إقرأ لمحمود درويش ما يلي في مديح الحروب وهجاء الكلمات: “لا تكتب التاريخ شعراً، فالسلاح هو المؤرخ. والمؤرخ لا يُصاب برعشة الحمَّى إذا سمى ضحاياه.. والتاريخ يوميات أسلحة مدونَّة على أجسادنا. إن الذكي العبقري هو القوي.. هل التاريخ لم يولد كما شئنا، لأن الكائن البشري لم يوجد؟” الاجابة لم يكشفها محمود درويش في “لا تعتذر عما فعلت. البشري الانسان لم يوجد”.
الآن، ضعْ جانباً ضجيج الدم في الجبهات والمدن. إحذف ما تسمعه ولا تستسهل الانحياز إلى أحد المعسكرين، إلا إذا كنت مُبرمجاً من قبل، لتكون مع موسكو أو لتكون مع أوكرانيا. أنت لم تختر اصلاً. أنت منحاز اساساً. لا ضرورة للتفكير: اميركا تفكّر عنك. اوروبا تزوّدك بأدبيات القتل. روسيا تعيدك إلى ذكريات الامبراطورية التي أطاحت بماركس ثم قدّمته ميتاً هدية للسيد الاميركي وأحذيته الدولية. لا تتعب بالكلمات كثيراً. اننا نعرف جيداً، ولا نزيح عن الزيح. ما حصل من انزياحات بين اللبنانيين في العالم، هو ترجمة واقعية جداً لعداوات متأصلة، وهذا ليس جديداً، فكل ديك صياح على مـ(…) الطائفية.
إقرأ ما يلي: ” كم تبدو الحرب جميلة”! قول للشاعر غيوم ابولينير كتبه بمتعة الألم والفرح.. منذ البدء كان لون الرجل من دم..”ومن الحرب أيها الاصدقاء، من الحرب يأتي كل خير على الأرض”. عرف نيتشه سر تعلق الانسان بالقوة والعنف والقتل. القوة هي الحق بلا برهان. إن مدائح القتل والعنف كثيرة. اليونانيون اصحاب عبقرية مسرحية. لقد تم تخليد العنف والقتل والثأر. راجعوا قليلاً سوفوكليس. المسرح الاغريقي تراجيدي. المسرح الشكسبيري دموي. صدقوا المسرح وتخلوا عن التبريرات التافهة التي تتعكز عليها السياسة.
اياكم وتصديق الدين عندما يصير سياسياً.
العرب اصحاب تراث فظيع وشنيع. العنف اقوى من العقائد والمذاهب. الشعر العربي سيوف ودماء. “السيف أصدق انباء من الكتب”. صدَّقوا السيف، إنه أثمن من الآية. الدم يقنع أكثر من المنطق. الكلام على الدم تافه. العنف اختصاص بشري، مع سابق التصور والتصميم.
هذه الايام، تضاف إلى السجل الاسود التاريخي شاشاتٌ منحازةٌ جداً. يتصيّدون العنف في اوكرانيا. العنف تجارة فائقة. الاسلحة سخية الطلقات. الكلفة المالية، مهما علت، لا تساوي دم انسان. العالم مشطور بين فسطاطين. عنف مبرر وعنف آخر يبحث عن تبرير. العالم يهتز. الشعوب تخاف من اليوم على الغد. تسأل كم سيصيبنا من شظايا؟ هل سيكون المشهد الدولي تحضيراً لسلام مؤقت او استسلام نهائي؟ هل ستعاد معزوفة المعسكرين؟ من المنتصر غداً؟ الحرب ارتكاب فاحش ومُجزٍ. المنتصر يتحول انتصاره إلى دَين سياسي-اقتصادي، سيفرضه بالإكراه والاغراء، ليصبح قناعة او قناعاً للشعوب المظلومة والمقهورة. هكذا درجت البشرية منذ البدايات. وقيل دائماً، الويل للمهزومين.
في لبنان، تقليد واضح. متفوق في انقساماته. دائماً يتخندق. الدول العربية تسير حذو النعل بالنعل. فريق يحج إلى واشنطن، وفريق يجد ملاذاً مع الامبراطور الروسي. لم يدرك عبدالله ابو حبيب فداحة ما قاله. ولكن هذا مفهوم ولا يثير التساؤل. من زمان، ولبنان يعيش في خندقين أو أكثر. لهذا، صفّق فريق له وأغضب فريقاً ضده. خلاصة القول، لبناننا في هذه المعارك، مجرد غبار وكلام يراكم على كلام، وعفا الله عما يقال.
