كنتُ أرتكب الأحلام: فلسطين وحدها لم تدفعني إلى اليأس. لا شعب أو كياناً، يضاهي الإنسان الفلسطيني، لم أتعلم مواقفي من الكتب. فلسطين كتابي وانتمائي. إنما، في مسلسل البكاء والأحزان والخسران، صرتُ طافحاً بالإنتماء إليها، في كل أحوالها وأهوالها وأحلامها. هذا نوعٌ من العذاب الضروري لعدم فقدان الأمل.
كنت فلسطينياً وإنما. وحدها، لها الحق في أن تأمرني. مراراً، نبّهَتني من اليأس. اليأس عدو التحرير والإرادة. أريد أن أرى فلسطين عن قرب. أريد أن أسبح في سمائها، في فورة الحرية. حفظتُ النصيحة، وترهبنت لخدمة القضية.. أريد أن أرى فلسطين عن قرب. أريد أن أسبح في سمائها، في فورة بساتينها، بعرق شعبها.. وكان أن حظيتُ بدعوة جاءتني بلا موعد. “غداً نذهب إلى الحدود. هل أنت جاهز؟”. لا جواب. بسرية تامة. نقلوني إلى ضفاف فلسطين الشمالية. وهناك، تعرفت على أمومة فائقة. على جبال ناطقة، على احتلال وعلى جريمة مستدامة. جريمة تُزوّدني بقبضة وقلب ومواجع. لمرة أولى ووحيدة. نبتت براعم أمل راسخ. أنا الآن إبن هذا الأمل.
فلسطين مراراً أسَرّتْ لي، تعلَّم. وأنا ما زلتُ أتعلَّم. القهر وحده هو الذي يعلمني جديداً. سميّتُ فلسطين وطني. حبي لها مرهق. وأما عذابها فهو مخاض ولادة في غدٍ مديدٍ.
هل في هذا مبالغة؟ لست مسؤولاً عن ذلك. ولدت فلسطينياً بالانتماء. وموتي لن يدفن أملي بحريتها.
أما بعد؛ فإن غزة الصغرى، هي فلسطين الكبرى. تجرأت على المستحيل. “إسرائيل” هي الكيان الأعظم. هي “الدولة” التي تحظى بدعم القوى الدولية الجهنمية. فلسطين الوحيدة، في غزة عِزَتها، تتخطى القارة العربية التي تتربى على موتها وعجزها. أغنى بلاد عندنا، إنما؛ يا فقرنا، يا ذلنا، يا عارنا. قارتنا العربية ملجأ لشياطين المال وطغاة الحُكّام. “أمة عربية واحدة، ذات إخفاقات وانتهاكات واحدة”. تُمارس الحضور البوليسي، خوفاً من الحرية. أنظمة العرب بلا استثناء كلها تخاف الحرية لأنها بالحرية.. تزول.
ماذا بعد؟ لا بد من العودة الى الروايات التاريخية والوقوف على عصور الجرائم الإبادية.. وفلسطين تنتمي إلى طقس المذابح.
“إسرائيل” ليست مشروعاً يهودياً بعنوان الصهيونية. هي اختراع غربي، وعناية بريطانية. الغرب ينوء بأبناء الثورات.
