فاتحة القول: حصتك منا يا شيرين، تتسع لوطن. لن يمحوكِ ليل، ولن تنساكِ ذاكرة ولن تنحسر صورتك.
أنتِ زمن مديد، كفلسطين تماماً. لست تراباً. أنتِ سيدة المشهد المتنامي. فلسطين معكِ، ومعكِ ننهل الانتماء لها. ونجدده. منكِ تعلمنا كيف نكون فلسطينيين وكيف وإلى متى.
أيتها الغائبة، انتِ أكثر حضوراً من الحاضرين. انتِ لستِ تراباً. أنك تعيشين في قلوبنا، وانتِ، كلما هطل مطر رشح الشجر ببرتقال ينتمي الى الروح مثلك. لك قوافل من البواسل والشهداء. وأنت عنوان الجواب على سؤال: أليست فلسطين باقية واسرائيل الى زوال؟ قيمتك أنتِ، أنك جدّدت الايمان بقيامة فلسطين، واقفلت الأفق على “اسرائيل”.
***
ماذا يُقال بعد؟
شكراً شيرين. عندما جُنَ العدو، وأطلق الرصاص عليكِ عمداً، شهرت دمك سلاحاً. نعم. سلاحنا دمنا. ومن كان كذلك ينتمي الى الخلود. ففلسطين باقية، وهم الزائلون. “اسرائيل” القوية والمستقوية تعد سنواتها القادمة بتشاؤم. مقاومة الفلسطينيين باقية، باقية، باقية. ثبت لـ”الإسرائيلي” الخائف، ان الفلسطيني تآخى مع الخطر. شهادته، منذ مئة عام، دليل على ان الافق قريب، والحرية ملء عذابه وآماله معاً.
***
لنفتح صفحة المأساة:
من القاتل؟
من اغتال شيرين ابو عاقلة؟
صعب ان نتذكر القتلة. القاتل مزمن، وليس واحداً، ولا طارئاً، ولا جديداً. “اسرائيل” لها شركاء، ولديها عصابات دولية تحميها وترضعها وتبرئها. هي التي تصَوب وتصيب، وصك البراءة والتبرير في جعبتها.
… والقتيل ليس واحداً ولا طارئاً جديداً. تاريخ فلسطين طاعن في المآسي. هي على الصليب، برجاء القيامة. دمها خبزها اليومي، كأس حتى الجمام. لائحة القتلى والشهداء فائضة عن الأيام والشهور والسنوات. والعدو، ذو اختصاص مزمن: اغتصاب، اقتلاع، تشريد، اعتقال، قتل، تدمير، مصادرة، مطاردة، طرد.. وكل ما ابتكره الاستبداد من وسائل التعذيب والنفي والقتل. في باب الذكريات المرة: حصار القرى، اجتياح البلدات، تهديد المخيمات، منع المرور، احكام محاكم عرقية، اذلال الكبار والصغار والنساء، قطع طرقات.. ان تعذيب الفلسطيني يُسكِر الإسرائيلي. كل هذا مسموح، ولـ”إسرائيل” وحدها، البراءة الدولية. وحدها بلا محاسبة ولا مساءلة ولا عقاب ابداً. كل ما يرتكبه “الاسرائيلي” معفى من الادانة. وكل ما يتعرض له الفلسطيني يستحقه. هو معاقب لأنه موجود. أكرر لأنه موجود. المطلوب ان هذا الكائن يجب الا يكون، وما تأمر به اسرائيل ينفذ. انها الدولة الوحيدة في هذا العصر، المحتلة والعدوانية، وهي مصانة ومدعمة، وخارج كل مساءلة ومحاسبة.
