هناك من لم يستسلم بعد. هناك من يخوض معركة انقاذ ما تبقى من مؤسسات محتلَة. الخراب يجتاح كل ما كان من قبل. لكل شيء مواقيت. لا تزال الجامعة اللبنانية، ببعض عقولها ونبلها، تراهن على تحييد الجامعة من قدرها المحتوم.
كم كانت الجامعة اللبنانية، بعد مخاض ولادتها، أمل، بل آمال النخب الطلابية والنخب الاكاديمية؟ كم كانت أماً للفقراء ومتوسطي الحال. الجامعة اللبنانية، يوم ذاك، بل وزمن ذاك، قالت: تعالوا إليَّ أيها القادمون من معاناة اللقمة ومعاناة الحرف. كانت الجامعات الأجنبية ذات امتياز خاص. للأغنياء والميسورين والمحظوظين. مع ولادة الجامعة اللبنانية، ولد الأصل. برهنت الجامعة بسرعة، انها تسير على القواعد الأكاديمية والادارية الحديثة. صحيح انها كانت متناثرة في ابنية مختلفة، لكنها، عبر طلابها وطالباتها، اساتذتها وإدارييها وكوادرها، وإلتقاء كل الآتين من الكتاب والعلم والمعرفة، والطامحين بلبنان، وطناً ثقافياً للجميع، كانت وعداً اصيلاً ومديداً. ما زلنا نتذكر مشقة البدايات، ونتذوق طعم النجاحات. ألم يكن هناك طائفية؟ بلى. ولكن الطائفيين كانوا منبوذين. غرباء جداً عن مناخ عقلاني منفتح على عقائد وفلسفات وتيارات تجد منابعها من حداثة وأصالة. حداثة غرب متفوق علماً، وأصالة شعب وتاريخ، يحمل انجازاته ويباهي بها.. يومها، كان لبنان على موعدٍ مع المستقبل.
سؤال. ألم تكن الطائفية حاضرة؟ طبعاً، لكن بتهذيب مرن، واحترام أكيد. الطائفية يومها كانت خجولة. تتسلل بتهذيب الى تركيبة إدارية عليها أن تراعي الملل والنِحل اللبنانية. نعم. حدث توزيع طائفي، انما بشخصيات علمية واكاديمية، تخلت أو أخفت طائفيتها، لمصلحة النجاح في بناء جامعة وطنية، تعيش على الكفاف المادي، ولكنها تسخو بكرم العلم والثقافة والابداع.
أغلب الظن ان التوزيع الطائفي كان ممسوكاً ودقيقاً. فالميثاقية تفترض عدم استئثار طائفة او طوائف محددة بمراكز المسؤولية في المؤسسات والجامعات. التوزيع الطائفي المقيت، كان فاعلاً في السياسة. المراكز الأولى مخصصة بالعرف الثابت للطوائف. رئيس جمهورية ماروني. رئيس مجلس نواب شيعي. رئيس حكومة سني. وحكومة تتمثل فيها الطوائف الوازنة. كانت المؤسسات في الدولة موزعة على الطوائف كذلك. انما، في عدد من الحالات، لم تكن أي مؤسسة خارج التداول الطائفي. فالجامعة اللبنانية تداول على رئاستها وادارة كلياتها وفروعها رجال علم من كل الطوائف. لم تكن حكراً لطائفة ابداً. كان الامر مخجلاً. رؤساء الجامعة اللبنانية، قبل مرحلة التوحش الطائفي من كل الملل. راجعوا الاسماء. كل ذلك ظلّ كذلك، الى ان انفجر النظام وتوغل أهله وأحزابه وطوائفه بالدم. عشرات آلاف القتلى. مئات آلاف الجرحى. تهجير متبادل. جرائم تلد جرائم أكبر. الى آخر عهد نبش القبور لدفن قتلى الحقد الطائفي وابناء الاحزاب الطائفية. (يجب ألا ننسى. اننا دمرنا بلدنا، وطُلب ممن دمروه ان يعيدوا بناءه، فنهبوه).
راهنا، نستطيع ان نسمي الاشياء بأسمائها. مجلس الإنماء والإعمار، لمن؟ مجلس الجنوب لمن؟ صندوق المهجرين لمن ؟. حارس البلدية لمن؟ البلانتون هنا وهناك لمن؟ “الاستاذ” هنا لمن؟ ادارات المدارس لمن؟ ادارة الطوابع لمن؟ شرطي السير لمن؟. كل لبنان تطيف من رأسه لأخمص قدميه. الطائفية التي حققت انتصاراتها في معارك التقتيل الاعمى والحاقد، فازت بحصة ادارة البلاد، وفق منطق الميليشيات. ان الحواجز التي كانت تقتل أفراداً في زمن فتنة الـ 15 عاماً، تفتك الآن بالمؤسسات وتقتلها. مصرف لبنان لمن؟ أليس هناك أجهزة امنية (يا ناس) لكل طائفة. جهاز أمني للسنة. جهاز أمنى للشيعة. جهاز أمني للموارنة وجهاز أمني “فرعي” للدروز؟
عن أي جامعة نتحدث. لقد تم اقتسام وتقسيم الأرض واستجابت نعاج الطوائف، واصطفت تأييداً للخراب القادم.
