من التاريخ جاء. جان دايه وحيداً جداً. لا يشبهَهُ أحدٌ. اختصاصه المعرفة. ميدانه قرون من التراث. إيمان لا يتزحزح بأن هناك دائماً نافذة، ومنها، يُطلق لقلمه حرية الكتابة، بشرط الصدق.. فالتاريخ، إن كذبَ، كان فتنة، بدل أن يكون لغة معرفة وإعادة صياغة للوقائع والأحداث. أصالة الكاتب المُنقّب، تقوم على صدق الكلمة.
جان دايه، المبتسم كثيراً، الساخر أحياناً، المؤمن بالحياة، كان شديد التفاؤل، وتحديداً عندما تُعلن العتمة سيطرتها على الكلمات والأفكار.. بلادنا مصابة باعتلال وجودي. موجودة بصيغة النفي. نفي المواطن والحقائق و.. التاريخ. وجان دايه، لم تهزمه الكوارث. ظل مطمئناً إلى أن اكتشاف الماضي، مسألة وجودية.
وفيما أنا أتابع محطات من مسيرته، في فيض المعارف والآراء والوقائع والكتابات، أتذكر ماذا تعني لفظة الحيسوب. عنده الخطأ ممنوع، والنقاش مفتوح على مصراعي الصدق والاحتراف.. التوغل في الماضي، ومعرفة الأحداث والأفكار والساحات والتناقضات، ليست فعل مراهقة. إنّه نتاج تعب وكشف وتصديق وتكذيب وتنقية وتنقيب.. فالماضي، منصة الحاضر. إن أساء، وقع الارتكاب. في ظني لم أعرف مثله كاتباً جدياً وساخراً وعقائدياً.
وجان دايه، حريص، حريص. لا مساس بحقائق التاريخ وتلوناته.
يتركنا جان دايه، نشعر بيتم. من سيدُلّنا علينا غداً، إن أسْرَينا في معراج المعرفة لتاريخ متنازع عليه، وواقع بقراءات متعددة.. راهناً، نحن في مرحلة الغوغائية، واعتداء الأقوياء، من ذوي التعصب الديني والطائفي، على ما هو حيّ جداً، وواقعي جداً.
لجان دايه ذاكرة دؤوبة.. كان في ما مضى، في أزمنة الصراعات الفكرية، يُسرِّح أجنحته، ويشارك في إعطاء قيمة لوثيقة أو نص، أو نصح الآخرين بنفيها.. قوله قولٌ صادق وحاسم. وعليه، من خلال مساره العنيد، تراثه المكتوب يتسع لأعوام، بل لعشرات الأعوام. السبب، أن كتاباته حضرت بعد أسفاره في المعاجم، المحاضر، الصحافة، الكتب، الأحاديث، المقابلات.. كأنه كان ساكناً في التاريخ، ومنه يُطل على الواقع.
لا أبالغ إن قلت: لا بد أن يكون في رأسه مصباح سرِّي، يرى من خلاله حتى في العتمة. يقرأ ويسمع صوت الماضي، لم أجرؤ مرة على مساءلته، كي لا يَعجَب لجهلي. فأنا والماضي لسنا على ما يرام. وقلّما أسافر بعيداً عن الواقع اليومي. جان دايه مدمن على المعرفة.. كتبه تدل على خصوبة حقائقه ومواقفه.
لستُ أميّاً. لكني إزاءه، أصير رافعاً إصبعي كي أسأله، ولا مرة ساءلته. وكنت أقول في سرِّي، جان دايه يشبه جان دايه وحده.. فرادته من صنع يديه ومن نصوص مؤلفاته.
انتماؤه القومي، إمتلأ وفاض إيماناً وصدقاً ومعرفةً ووضوحاً ومتابعةً ورهاناً على المعرفة ودقة حقائقها. حكمته الخالدة، كل شيء في كتاب، أو في حفر أثري. وكل فعل في المكان، وهذا يتطلب التزاماً وإيماناً وصدقاً وجرأة، حيث من الواجب أن نصدق مع المواقع والوقائع، وأن نتساءل عما قيل ويقال.
حزبيته صارمة جداً. لا يوارب. تختلف معه، فيترسمل بموقفه وأدلته. يعود دائماً إلى الينابيع في مؤلفات أنطون سعادة، وإلى من كان منتجاً، فكراً وأدباً وفناً، من رفقائه.
