لا نستغرب نحن العرب، ذلك الحقد الإسرائيلي العميق على أطفالنا، فلقد بلوناه منذ مجازر دير ياسين واللد وقبيه، عندما غرست العصابات الصهيونية حرابها في بطون الحوامل، فأعلنت انتصارها على الأجنّة، وتابعت معركتها المقدسة ضد أطفال الحجارة، وقنصت محمد الدرة، لتجعل من الوالد تابوت ولده، ثم لامت نفسها عندما نجت الطفلة هدى من مصير عائلتها التي نسفت أثناء تنزهها على شاطئ غزة فعوّضت ما فاتها بأطفال مروحين وهم بالمناسبة من أهل السنّة، وذلك تأكيداً لجدارتها بسمعتها العالية في قانا الجليل وكل ذلك أمام عيون السواتل التي تبث المشاهد الفورية على أربعة أركان الأرض، فيما المجتمع الدولي ينتابه القلق الشديد على ثلاثة أسرى من جند إسرائيل، وقد عبّر عن هذا القلق أبلغ تعبير مندوب الصين الشعبية في مجلس الأمن وكذلك الرئيس فلاديمير بوتين الذي أيّد الرئيس جورج بوش واختلف معه فقط على درجة استعمال القوة.
نحن لا نستغرب هذا الحقد الإسرائيلي على أطفالنا، لأننا نعلم أن إسرائيل لا تتوجس من الخطر المقبل عليها إلا من أجيالنا القادمة المتكاثرة، لأنها متأكدة أن البطون تلقن ثمارها في الأرحام، أن هذا العدو الوافد علينا من (زبدة الحضارة العالمية) قد مارس ضدنا وسيمارس ضدهم أبشع أنواع التوحش؛
لكن اللافت في هذه الحرب، أن العدو يستهدف بلدنا جسراً جسراً ومطاراً مطاراً، ويرسل مروحياته لتقصف مرفأ طرابلس السني ومرفأي عمشيت وجونية المارونيين ومرفأ بيروت المتنوع، لتؤكد لنا أنها تتعامل معنا باعتبارنا بحراً واحداً، تختلط أمواجه بلا تمييز، وتصب حممها على مياهه لأنها خلاصة الحضارة المتوسطية العربية الرافضة للتطبيع مع مائها المستورد المبتذل من نفايات الجرائم العنصرية التي مارستها النازية والفاشية على مدى القرن الماضي؛
تظن إسرائيل إذاً، أنها بتقطيع أوصالنا، وبحصارها للوطن بالجملة والمفرق، أنها تدفع اللبنانيين ليضرموا النار في ما بينهم، فخاب فألها لأن هذا لم يحدث، ولأنه لن يحدث والحمد لله، بحكم الوعي العالي الذي تجلى لدى اللبنانيين جميعهم على اختلاف مشاربهم. لكننا في وسط هذا الحريق الظالم، علينا أن نقف وقفة متبصرة، نحسن من خلالها قراءة ما يجري ونستنبط العبر اللازمة التي من شأنها أن تفضي بنا الى بر السلامة، ولهذا فإنني أسوق بعض الملاحظات لكي نحاول أن نفتح نقاشاً بين عقول منفتحة وقلوب متفتحة لمواطنين ينتمون إلى وطن واحد، ويتمتعون بهوية واحدة، ويرغبون بأن يروا دولتهم سيدة وحرة ومستقلة.. وشرفة العروبة الحضارية على بحور العالم.
أولاً: ان عدوان تموز 2006 يعيدنا بالذاكرة إلى عدوان 1982، عندما كانت إسرائيل تبحث عن أي ذريعة واهية لاجتياح لبنان.
ثانياً: ان حجم الحرب الحالية، لا يمكن أن يدخل في خانة رد الفعل على أسر جنديين إسرائيليين، وذلك ظاهر من شمول هذه الحرب الوطن كله، مناطق وطوائف، وبنى تحتية وفوقية، وأطفالاً ومدنيين، وهو ظاهر أيضاً بوجود خطة مدروسة ومعدة سلفاً يجري تنفيذها بتصميم ودقة، وبيد مطلقة لا تجد أي قيد دولي أو عربي يحول دونها ودون تماديها.
