رفض ايمانويل ماكرون، ان يعتذر: جاء الجزائر كي يمحو الماضي. لم يصغِ لمواقف مفكرين وكُتَاب فرنسيين مرموقين، يصرون على ضرورة ان تعتذر فرنسا من الجزائر، بسبب الفظائع والمجازر التي ارتكبتها طوال مئة وثلاثين عاماً. تراخى الرئيس الجزائري. استقبله استقبال الملوك والمنتصرين. وقَعا على اتفاقات اقتصادية، وتوافقا على ان تتألف لجان، فرنسية جزائرية، لدراسة ملف الـ 130 عاماً من الاستباحة والشناعة.
لم تُكتشف مآثر العمليات الدموية بعد. فرنسا تتهرب. الجزائر الرسمية تتراخى. لكن الشارع الجزائري، وريث “ثورة المليون شهيد” ما زال يحتفظ بهذا التراث الكارثي، الذي جاء باسم الحضارة الغربية، ليعلم الهمج انهم غير جديرين بالحياة.
ما تيسر لي من كتب فرنسية حول فظائع الارتكابات، يدين الثقافة الغربية. فبينما كانت فرنسا، تحتفي بازدهار الفلسفة والشعر والفن، كانت خارج ارضها، شبيهة باجتياجات السبي التي عرفها التاريخ في “فتح القارة الاميركية”، حيث احتفل الغزاة، بإبادة السكان الاصليين. هذا التراث الدموي، لا يزال ماثلاً حتى اللحظة.
من يلبس اليوم الكفوف البيضاء علانية، هو عمل مسرحي فقط. تحت اكفهم اظافر شرسة، وفي عقولهم عنصرية لا حد لها، لكن بكلمات ذات فخامة اخلاقية.. الغرب كان مؤسس الجحيم، حيثما حل. بريطانيا استباحت كل شبه القارة الهندية. وكانت راعية لإنشاء دولة “اسرائيل”. وليذهب الفلسطينيون الى الجحيم.
في وداع الملكة اليزابيث، واهتمام العالم بالمناسبة، وإمطار بريطانيا برسائل التعزية. نسي العالم السجل الاسود للإرتكابات المذهلة في ثلث القارة الافريقية وبعض آسيا. تناسى ما ارتكبوه في الصين. أن الغرب، قبل هتلر المجرم، كان يفتك بالأصول والفروع، ويفرض على الشعوب الركوع. ولا يهتم بمن مات من وعورة العمل وساعاته المديدة. حضارة اوروبا التي برزت بوضوح في ما قبل القرن العشرين، هي نتاج ما سرقوه ونهبوه من بلاد محروم انسانها من الحياة… كي تظل على قيد الحياة، في البلاد المستعمرة، عليك ان ترضى بأن تكون عبداً، وان تحفظ الامثولة: “أنت عبد، وتبقى عبداً”.
في وداع الملكة اليزابيث، تحضر فلسطين.
نحن اليوم في القرن الواحد والعشرين. القرن الذي ورث عباءة الحداثة و”حقوق الانسان” و”حرية الشعوب”، و”الحلم الرشيد” (الديموقراطية). قرن قيل فيه انه قرن الحريات، وتناسوا حربين عالميتين، اندلعتا في دول اوروبا “الراقية”. لم تعرف البشرية همجية تم تنظيفها، عبر استبدال الاستعمار، بـ”المحاية” و”الشراكة” و”الاخلاق”. ونشاهد اليوم، ما آلت اليه احوال الكرة الارضية برمتها، ومنطقتنا بشكل خاص. ولنعترف، ان الحرب لم تتوقف ابداً في هذه الكرة البائسة لسنة واحدة. الحرب المستدامة، هي الخبز اليومي، للدول العظمى. وهي اداة التطويع لدول معاندة، عبر احراق الدول واغراقها في اتون الحروب الاهلية المستدامة.
ونحن العرب اليوم، جنود، في معسكر القتل والاقتتال من المحيط الى الخليج.
اعتدت، بعد طوافي في مراجع الارتكابات، أن أقف من الغرب موقف المشكك الدائم في الافعال والسياسات. اشعر بولاء فقط، للفن والأدب والشعر و… الحرية، التي تتمتع بها شعوب غربية. لم تعرف ما ارتكبته دولها في زمن الاستعمار.
المثقفون الفرنسيون، يصرون على ان تعتذر فرنسا من الجزائر أولاً. لأن حجم الارتكاب والنهب غير مسبوق، ولا يقارن بما فعله الآخرون. باستثناء الولايات المتحدة الاميركية. “نبية الارتكاب المستدام”. فحولة اميركا لا تنضب. انها في حالة حرب دائمة. في أطراف الكرة الارضية كافة. وقواتها منتشرة في المحيطات والقارات الخمس. وهي الوحيدة التي تدير حروباً مختلفة في انحاء العالم، من دون ان تصاب برصاصة. كل حروب اميركا. لا تطأ الولايات المتحدة. أذرعها العسكرية لا عدَ لها ولا حصر.
