كأن الذي حصل، فصل من فصول الجحيم. نحن اليوم في فداحة الخراب. كيانات تصطف وتسأل عنها: أهكذا يكون التغيير؟ هل هذا لبنان؟ هل هذا وطن أم..؟ هل هذه سوريا؟ كيف احتملوها زهاء نصف قرن؟ كيف كانت السجون فيها مزدهرة وجحيمية؟ كيف كان الموتى يدفنون موتاهم؟ كيف تم قتل المستقبل؟
أهكذا يكون العصر الراهن؟ كأن الوجود ممنوع. والحرية متهمة وعقوبتها الإعدام. الحرية في “الأوطان” العربية لم تتعرف بعد على حقوق الإنسان. لم تعرف معنى العدالة. لم تذق نكهة النقد. أما العدالة فرجس مضاد للسلطة.
فجأة، جاء عصر جديد. الماضي القريب علّمنا الجبن ومن أخذ أمي أسميه عمي. ولنختصر: السياسة كانت ممنوعة وما تزال، في كل “الدول” العربية، والحرية جريمة فائقة الخطورة.
لا يشمتن أحدٌ بسوريا راهناً. فالعالم العربي كُلّه مُقيّد. أعمالك مقيدة بشكل مبرم وحدود حديدية. الحرية رجس من لدن الشيطان فاجتنبوها. قل نعم، حتى عندما يُتاح لك أن ترفع حاجبك بكلا. كل ما علّمناه زائف. كل رهاناتنا سخيفة. كنا منذورين للخسائر ليس بسبب قوة “إسرائيل”، بل بسبب اهترائنا الاجتماعي والفكري والسياسي. بسبب التسلط العسكري والفتك الأمني. بسبب قتل الضمير وكفر المساءلة وعقيدة الديموقراطية ولوثة الإنسانية.
كنْ كما تشاء، إلا أن تكون حُرّاً. مفكراً. صحافياً لا يرتشي. هذا هو الاستبداد العربي، من دون استثناء أحد، سوى لبنان الذي يعرُج على “ديموقراطية التعدد”.
أما إسرائيل الصغرى، فقد أصبحت دولة عظمى، كونها وصلت إلى حق الإمرة الدولية.
أما بعد؛ اختصر.
لنقل إذاً، خلص. الحق مع الأقوى. “إسرائيل” الصغرى، هي الكبرى: “أنا إسرائيل التي لا أحد يشبهني”. ترى؟ ماذا يقول العرب؟ لا تجب على هذا السؤال. الوقائع تدل على الأسباب: جاؤوا من الشتات الغربي. إقامتهم في البلاد العربية تاريخياً، كانت إقامة مريحة ومحترمة ومنتجة ومنتشرة من المشرق إلى المغرب. لم يعرف العرب اضطهاداً لأديان وأعراق وشعوب. كانوا ضد الكفّار.. واليهود من أهل التوحيد.
“إسرائيل” التي لا تشبهنا، هي صناعة غربية: “دولة لليهود”، ولكن ليس في بلادنا. فلسطين مغرية. وكان ما كان. ولكن ما هو معروف، أن “إسرائيل” لم تشتر أرض فلسطين. دفع الفلسطيني دمه لغرب دموي وصهيونية متوحشة.. إنما، ما حصل.. أن الصهيونية لم تخن شعبها. وقادتها استوثقوا بالديموقراطية، وتشاركوا كأحزاب وتيارات، لاحتلال “أرض الميعاد”، أو لتحريرها من أهلها. إلا أن مقارنة مع كيفية تعامل الحكام العرب مع شعوبهم، لا تشبه أبداً، الديموقراطية المثالية، السائدة حتى اللحظة في “إسرائيل”، إنها دولة لشعب، وليست دولة لسلالات وعسكر وأرومات وطوائف وأديان واحتكار وظلم وقمع..
لقد قتلتنا أنظمتنا قبل أن تقتلنا “إسرائيل”. لذلك، لا بد من الاعتراف، بأننا عندما نستعمل لفظة شعب، علينا أن نُدرك أن هذه أفدح كذبة منذ عشرات العقود. نحن مجرد خدم وغنم وماشية، يُدعى بعضها، حاشية.
من الشتات اليهودي، أنشأوا أمة ودولة. لم تمض سبع سنوات على التأسيس، حتى شنت “إسرائيل” حرباً عدوانية ثلاثية، على قناة السويس. ثم، تفوّقت على خمس دول عربية، في حرب حزيران/يونيو 1967، التي ركعت فيها “جيوش” العرب خلال ثلاثة أيام، وخسرنا سيناء والجولان والضفة الغربية..
وهلم جرا.. حتى حروب الليالي الراهنة في سوريا.
خلص..
أمس، دخل الجولاني سوريا، بسرعة سباق السيارات. روسيا انسحبت. إيران هربت. “حزب الله” نجا. الجيش السوري ترك أسلحته في مخابئها، و.. راحت سوريا التاريخية. وبدأ عصر جديد. هو عصر يعود فيه الشعب، إلى الماضي أولاً، ليتزود بدينه ومعارفه وعاداته وصلواته.. تمهيداً لـ”ديموقراطية”، ستشبه كثيراً “ديموقراطية” لبنان الطائفي.
الوحدة العربية ماتت. الوحدة القومية السورية “قفا نبكِ”. انتهت الجُمل الإنشائية. الأنظمة العربية، العسكرية، النفطية، الملكية، الأميرية، كُلّها معرضة للركوع، وهي جاهزة لذلك، برتبة فخمة، وسلطة مراقبة ويتم إرشادها بالإمرة.
سوريا السورية، بح.
لبنان اللبناني، لا تحلموا. لبنان وُلد طائفياً وسيبقى كذلك، حتى نهاية الأبد العربي. الأردن أمرك سيدنا. العراق لم يعد عراقاً. أما الممالك والإمارات الحاكمة.. “فما خصنا” بفلسطين وبالقوميات والعقائد. الرأسمال هو الدين الذي لا يعلوه دين، بل الدين في خدمة النفط والسلاطين.
مصر.. لا حول ولا قوة في وقف تدهورها السريع إلى الكارثة. مصر تريد خبزاً. اهتم السيسي بفخامة المكان وفداحة الإنسان. دول عربية، قيد القيود. الكلام ممنوع. الكذب عملة رائجة. الخيانات المستورة معلنة. إلى آخره.
لسنا دولاً..
والعصر القادم، اجتياحي.
مؤلمٌ أن نُهزم دائماً.
مُفجعٌ أن تصير إسرائيل، عصا الحقبة الجديدة، لأنها الوحيدة في العالم التي تضع الأمور وفق الأولويات المختلفة: الحرية. الديموقراطية. المحاسبة. المساءلة. التسلح. أو.. الحروب التي تفوز بها دائماً.
أخيراً؛ جاء العصر الجديد.. لن نكون فيه. وإن كنا، ففي كعب الصحّارة.