ثالثاً: لقد كان بإمكاننا أن نسد الذرائع بوجه إسرائيل، وأن نحرج المجتمع الدولي فلا يشكل غطاءً لعدوانها، ونستبق المخاطر، وذلك بحسن الاستثمار الوطني لنصر العام 2000، بترسيخ الدولة، وتدعيم المؤسسات والاحتكام إلى الشرعية عند كل خلاف، ولكننا من أسف، جعلنا من التحرير نشيداً، وبقينا على ما نحن عليه، وأهرقنا تلك الفرصة، ولم نفِ رفيق الحريري حقه بإنجاح الحوار، فذهبنا إليه متعثرين وفشلنا في الوصول الى قواسم مشتركة تحفظ للمقاومة وجودها وللدولة سلطتها باجتراح صيغة لم يكن اللبنانيون في تاريخهم عاجزين عن اجتراح ما هو أصعب منها.
ولكن اللبنانيين شعروا مع الأسف أن المتحاورين باسمهم قد أراقوا الوقت والفرصة فحازوا بهذه شهادات عالية في علم الكلام، لكنهم أخفقوا في علم السياسية الذي هو علم الممكن القائم على قواعد المصالح والمبادئ والواقعية.
رابعاً: مهما كانت الحجج ومهما بالغ المجتمع الدولي في حساسيته من الإرهاب، فإن أحداً لا يصدق إلا أن هذا العدوان المبرمج قد جرت إجازته من الدول الكبرى، وما زال يحظى برعايتها بحيث سقط من قاموسها تعبير وقف إطلاق النار، وحلّ محله تعبير ضبط النفس وهو موجّه طبعاً إلى الضحايا، لكي يكظموا غيظهم في قبورهم، ولأهاليهم لكي يضبطوا دموعهم في المآقي.
خامساً: لقد أولى المجتمع الدولي مهمة قمع الإرهاب وتطبيق الشريعة الدولية، للدولة التي تألفت أصلاً من عصابات الإرهاب والتي تزدري شرعة حقوق الإنسان وتستهزئ بالقرارات الدولية وتعتبرها من سقط المتاع، وتمعن في احتلال الأراضي جاعلة من الـ 425 والـ 338 دليلين صارخين على عدم رغبة الآلية الدولية في إحقاق العدل والسلام.
سادساً: لا أحد من اللبنانيين مقتنع بقدرة لبنان على أن يكون الساحة الوحيدة في مجابهة إسرائيل، ولكن الأمر الأكيد أن إسرائيل هي التي تتعامل مع هذا الوطن باعتباره ساحة مستباحة، توجه الرسائل من خلالها، وتجعل من قبور أطفالنا صناديق اقتراعها، وتبرم الصفقات على حسابه، وتذهب إلى أوسلو على أنقاضه، وتفاوض على كامب ديفيد تحت ستار دخان حربه الأهلية، وتجعل منها وسيلة لكي يصبح الجولان المحتل بارداً كالأسكيمو، وتشن حربها على حزب الله من أجل تعطيل تخصيب اليورانيوم الإيراني توطئة لضربة ضد إيران أراها واضحة أمامي في مقبل الأيام، وهي التي تستخف بدولتنا، بينما تعقد الاتفاقات العلنية والسرية مع بقية دول المنطقة.
سابعاً: حتى لا يبقى لبنان ساحة مستباحة، لا بد أن تكون له دولة، وهي دولة متاحة بكل المقاييس، فنحن كنا ولم نزل مستشفى الشرق العربي، وجامعته وصحيفته ومصرفه وتنوعه، ونحن عروبته أولاً وقبل كل شيء، وبالتالي فإنه من غير المقبول أن نرضى له أن يكون (فرق عملة) في سوق المساومات والمزايدات.
ثامناً: يمضنا أن تصبح إسرائيل (مأمور التنفيذ الدولي) للقرار 1559 ويشرّفنا أن الشعب اللبناني متحداً، لا يبحث عن تنفيذ هذا القرار من خلال هذه الأداة المجرمة، كما أنه لا يبحث عن الاستقرار إذا كان ذا نكهة صهيونية.
أما بعد..
بالأمس البعيد كنا نناشد أخوتنا العرب واستطراداً الاتحاد السوفياتي لنجدتنا من الظلم الإسرائيلي،
بالأمس القريب ظننا أننا دخلنا تحت رعاية المجتمع الدولي الذي تعهّد لنا أن يفرج كربنا ويزيل الغم عنا،
اليوم ليس لنا إلا أن نناشد أنفسنا لإحباط هذا العدوان، ليس بما تملكه أيماننا من السلاح، بل بالدرجة الأولى بما هو متاح أمامنا من التوحد والالتفاف حول دولتنا وحكومتنا، والتفاف حكومتنا مجتمعة حول الوطن.
نشرت في “السفير”، 17 تموز 2006