الكرة الارضية تحت سيطرتها، ومن يرفض ذلك، فمصيره معروف. منازلة واستنزاف وتدمير واخضاع. قلة صمدت، وقلة قوية تتصدى. قد تخسر قليلاً، ولكنها تعوض عن ذلك كثيرا، اوروبا تعيش تحت سطوة وهيمنة وأوامر واشنطن. تدعي غير ذلك، ولكنها من التوابع. انها تكذب بلغة تصدقها العامة.
انقل حواراً جرى بين متطرفين اسلاميين جزائريين ووالدهم الشيخ المسالم، المحب، الغفور، الذي قرع باب الحداثة الدينية، حتى انه اعطى الحرية لبناته وأبنائه ان يكون ايمانهم منفتحاً على الحرية والانسانية. فالله، ليس دكتاتورا، انه العدل والمحبة.
ولداه، غرقا في التطرف. انخرطا بما هو مضاد لوالدهما.
قتلا اختهما لأنها احبت من غير دينها، ولبست ثياباً عصرية. وواجها والدهما، بعقوبة انه مسؤول عن ذلك … لكن ذلك ليس كل شيء. تقليد الغرب حرام. لماذا فتحا صفحات الاستعباد الفرنسي للجزائر وقرأ الأخ الاكبر ما يلي:
“لقد دنسنا المعابد والمقابر وحرمة البيوت. ارسلنا الى التعذيب لمجرد الشبهة من دون محاكمة، اناساً ابرياء. ذبحنا على الظن والاشتباه جماعات بكاملها، ظهر لاحقاً أنها بريئة… بكلمة. لقد تجاوزنا البربرية. “البرابرة الذين اتينا لنحميهم”.
ثم تلا على والده الشيخ ما قاله القائد الفرنسي سافاري: “اجلبوا رؤوسا. سدوا مجاري المياه الفالتة، برأس اول بدوي تصادفونه”. جرى تنفيذ التعليمات. فصيلة فرنسية غادرت مدينة الجزائر، فجاءت قبيلة واقامت خيامها. ذبح الجنود الفرنسيون كل الرجال والنساء والاطفال بلا تمييز. بلغ عدد القتلى اثني عشر ألف قتيل. وعندما رجع الفرنسيون من الحملة، كان الفرسان يحملون رؤوس ضحاياهم على أسنة حرابهم. قتلوا النساء. قطعوا ايديهن ليسرقوا الاساور والخواتم… أحيانا.
ثم تلا الشاب على والده، ما سجله القائد مونتانياك: “الاطفال العالقون في الادغال الكثيفة يستسلمون بخوف. نقتلهم. نذبحهم. في نظري يجب القضاء على كل الاهالي الذين لا يقبلون شروطنا. حيث يطأ الجيش الفرنسي لا يجوز ان “ينبت حشيش”.
من كانوا يلجأون للمغاور خوفا، كانوا يحرقونهم. اما التمثيل فكان علنيا. قائد فرنسي يهدد جنوده: “لو جاء احد الجنود بعربي حي، فانه سينال مني عدة ضربات بالسيف. يجب اخذ كل النساء والاطفال وزجهم في السفن ونقلهم الى جزر مجهولة.. بكلمة واحدة، ابادة كل من يذعن لأقدامنا. كالكلاب”. يجب قطع آذانهم وجدع انوفهم.
ثم استطرد الابن الثاني وسرد له ما ترتكبه دول الغرب، في بلاد الشام، في العراق، في فلسطين وأفغانستان.
هذا العالم، هو صناعة غربية. وهذه الهمجية الكونية، هي نتاج ثقافة اجتياحية، رأسمالية شرسة اقوى من كل الآلهة، والانكى، ان المطلوب منا، ان نعتذر نحن من هذا الغرب الدنس.
فلسطين لم تكن مشروعاً يهودياً. كانت حفنة من الصهاينة رأت في بريطانيا حليفا، والعالم على ابواب حرب. فكان وعد بلفور البريطاني جداً. “اسرائيل” مشروع غربي، ومن يحج اليها اليوم، ويلتحق بالحذاء الصهيوني، جاء بقرار اميركي ومباركة غربية وتهافت عربي.
ترى؟ ما نقول في رحيل الملكة اليزابيث؟
اترك لكم الخيار.
اما انا، فعندما شاهدت التهافت الدولي، وإشادات العرب بالملكة، رغبت ببيت شعري جديد: “سجل انا لست عربياً”.