***
من قتل شيرين؟ من اغتالها؟
القاتل ليس جندياً. هذا كذب وبهتان. حماة “اسرائيل” قتلة. الدول التي كانت ذات قرنين، مستعمرة ومستوطنة، والتي باتت ديموقراطية جداً في ما خص شعوبها، حمت وتحمي عصابات الصهاينة في فلسطين وانظمة الاستبداد. هذا الغرب يبارك حروب “اسرائيل”. يدعمها. يسلحها. يعفيها من كل جرم. كل حروب “اسرائيل” مدعومة. حرب بعد حروب. تذكروا مذابحها. طردها لـ 800 ألف فلسطيني. دولة اختصاصها العنف: حرب العام 1947، العام 1956(العدوان الثلاثي) الخامس من حزيران، حرب تشرين، حروبها على لبنان وفيه: غزو بيروت وتدمير بلدات وقرى واجزاء من مدن… كل هذه الجرائم كانت مباركة ومدعومة بقوة من قبل غرب تمرَس في خيانة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ولا يزال. الغرب، كل الغرب، مرتكب. منذ مئة عام والمشرق العربي ساحة حروب دولية و”اسرائيلية”. الغرب ينام في الحضن الاسرائيلي. انه مرتكب وقاتل. هذا الغرب شريك ممتاز، وبرغم اناقته اللفظية، فان قبضته واصبعه على الزناد الاسرائيلي. ولا مرة أدينت “اسرائيل” المرتكبة. تذكروا دير ياسين، تذكروا قانا، تذكروا بلاداً كانت دائماً في مرمى اسرائيل والغرب الكاذب والعاهر.
قاتل شيرين، ليس واحداً. الغرب “الحضاري” مشارك دائم.
***
المسألة هذه المرة، كانت مختلفة. الشعب الفلسطيني توأم بين شيرين وفلسطين. تعبيره المثالي، الشامل، العام، الغاضب، المعاند، المستقوي بدمه، وقوفه الشاهق… دليل على ان شيرين/ فلسطين (واحد أحد) وان الشعب الفلسطيني، عن جد، هو شعب الجبارين. لا شعب مثله، لا شعب بقامته. مئة عام من التعذيب والمحق والسجن والقتل و… وما زال يرفع قبضته عاليا. ويبدو عارياً، ولكنه قوي. الهبَة الفلسطينية عبرت عن ان فلسطين حية، حية، حية، وان محيطها العربي جثة تتباهى بزينتها. اليس غريباً ان تكون فلسطين من دون اشقاء ابداً؟. وحدك أيها الفلسطيني تمثل أمة، وتحلم بمستقبل، لأنك وحدك، برغم القتل المستدام، ما زلت حيَاً، وتبث فينا، نحن المشردين على أرصفة الانظمة، الايمان الرائع، بأن فلسطين حية، حية، وأن سواها مطايا لغرب، استولد “اسرائيل”، واحتلَنا، ثم تسلل الى مخادع السلطات العربية، ونام في فراشها: هذه أنظمة الزمن القومي.
وعليه، فشيرين، ليست مجرد عابرة صاحبة مهنة. شيرين اليوم، ليست شخصاً غائباً. انها دائمة الحضور. شعبها نصبَها نجمة دائمة الضوء. شيرين هي فلسطين. ترابها. تراثها. هي احدى تجليات صورتها، وليس باستطاعة أحد بعد اليوم، ان يتذكر شيرين وحدها. شعبها كان لها، لأنها هي كانت لفلسطين. الجنازة كانت حياة، بطريقة اخرى. الصهيوني خاف. ارتكب جريمة (لم يستنكرها الغرب). الاعتداء على الجنازة، الاعتداء على الشعب. على العلم الفلسطيني. شيرين الشهيدة، شيرين فلسطين، كانت اقوى من دول المحيط “العربي”، وأقوى من صفاقة المنظمات الدولية، وبيانات دول التخاذل الغربي، التي استنكرت وشجبت القتل والتمثيل بالجنازة، من دون تسمية “اسرائيل”. هذا عار انساني غير مسبوق. تفانوا في تقزيم الحدث. يبحثون عن قاتل مفترض، فيما هم خزان القتل المستدام. شيرين ضحية وفلسطين ضحية كبرى. سفكها الغرب الديموقراطي، وحرستها انظمة التخاذل العربي.
