صرتُ فرنسياً. لم أكن كذلك من قبل. عشت في باريس عقداً من الزمن. عائلتي كذلك. هاربون من حروب “الاخوة الاعداء” إلى بلاد ما، تستقبلنا، من دون اقامة قانونية. كنا مثل كل النازحين من بلادهم، بعض السوريين يشبهنا اليوم.
اخترنا وقتاً ملائماً للهرب. عادة، يتوقف القصف صباحاً، بعد فجر تلتهب فيه المحاور. تسللنا إلى الحمام العسكري ومن هناك نقلنا زورق صغير إلى “باخرة” مخصصة لنقل الأبقار. لم يكن ذلك مزعجاً ابداً. الهرب هو الغاية. لسنا في رحلة ترفيهية. تركنا بيروت على شواطئها وغادرنا إلى قبرص. ومن قبرص، بعد اتمام اضبارات السفر، وصلنا إلى باريس، لنتوزع على بيوت الاصدقاء الذين سبقونا من قبل، بسبب الحرب أيضاً.
كانت الاقامة سهلة، منحتنا الادارة المحلية اذنا بالإقامة.
عرفنا، اننا صرنا كالفرنسيين، بكامل حقوق المواطنين الفرنسيين باستثناء الاقتراع. مساعدات لأولادنا في مدارسهم. كتب مجانية وجبة غداء مجانية، رحلات تربوية مجانية، طبابة وأدوية مجانية، ثم انتخاب زوجتي مسؤولة في لجنة الاهل، ذات الصلاحيات والسلطات الواسعة، التي من واجبها السهر على حسن سير العملية التربوية والتعليمية. كنت قد وجدت عملاً في صحيفة الحياة المصرية، وكمدير للتحرير حصلت على راتب لابأس به، يكفينا ويساعدنا على ترتيب اوضاعنا بشكل قانوني.
لم أكن فرنسياً في فرنسا. قدماي في باريس وروحي في لبنان وفلسطين ومن حولهما. لم تكن سياسة فرنسا مقبولة: انحياز لإسرائيل، شبه انحياز في لبنان لمعسكر ضد آخر، وتاريخ من الظلم الفرنسي البريطاني لامتنا، منذ سايكس بيكو مروراً بتزويد اسرائيل بأول مفاعل نووي، واشتراكها في حرب السويس ضد جمال عبد الناصر وتأميم القناة.
كانت حقوقي كمقيم في فرنسا، كاملة. لم احتج يوماً إلى وساطة. لم اذهب إلى دائرة الضمان الاجتماعي والصحي. كل الفواتير تسدد مباشرة عبر تحويل على الحساب المصرفي. ثمانية سنوات من المواطنة الحقيقية، والحرية الحقيقية، والمساعدة الملموسة، والاهتمام الكامل بمتابعة نشاط ابنائنا التعليمي. ما شكونا الا من سياساتها، وكنت اكتب ضد فرنسا بشراسة القلم، وما هاتفني أحد، ولا نعتني أحد بأني غريب، علماً، انني كنت غريباً عن جد. ومع ذلك، فقد منحتني فرنسا الجنسية الفرنسية التي عنت لي خدمة لا انتماء. لم أصبح فرنسياً.
عدنا، وكنا من اوائل العائدين، بعد توقف الحرب وازالة خطوط التماس. كان البلد مدمراً. لا مرافق. لا ماء. لا كهرباء لا هاتف. لا طرقات. لا نقليات. لا صحة …قلنا. هذا وطننا نعود اليه وعلينا أن نتحمل. غيرنا فقد الكثير. نحن نسترد ما فقدناه: الوطن.
ودارت الدوائر. بدأت الدوامة. علينا أن نؤمن “الواسطة” والبرطيل لكل عمل نحتاجه. بلغ التذمر العائلي الذروة: “إلى أي جحيم عدنا”. لم أعلق كثيراً. المقارنة بين بيروت وباريس غير منطقية. تلك بلادهم وهذه بلادنا. سقطت هذه المقولة، بعد استمرار عمليات الجلد اليومية في بيروت. كذبت على العائلة: كنت أخفي احباطي وحنيني إلى مرتع الحرية والنظام والمسؤولية في باريس. لكن القرار كان: لا عودة إلى فرنسا. البقاء هنا أفضل، ولبنان سيتحسن.