المسارات التاريخية تفصح على أن الفباء العصور وابجدية البشرية متفقة على أن الحرب هي الأصل، والسلام عابر وسريع التلف، وكما في لبنان، كانت صفحات التاريخ، اصطفافات في الفسطاطين.
البشرية بحاجة دائماً، إلى عدو وأعداء. الحرب والعنف من دعامات الدولة القوية. الدول الضعيفة ملحقة حتماً وغصباً أو حباً. كل دول العالم تبحث عن العدو، أو يطرق حدودها عدو. نظرة على خريطتنا العربية كافية لمعرفة كل المآسي.
لا غرابة ابداً في تكوين الحكومات. هل سأل احد لماذا لا يوجد وزارة سلام؟ لماذا كل الاهتمام والانفاق على الجيوش؟ بلى، هناك دولة وحيدة بلا وزير دفاع. دولة الفاتيكان. كانت من قبل، ترسانة حروب. هزمت ثم اقصيت، ولم تنج من الاصطفاف. أليس غريباً، تحول الاديان إلى معسكرات وجبهات ومعارك. لا جحيم يضاهي نيران العداوات الدينية والعنصرية، في ما بين الطوائف والاعراق، وفي ما بين دين وآخر. حتى الله، لدى بعض الفلاسفة، يبدو انه بحاجة إلى اعداء. العداوات الدينية كانت وكائنة الآن وستكون غداً. اقرأوا ايامنا الراهنة. فظائع الارتكاب باسم الله والدين فالإيمان مصحوب في اغلب الاحيان، بالتكفير والعقاب والحروب.
“العدو” هو اوكسيجين الدول والجماعات. إقرأوا خريطة العالم اليوم. إستعيدوا خرائط القرون السالفة، ستجدون الحرب في كل مكان، وسريعة الانتقال، كالعدوى والأوبئة. الخريطة العربية توفر لنا مشاهد الحروب المتناسلة. مئات السنوات من القتل والاغتصاب والخسارات. والموت هو الرابح دائماً. من المحيط إلى الخليج، الجامع الاوحد، هو العداوة والحقد وسياسة حافة الهاوية. زوروا الخليج العربي، السودان، سوريا، لبنان، العراق، ليبيا.. وما تبقى من خيام دول تبحث عمن تخدمه.
الحاجة إلى عدو، في كل الحقب، مسألة تاريخية اصيلة. تشبه الخطيئة الاصلية. العدو لا مفر منه: بكى القائد الروماني سكيببيو، بعدما أحرق قرطاجة العظمى. دمَّرها واحرقها وسبى اهلها. شعر سكيبيو بحزن كبير ثم بكى. تساؤل محق: “أيبكي منتصر بعد حرب”؟. الا يفرح بالتتويج السياسي الذي يستحقه من روما؟. لا جواب. راح القائد المنتصر يُردّد اشعار هوميروس المحزنة:
“سيأتي اليوم الذي تهلك فيه ايليون المقدسة.
وبريام. سيهلك معها، كما يهلك الشعب كله”.
سمع بوليب الفيلسوف بتشاؤم سكيبيو. سأله: أمنتصر وحزين؟ أجابه سكيبيو: “لم يعد لروما اعداء. اني استشعر اللحظة التي يحضر فيها الآخر ويفرض على روما المصير نفسه، الذي فرضته على قرطاجة”.
فمن أين يأتي بالأعداء، بعدما ابادهم جميعاً؟ لا تستطيع روما أن تعيش في فراغ يحيط بها. وكان على بوليب ابتداع عدو جديد، ولقد وجده: “الركام البربري الذي صنعته روما، هو العدو الجديد لها”. وهكذا كان.
تذكروا اميركا قليلاً؟ ماذا فعلت عمن أطلقت عليهم صفة الاعداء؟
إذاً، الحرب اولا ومن بعدها طوفان الدماء والاحزان. القرن العشرون هو قرن ارتكاب الكبائر. حروب في كل القارات. يقول برودون: “لا حاجة لأي قارئ أن نقول له ما الحرب. كلنا لدينا فكرة. البعض كان شاهداً. البعض كان مصاحباً والبعض ارتكبها”. افحصوا تاريخكم. كم حربا عشتم يا لبنانيون ويا عرب. سنوات الحرب في “القارة العربية” أطول من قرن. لسنا نشذ عن القاعدة. القاعدة الذهبية في السياسة هي: “إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب”. كيف هذا؟ لا تتعجب. اللامنطق هو المنطق. التخلص من الحروب يلزمه حروب كثيرة. أسوريالية هذه الفكرة؟. إنها أفدح. هذا هو الانسان.