سؤال: إذا كان هذا هو القانون الطائفي، فلماذا تنجو الجامعة اللبنانية؟
الجامعة اللبنانية تعرضت لمذبحة اولى، إبان حرب الاخوة – الاعداء، ملوك الطوائف وشياطين الطائفية، عملت، ومعها حشود من الاساتذة الجامعيين، على توزيع الجامعة، او تفريعها، على المناطق، كل منطقة حسب اقليتها الطائفية او اكثريتها. وهكذا لم تعد الجامعة اللبنانية، لبنانية. للأسف الشديد، صارت جامعة للطوائف والمذاهب.
هذا يعني، ان الطائفية اجتياحية وناجحة و… قاتلة. هل تشبه الجامعة اليوم، المُشتتة، المُطيَفة، المُصادرة، المأمورة من زعامات العمى الثقافي، والجشع المالي، ما كانت عليه احلامنا في الجامعة في الستينيات والسبعينيات وحتى بداية اندلاع الفتنة؟ ابداً. أكثر من ذلك، انتقلت عدوى التطيف الى الجسم التعليمي في اكثريته. تأملوا جيداً التوزيع الطائفي الجغرافي. كل كلية في منطقة، على دين اكثريتها الطائفية. هي في الشرقية مسيحية. في طرابلس سنية. في الجنوب شيعية. في الجبل درزية.
حالة تدعو للرثاء والبكاء. شيء مؤلم ومؤلم جداً، ان تنجح العصابات، في تحويل هذا الصرح الذي كان وعداً جميلاً، الى مغارة علي بابا. ولا نظلم طائفة، ولا نحملها وزر اخرى. “كلهم في الهم شرق”. كلهم خرقوا الجامعة والحقوها بهم.
انما، لا تقع المسؤولية فقط على العصابات الطائفية وقراصنتها. فالجسم التعليمي الجامعي في كثير من افراده، يسمح ويطيب له، أن يدخل الملاك، وان يرتقي، وان يتقدم، وان يتثاءب وان يخالف القوانين، وان يغيب وان يقبض راتبه. وان يكون عاطلاً عن التدريس، وأن يكون هنا شيعياً مواظباً على إحناء جبهته، ليُنصب رئيساً للجامعة، بعدما آلت الرئاسة اليها اخيراً.
الدكتور وفاء ابو شقرا، كتبت نصاً في موقع 180post عن ما آلت اليه الجامعة اللبنانية. عن مصير كوادرها؟ عن تصحيح اداراتها بدل تدميرها؟ عن تجاهل الحاجات الاكاديمية. كان نصها صراخاً مؤلماً. انما، لا أحد يسمع ولا أحد يجيب. الجامعة بلغت الشوط الأخير: الانهيار امامها وخلفها بات سراباً.
الحق على من؟
هل يتحمل الاساتذة هذه المسؤولية؟ بالطبع لا. الطائفية علمتنا ان طريق “النجاح” مؤمنة وموفورة، ان كنت من عظام رقبة النافذ، في كل منطقة او في “كل جمهورية”، من جمهوريات الطوائف الفالتة على غاربها.
لا يتحمل الشرفاء ابداً ما آلت اليه الجامعة. كان يجب ان يتوقعوا ذلك. فالطائفية لا حدود لها، في بلد يتم فيها تسييب القوانين، والدعس على الدستور، والهزء من الاخلاق والقيم.
اصحاب الشهادات الطائفية، يبيعون علمهم من اجل عمادة، او ادارة او منصب. هؤلاء، مذنبون. القول المأثور حاسم: “تجوع الحرة ولا تأكل من ثديها”. اما اصحاب الكفاءة العلمية – الاخلاقية، فما عليهم الا ان يتذكروا جيداً، ان مصير الجامعة كان معروفاً من زمان. مع ازدحام الوحوش الطائفية، لن يبقى حجر على حجر، من لبنان الثقافة، إنه لمحزن جداً ان يكون “لبنان الرسالة” كما تمنوه ونفخوه قد بات “لبنان الممسحة”، للطوائف هنا، وممراً لحلفائهم من هنا وهناك.
خاتمة المأساة. أن الجامعة اللبنانية اليوم، نزلت الى الشارع، تطالب باليسير لتسيير الحياة الجامعية الشحيحة.. ممنوع التعبير عن الوجع. ممنوع على “الدكاترة” في لبنان أن يعلنوا وجعهم.
لقد صرخوا. لقد حزنوا. لقد دمعوا. وكانت مواساتهم، للأسف، بل ويا للعار، أن تعرضوا.. لما لا تحمد عقباه.. جلاوزة السلطة، كانوا ذات يوم، طلاباً في هذه الجامعة.
خسارة الجامعة.. تشبه خسارة أمنا.
تلخص دموعنا الجافة، وأحزاننا الفائقة.
أخيراً؛ لبنان هذا، ليس وطنا، ولم يكن وطناً.
إنه لعنة.