فجأة، أُحضِرَ “الأب بيار”، ليحتل شاشات التلفزة في فرنسا. وقت ثمين أُنفقَ لتأكيد ارتكابات “أبو الفقراء في العالم”، وأفدحها، الانتهاكات الجنسية، بل بلغ التحريض درجة التحرّش.
قديس الفقراء في العالم، صُلِبَ على خشبة بتهمة مدروسة ومباحة. نشروا عرض “قديس الفقراء” في العالم. شوَّهوا تاريخه. رفعوا صوتاً يشبه صراخ الغوغاء: “اصلبه. اصلبه”. عندما تعالت أصوات الفرنسيين وكهنة السلطة الدينية، لإقامة الحد الديني، على “العار الجنسي”.
الغرابة مستفحلة: لماذا تم فتح هذا الملف في هذه الظروف الدولية؟ لماذا تهافتت وسائل الإعلام على تبني “فضيحة القديس بيار”. والأغرب، كيف يتبرّع الفاتيكان، بلسان البابا، وللمرة الأولى، من أجل تبني التهمة والظهور العلني لتأكيد “ارتكابات الأب بيار”. ما “سر” هذا التسرّع؟ لا. ليس غريباً ذلك. فـ”الضحية” دسمة، والتهمة كفيلة بتدمير “أبو الفقراء” في العالم. وذلك بعد عشرات الأعوام على وفاته.
من يكون هذا القديس الذي يُريدون إلباسه لباساً شيطانياً؟
إنّه أبو الفقراء في العالم. إنه مسيح الحب والعطاء. لا فرق بين دين ودين. الإنسان فوق الأديان. هندامه لافت للنظر. بساطة بلا تفخيم. تواضع بلا تمثيل. “قداسته” الإنسانية أقوى من براءته الكنسية. “ارتكب” جلجلة العطاء. هو أبو الفقراء، رسول الحب، ضمير الإنسانية.
غريبٌ، هذا البابا، يُسرِع إلى “تأييد الاتفاقات مع إسرائيل”. يُباركها. يحضرها. يُبشّر بها. يُصابُ بصمت مدان إزاء انتهاكات “ما فوق جنسية”، وانتهاكات دموية، في فلسطين.
الصمت الفاتيكاني معيبٌ ومدانٌ. لا كلمة حب أو تعاطف أو تعزية، بشهداء الهمجية “الإبراهيمية” في غزة.. يا “قداسة” البابا، لم يصدف أنك تبرعت بتصريح تلفزيوني، يدين، “قديس الفقراء”، بتهمة جنسية. علماً أن الفاتيكان بذاته، تنغل فيه الفضائح، التي يُصار إلى الإعلان عنها، بعد افتضاح أمرها، ويُصار إلى التقليل منها، والتبشير بمعاقبة المرتكبين..
يا “قداسة” البابا؛
قليلٌ. قليلٌ. قليلٌ.. من المساواة بين الإنسانية المضرجة بدمائها وجراحها، وبين “المدنية الغربية المفترسة”.
لقد تعرّفت على الأب بيار، يوم كنتُ قد نذرتُ نفسي للكهنوت. ألقى محاضرة. عرّفنا فيها على ما كُنا نجهله تماماً. علّمنا أنّ الفقراء يموتون جوعاً في إفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا.. حمل دعوته وطاف مناطق البؤس، لمساعدتها بما تيسَّر لخفض منسوب العذاب والموت جوعاً.. لذلك، رسخ هذا الرجل في قلبي، ولا يمكن لحملات الاعتداء، على شرعية الملذات الجنسية أن تُغيّر نظرتي. ومعروفٌ أن الجنس عند الإنسان، له حق الأمرة دائماً. لا يمكن إلغاءه، فيُصار إلى إخفائه. للجنس قوة لدى الإنسان لا تُضاهى.. لم تستطع الآلهة أن تضع حداً له.. حتى الزواج يُنتهك.
أما بعد:
لماذا فتحت دول الغرب، ومنها الفاتيكان، ملف الجنس عند الأب بيار، بتهمة التحرش؟ الجواب واضح. كان هذا القديس الإنساني، مؤيداً حاراً وحاداً للقضية الفلسطينية.