من أين له هذا الشمول والاختصاص الفكري والتاريخي والأدبي. إنّه لا ينطق عن هوى. تحزبه التزام معرفي. فضاؤه ومعراجه مجلدات وصفحات على وشك أن تهر وتصير رماداً. جديٌ في إيمانه الحزبي.. “التحيا” عنده، ليست لزوم ما لا يلزم. صباح الأمة، أفضل من صباح الخير. ممارسة تقاليد النهضة، واجب وذو معنى.
هو نوع من الترهبن. كأنه تصوف فكري أو كأنه يريد إيقاظ الماضي، ليساهم في الحاضر والمستقبل. وفي رأيي، أن ذلك الزمن الفكري والانتمائي لقرون خلت، هو الحضانة للمستقبل بصيغة إنسانية.
مؤسفٌ. جرت الرياح بما لا يشتهي المؤرخ جان دايه.
لا يصعب عليَّ إطلاق تسميات كثيرة له. فهو مؤرخ ومكتشف، وهو حزبي بأصول صارمة وانتماء صاف. يحرس التراث. ينتقي منه ما يساعده في المشروع النهضوي، لأمة ماتت أكثر من مرة، وأعادوا إليها الحياة. رجالٌ ونساءٌ آمنوا، بأن الأوطان، أهم بكثير من الأديان التي تحوَّلت إلى وسيلة، أو وسائل، للوصول إلى الخاتمة، ومعظم خواتيم هذه الأمة، هي نتاج هذا التديّن السِّلعي.
يا عزيزي جان ألَّفت كثيراً. تابعت أكثر. آمنت بالخط المستقيم. مشيته. بلغت فيه الصدق والالتزام والدفاع عن الحق والخير والجمال. دافعت عن أمة ماتت اليوم. “أَمَةٌ” في خدمة الطواغيت السياسية والرأسمالية والطائفية والرجعية والكيدية.
لم أكن أعرف معنى حيسوب. عرفته منك. أي الغلط غير مسموح ولا يدافع عنه.
جميل أنت كما كنت. تحب الطرفة والسخرية والضحك، وتتقن استعمالها، لا أعرف لك ليلاً. دائماً تسير على الدرب وتصل. ختمت حياتك على طريقتك. كان صمتك مؤلماً جداً لنا. أجمل ما فيك، أنك أنت بكل وضوح والتزام. محبتك وتقديرك لسعيد تقي الدين، دفعتك لتكون أخاه الروحي حتى الثمالة. أما سعادة، فقد وفيته حقه وأكثر، عندما أضفت إلى ما نعرفه، مرجعية تاريخية.
أنت ماضٍ وحاضر، وسنجدك حتماً في غدنا. أنت من النوع الصعب أن يمضي. سنتذكر جهادك بالكلمة والمتابعة والجرأة في الدفاع عما تكتبه. لأنك صارم وجاد في مواجهة الخطأ واللعب بالعواطف. التراث عندك مقدس. حرسته. العبث به جريمة.
لم تكن من سلالة السراب. جرأتك بلغت حد انكشافك لمن حولك ولقرائك. أتقنت انتماءك لعقيدتك. بَلَغْتَها حرفاً حرفاً. تدافع عن الفاصلة والنقطة وعلامة التعجب، فالنصوص، إما تكون منزهة من الخطأ والإنفعال، وإما تُرمى على قارعة النسيان.
كلامٌ كثيرٌ يلزم أن نقوله عنك وبك.
يكفي أن نقول: لا نجد لك عيباً في ما ثابرت وكتبت. والنقاش معك صعب. لأنك خلف متراس من الحقائق واليقينيات.
الأبد أصابك في ذروة صفائك ومعاركك. صعبٌ أن تتركنا فرادى. ترهبنك لعقيدة سعادة، شهادة انتماء ووفاء. أنت، لست تراباً، وإليه تعود. ستبقى صبحنا وأقلامنا وكتبنا.. وابتساماتنا لسخريتك.. منك نغرفُ مطمئنين كعادتنا إلى صرامتك ونزاهتك.
ها أنذا أرفع لك يدي بالتحية وداعاً.
صعبٌ جداً، أن يصيبك الأبد، ويتركنا فرادى.
أخيراً.. تباً للموت.