***
كانت القدس على موعد مع هذا العرس الفلسطيني الفاجع والمؤلم. رفعُ فلسطين من حضيض الفتات العربي، الى رأس اولويات الوعي. كفى توصيفاً لعرب بائدة، تعيش بذخ الافراط في التنازل والالتحاق والتعلق بأذناب الامبريالية العالمية. الغرب الذي يدهش خدمه، من المحيط الى الخليج، لا يعَوّل عليه. انه موظف برتبة خادم لـ”اسرائيل” بايدن ذاته، أعلن مراراً انه صهيوني. بريطانيا كذلك. المانيا اكثر. دول وسط اوروبا تتبارى في الاصطفاف. ومن هنا، تعاين بسهولة الانتقال، ممن كان يطلق عليهم انهم عرب، من سياسة النعامة، الى مرتبة الشريك مع اسرائيل. يسمونهم “المطبَعون”. تسمية ركيكة جداً. التطبيع هو الوسيلة. الهدف هو الطلاق مع القضية، والانتقال الى الخندق السياسي-العسكري-الاسرائيلي. أليس غريباً ان بعض الشعوب “العربية” اعتادت على اعتبار الخيانة، سياسة واقعية حكيمة والجامعة العربية المتوفاة، استعادت حيويتها وتقوم بواجب قوننة الخيانة وتأمين حاضنة عربية، ولو مهلهلة، لها.
إذاً، فلسطين هي القضية، الحياة في ظلها كرامة ونزاهة ومبادرة. دول الخلجان والفيافي، حتى المحيط، تعيش زهو الانتقال الى القافلة الاسرائيلية-الغربية. ماذا يعني ذلك، بل كل ذلك؟ يعني أن لا مفاوضات “سلام” بعد الآن. ما “وهبته” الاتفاقات السابقة، ترك امر تنفيذه لإسرائيل. يعني لا دويلة ابداً للفلسطيني. الاحتلال باق وجل ما يصبو اليه. ادارة ذاتية، وتعاون أمنى في ظل الخيام السياسية.. لا كيان فلسطينياً. لا عودة لأحد. بل، الترغيب بالرحيل أكثر ملاءمة ومسالمة.
وعليه، ستكون يوميات الفلسطيني مشاهدة بناء المستوطنات على ركام جهده وتعبه وبيته. تلف المزروعات سياسة موسمية و…و… ثم وبعد ذلك، الانضمام الى لائحة الشهداء، ولوائح السجناء، ولو كانوا اطفالاً.
في موازاة ذلك، ممنوع على أي مواطن عربي، أن يعلن هويته السياسية الفلسطينية. باستثناء لبنان، لأنه يتمتع بحرية وفوضى ايجابية، فإن الفلسطيني يعلن انتماءه وحياته ووجوده لوطنه المعتقل. أما في معظم دويلات وامارات وملكيات الخليج، وفي مصر (يا حرام عالعروبة) وفي السودان وفي المغرب، فالفلسطيني محروم من الانتماء واعلان انتمائه، الى فلسطين. يعتبر الانتماء العلني تخريباً وارهاباً.
شيرين، فتحت للفلسطيني وللمنتمي الى فلسطين في دنيا “العرب” وعالم “الغرب”، نافذة ضوء على الاسئلة الممنوعة او الممتنعة: متى تتوحد الفصائل الفلسطينية؟ متى تتحلق حول برنامج؟ هل السلطة جديرة بالبقاء، خادمة لإسرائيل، ومتعاونة معها آنياً؟ هل الرهان على “السلام” باقٍ؟ والسلام اهترأ مراراً، بعد كل اللقاءات والحوارات؟ هل يمكن الرهان على غرب منحاز ومجرم ومرتكب؟ هل ممكن التعويل على المنظمات الدولية المعتقلة من قبل قوى الهيمنة السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية؟ هل يمكن الرهان على “شعوب” عربية، معتقلة في سجن كبير من المحيط الى الخليج؟
اذا كان ذلك ممنوعاً او مستحيلاً، فلا بد من العودة الى الادوات الفلسطينية المتوفرة، والتي يمكن ان تساهم في إيقاظ ضمائر الشعوب الحية في العالم، الرافضة للظلم والهوان والاستبداد والاستعمار؟
علينا ان نعلن بأسنا من اساليب ماضية، جنينا بها على أنفسنا.
شعب فلسطين باقٍ على الوعد والعهد. شعبٌ، سلاحه دمه، يرسم الطريق الى الحرية. أسمى القيم على الإطلاق: الحرية لا قيمة تعلو عليها.
ماذا بعد؟
فلسطين باقية لنا. فلسطين تناضل من اجل الحرية.
شيرين باقية معنا. دليلنا الى فلسطين. معها، ومع قامات الشهداء منذ مئة عام. سيحقق الفلسطيني المستحيل.
أخيراً؛
شكراً يا شيرين.
شكراً ايها الفلسطيني
إننا، ننتمي اليك.