الغرب، الذي يعتمر حذاء الصهيونية، مستنفر بقوة، لتشويه صورة كل من يقف إلى جانب الفلسطينيين.. لقد كشف الغرب الإجرامي عن أنيابه. هذا الأنيق لباساً وكلاماً، عرضاً وإعلاناً، بات يشبه جنكيزخان وتيمورلينك. هو غربٌ سفاحٌ وقادته وإعلامه ومن يخدمه، ليس أرقى من حذاء. مع الإعتذار من الأحذية، لأنها لم ترتكب وحولاً وفتناً أفدح من زبالة الأزمنة.
غزة، يا جزاري العالم، عاركم.
جلجلة الدم في غزة، تفضحكم، وتغضب غضباً يشهر القبضة ويراهن على المستقبل.. الدم لا ييبس في غزة. لم تتلطخوا به، لأنه نقي كسماء غزة، وصلوات النساء والأطفال وآيات الدعاء.. فغزة، ليست مقبرتنا، بل سماؤنا الأرضية، ببسالة الدم و..
أما بعد؛
الغرب، ليس مسيحياً.
“بلاد العرب أوطاني”، ليست وليدة آيات سماوية باسلة، ولا آبار نفط تحت أرضية.
والبحث في سجلات النقاء الجنسي وبراءة الجنس الإنساني، يفتح مجلدات سميكة، حول طبيعة التعامل مع الجنس.
إن إخفاء الجنس، فاشل. الجنس مكتوم ولكنه سيَّال. العيب فيه، مسألة دينية موروثة، وغير مطبقة. الجنس أقوى بكثير من كل وسائل منعه.. إنّهُ موجودٌ وجوداً تاماً. لا يتوقف رصيده إلا عند إفلاس البدن وأدواته..
وعليه، الجنسُ ليس عيباً. الجنس أقوى من كل قرارات “التقديس” والتكريس. لذلك، يحصل الجنس الممنوع في مخبأ الأسرار. ولكن الأذكياء، يُدركون جيداً، أن لا وسيلة على الإطلاق، لإطفاء الجنس. وعليه، أمام هذا العصيان الأبدي للجنس نرفع نصاً إنجيلياً، جاء على لسان المسيح في تهمة الزنى، “من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر”. صح. صح. صح. لذا، فإن الكنيسة لا تشبه المسيح. المسيح كان مُحاطاً بالنساء. رذَلهنَّ بولس الرسول. علينا أن نتذكر أن المسيح، لأنّه كان مُحاطاً بالنساء، كانت مسيرة صلبه محاطة بالنساء اللواتي كنَّ معه، فيما هرب الرجال من الرسل، وأنكروا أي علاقة به!
ما أتفه الرجال وما أروع الجسد. وليس مُستغرباً أبداً، كيف أن يسوع ظهر بعد موته، كما جاء في الكتاب، لمريم المجدلية الزانية.
أعود إلى الغرب وقداسة البابا والفاتيكان. هل أنتم مسيحيون؟
أظنُّ أنّ الجواب واضحٌ. البداية تكون بتحرير الكهنوت والرهبنة والراهبات، من واجب العفة. العفة مستحيلة. ما يُقدم عليه المنذورون للرهبنة، رجالا ًونساءً، هو أمر بيولوجي. البيولوجيا أقوى من الوصايا العشر وممنوعات الفاتيكان.. أما فلسطين، فهي عروس السماء منذ ما قبل الإيمان. وإذا لم تقنعوا، إسألوا السيد المسيح عن مسقط رأسه؛ عن تبشيره؛ عن اضطهاده.. وعن مسامحته.
مسيحُنا هنا، لا يشبه “قداسة” الإفتاء الفاتيكاني.
أخيراً؛
إنّنا نحب الأب بيار كثيراً. وما اتهم به، خطأ عرضي مغفور. أما ما ترتكبه أيها الغرب فله نار جهنم بجدارة الجرائم التي ترتكبونها.. في غزة وضواحيها العالمية.