاد عندنا، وعند جيراننا المهلهلين، يفوق اي عداء لعدو حقيقي، إقليمي او دولي. الاحقاد بين الاديان، يا الهي. تدعوك إلى الالتحاق بالكفر والنجاة من الابلسة (من ابليس). ولا بد من الاستفادة من الشواهد الراهنة: “لا يؤمن اي دين المساواة والاخوة بين المؤمنين”. الدين عنف مستدام. صراعات دموية. فتن ناشطة. العنف الديني لا يستريح، إلا عندما يستسلم الدين، ويخرج نفسه من السيادة. دين ودولة، تكريس للاستبداد. تحررت اوروبا عندما طردت الدين وحرمته من السياسة.
ماذا غداً؟
من يعرف الجواب، عليه ان يتقدم . لبنان اليوم، نصفه على مائدة السعودية. مبروك للبخاري. الزبائن اوفياء لأصحاب النعمة. ولبنان الثاني، نصفه ينتظر السجادة الايرانية، وهي ليست للصلاة ابداً.
أيها الوطن المشتهى، اذا نادوا عليك، ان تعالَ، إياك أن تأتي. لا وطن بوجود الطوائفيين.
غريب جداً. لا أحد يتحدث او يتكلم او يلتفت الى الكارثة التي لم يكن اتفاق الطائف سببها. السبب، هو اتفاق “المختلفين” على نهب اللبنانيين.
مبروك للنهابين، هذا الشعب المنهوب، واللاجىء الى مغاور الطوائف.