أمس، صرت فرنسيا. تابعت عن كثب، ومنذ البداية، وقائع المعركة الرئاسية. حضرت تقريباً كل حلقات الحوار حول الرئاسة. فوجئت بحجم المعلومات وتنوع الآراء واختلاف البرامج وتنوع الوسائل وتعدد الاساليب. ديمقراطية مكشوفة. لا اسرار فيها. نقاش في العام وفي الشخصي. بدت اكثرية الشخصيات المرشحة للرئاسة منذ ما قبل الدورة الأولى، عارية بالكامل، جرأة القول، مستندة إلى حجة المعلومة. عنف المواجهة مرتبط بتناقض وجهات النظر. الهدف من كل تلك التظاهرات الاعلامية والتجمعات الشعبية، هو في اقناع الجمهور. انهم يتحدثون امام مواطنين لإقناعهم بالبرنامج وبحامله. بالقضية وبرئيسها. الكسب يتحقق من خلال اقناع المشاهدين أو المشاركين في الحشود. المواطن هو الحكم. لا يكذبون عليه. فضيحة الكذب تطيح بالمرشح، ولو كان الكذب حول قبول هدية ثمينة او حال عمل مأجور لاحد افراد العائلة.
قلت: هذه المرة سأنتخب. ما كنت فعلت ذلك من قبل. فانا لست فرنسياً صادق الوطنية. فرنسي بالصدفة والحاجة، وليس بالانتماء.
وفوجئت بهذه الديمقراطية المباشرة. شيء من أثينا. الشعب هو مصدر السلطات عن جد. لهذا، ابتعدت في خياراتي، عن مرشحين تدعمهم مصارف وشركات وبيوتات تجارية رأسمالية ووسائل اعلام مملوكة من متمولين. أدهشني ذكاء ماكرون. ملت اليه قليلاً. هو يسار وسط. أي بلا لون سياسي، ومن خارج الاصطفاف اليميني ـ اليساري. لم التفت إلى اليمين. ميولي يسارية ومتطرفة. عداء لماري لوبن مبدئي. عنصريتها كريهة. عداؤها للغرباء لا تبرير له سياسياً. لم اتحمس لميلانشون الا بعدما استمعت اليه مراراً. كنت اظنه مراهقاً. قدم رؤية جديرة بالبقاء. البيئة تُدمر. لا بد من ثورة بيئية. الفقراء هم اولاً في برنامجه. صار مرشحي المفضل. اما بنوا هامون، فكان آخر ما تبقى من اليسار، بعدما هجرته قيادته الانتهازية وبعد ما طحنه فشل رئاسة هولاند.
صرت داعية للتصويت، انا الذي لم انتخب في حياتي احداً. حفظت برامج المرشحين. تعرفت على ميكانيزمات الاعلام الجماهيري. صرت فرنسياً، واريد أن يكون لها رئيس جديد في نظرته إلى العالم. ميلانشون لم يعد مراهقاً، بل صار قيادياً يُخشى منه، والجماهير تلتف حوله، علماً أن لا حزب خلفه او معه.
يوم الاحد الفائت، وقفت في الصف فرحاً جداً، فانا قادم مع عائلتي لتنتخب ميلانشون. وسأكرر ذلك بعد اسبوعين، لمواجهه اليمين المتطرف والعنصري.
هكذا صرت فرنسي، أنا الذي كتبت منذ عشر سنوات كتاباً بعنوان:
“لست لبنانياً.. بعد”. نعم. لبنان لم يعترف بي. يريدني طائفياً كي يعترف بي. لا يعترف لبنان بالعلمانيين، حتى بمجرد وجودهم. انهم مسجلون في خانة طائفتهم. وفي يوم الانتخاب يذهب كل لبناني إلى صندوقه الطائفي ليضع أسماء مرشحيه من الطوائف.
لم افعل ذلك ولن.
انما، لو فرضنا انني سأنتخب. فلن أجد سبباً واحداً، يجعلني اختار أحدهم للرئاسة او للنيابة.
هؤلاء غير جديرين بالاحترام. حضورهم يشبه العصابات. صراخهم هو كل ذخيرتهم. لا افكار، لا برامج، لا تطلعات، لا طموحات، لا ناس، لا جماهير، لا مواطنين… انهم ديوك يصيحون من فوق (…) مواقعهم… واتباعهم يصفقون لهم.
لبنانيتي نقية من الطائفية.
بهذا المعنى، انا لبناني مع وقف التنفيذ بقرار طائفي صادر عن اعلى المرجعيات السياسية: رئاسة ونيابة وحكومة وقضاء وادارة… المواطن نصري الصايغ والمواطنون الآخرون لا وجود لهم في لبنان ابداً. فقط “المواطفون” يملأون الساحات والادارات والكنائس والمساجد والصوامع.
لذلك، صرت فرنسياً مع نقص في وطنيتي الفرنسية، ومع فائض من حقوق كمواطن.
انا فرنسي، لا انشد المارسييز. “كلنا للوطن” نشيد المفضل.