اذا عدنا إلى 4680 سنة من التاريخ البشري. نقع على مشاهد دموية بفظاعات لا توصف. في هذه السنوات. عرفت البشرية 277 عاماً من السلام فقط. الجريمة اساس انساني. جدنا الأول قايين. نحن سلالاته.
الدول، ومنذ القدم والامبراطوريات السالفة والغزوات والفتوحات، لا تنتمي إلى إله واحد ودين واحد. جميعاً نحن من سلالة هولاكو وجنكيزخان، اضافة إلى الملوك والقديسين والخلفاء الذين أبدعوا بإرتكابات شنيعة. اننا نشبههم وأفدح. لا شيء تغير، سوى أن القتل صار سهلاً جداً، والسحق أسرع، والآلام لا حساب لها. اننا نشبه ماضينا السحيق. نفرح بالانتصارات، مهما كان ثمنها من قتلى. شيء من الهمجية في تراث البشرية. العرب يفخرون بمآثرهم الدموية، واميركا تفاخر بقصف هيروشيما وناكازاكي. النووي هو تاج على رأسها.
أما سمعتم قبل أمس. أن هناك استنفاراً نووياً؟ تباً ايتها البشرية الملعونة. تباً أنك تنتمين إلى الصنف او العرق الذي هو الانسان.
تحظى الولايات المتحدة الاميركية بسبق خوض الحروب على مستوى الكوكب الأرضي. لا حدود في ممارسة الغزو والاخضاع والاستتباع والقمع والنهب. منذ العام 1890 حتى العام 2001 ارتكبت اميركا مئة وثلاثين تدخلاً وحرباً وغزواً واخضاعاً. لم يصدف أن نجد دولة في التاريخ، ارتكبت مثل هذا الاجرام المتتالي. وليس صدفة ابداً، أن المبادئ السامية التي تؤسس عليها الدول، ليست الا كذباً وتدليساً.
زوروا “الغوغل” غداً. ابحثوا عن الحروب في القرن العشرين. اقرأوا قليلاً عن سباق التسلح. اجمعوا اعداد القتلى والشهداء بل والشعوب التي تم افناءها في اميركا وافريقيا وأوروبا والصين. اياكم أن تصدقوا احداً ما، وخصوصاً اصحاب المبادئ المثالية والدول التي ترفع لواء الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة والتنمية. لا تقتنعوا بفتات يُرمى هنا وهناك، على اناس في غاية البراءة، بحيث يبوسون اليد التي تطعمهم. يجب أن يدعوا عليها بالكسر. حروب الافناء صناعة كل دولة عظمى. منذ قديم الزمان حتى الآن. اميركا المتقدمة، هي فعل ارتكاب مستدام، وعنصرية دائمة. اوروبا الحنون اقتحمت العالم في حربين عالميتين. أينما خطوت في هذه الكرة الارضية، فلن تجد ارضاً بكراً. كل الأرض كانت جمراً للحروب والإبادة. وروسيا من زمان تشبه سواها. مدت يدها شرقاً وشمالاً وجنوباً وأقامت نظاماً ارهابياً تحول فيه الشعب إلى قوت الاجهزة.
لماذا كل هذا؟
لا جواب اكيداً. إلا انني اميل إلى أن تعريف الانسان بالإنسانية والقيم والاخلاق، لا يستحق أي احترام. الانسان مذ خلق، والشر فيه قاعدة، القتل عادة. العداء وظيفة. الارتكاب فضيلة. ألم يكتب المؤرخون عن عظمة القادة السَفَلة؟
الانسان الإنسان، هو ما لم يأت التاريخ على ذكره. عبقرية البشرية انها كلما تقدمت في العلم والمعرفة، استفحلت الحرب، لأنها تجارة مربحة وقناعة مجزية.
ماذا بعد؟
ارى في الافق حروباً تليها حروب. وعلى اللبنانيين أن يستشعروا بالخطر الذي يتهددهم من الداخل والخارج. من عادة هؤلاء أن يشهروا العداء والسلاح، ثم عفا الله عما مضى. هذه المرة، إذا اندلعت حرب اهلية، عفا الله على لبنان.