مراجعة الكاتب الفرنسي اليهودي/ جاك أتالي. Les juifs et le monde et largent
سيرة يهودية ناجحة وناجعة. في زمن الحكم العربي الإسلامي. عوملوا معاملة عادلة. التمايز الديني لم يكن مُحرجاً لأحد. الإسلام اعترف باليهودية والمسيحية. تفوق اليهود في التجارة. شبكة مصالحهم تبدأ من قندهار وصولاً إلى طنجة. وأكثر من ذلك. لا نعرف ظلماً أو مجازر بحق اليهود. وأحد أبرز الأدلة، أن قائد الجيوش العربية في إسبانيا، كان يهودياً. وبعد موته، عُيِّن إبنه قائداً.. مثلُ هذا لا نجده في بيئات غربية. الظلم الغربي مدرسة في الإجرام. قراءة تاريخ أوروبا يؤكد على عذاب وتعذيب وإجرام الغرب بحق اليهود. لم يتعرض اليهود في البيئات العربية إلى ظلم مستدام أو مؤقت، أما أوروبا العنصرية، فقد كانت تمارس اضطهاداً وقتلاً ونفياً وسبياً. اذن الغرب كان ينوء بمشكلة هو سببها. اليهود شُرّدوا، قُتلوا، نُهبوا، تبدَّدوا، ظُلموا. كانوا كالطاعون. وصلت مواصيل الغرب إلى ارتكاب الإبادة. فرنسا المحتلة ساهمت بتزويد أدولف هتلر بقوافل يهودية سيقت إلى معسكر أوشفيتز في الحرب العالمية الثانية. لم يكن اليهود في أزمة، في فترات السلطة العربية، بل تبوأوا أعلى المراكز.
“أيها الغرب، تريد أن تتخلص من حثالة الدين اليهودي”. راجع تاريخك.
ثم أن الغرب كان سيد الارتكابات. تذكّروا جيداً الإبادات التي نفذتها قوى الغرب، المدعية أنها تدافع عن عقيدة الإيمان. إيجاد “إسرائيل” كوطن لليهود، لم تكن الجريمة الأولى. من قبل، غزت جحافل “الهولاكو الغربي” القارة الأميركية. لم يحافظوا على أهلها. أبادوهم بالكامل. بالكامل. هناك جنس بشري أبيد على أيدي “حاملي الحضارة المنسية بهدف الإستحواذ على الأرض وما فيها”. ممالك الغرب قامت بغزو قارة أخرى. سمّوها أستراليا. أوكلوا أمر القتل إلى مجرمي بريطانيا “العظمى”. لا أعرف سبباً لهذا الغلو الغربي في معاملة “الأغيار”. ثم توالت الغزوات الاستعمارية والإبادية. احتلوا الصين العظمى. أفدح حروبهم كانت ضد الصينيين، واسمها حرب الأفيون. ثم اعتدوا على أمة جليلة في تاريخ العالم. احتلوا الهند وحكموها بجزماتهم ونهبوها بحيث أن عدد القتلى جوعاً، لا عدَ له ولا نهاية.
في التاريخ الجديد، لا شيء جديداً. الغرب هو هو. لم يتغير. وحده المشهد يتكرر. أميركا العظمى، المؤلفة من شتات أوروبي، والمطمئنة إلى إبادة سكان الأرض الأصليين. أنشأت مستعمراتها. ورثت أوروبا وأمجادها. ثم ألحقت الجميع بها. لم يعتدِ أحد على الولايات المتحدة الأميركية. ومع ذلك، فإنها، بلا أي سبب، غزت دولاً. أطاحت بحكومات، ودمّرت مجتمعات، وعاقبت الأبرياء، وسحلت قوى الإنتاج، حووَلت الشعوب المغوبة، الى خدم ومجرد سلعة. لم توفر أميركا اللاتينية. وصلت إلى الأطلسي وحدوده الشرقية. أي احتلت وأخضعت وألحقت دولاً وشعوباً بآلتها المالية. لا دولة مرتكبة للجرائم كتلك التي نفذتها أميركا. حربان عالميتان بقيادتها. ارتكاب جريمة غير مسبوقة. قنابل ذرية على هيروشيما وناكازاكي، وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء، أكرّر: الأبرياء جداً.
هذا هو وجه الغرب “المؤمن” بألوهة المال. لا إله أقوى من الرأسمال. حصيلة حروب أميركا مذهلة. عددها 134 حرباً وهي مستعدة للمزيد. لذا، حضورها في أوروبا وازن. حضورها في المحيطات مُباح. أوامرها تُطاع.. و”إسرائيل” ولاية أميركية ـ غربية، بلغة عبرية.
أكرر. “إسرائيل” لم تكن مشروعاً يهودياً. هي مشروع غربي للتخلص من اليهود من المضطهدين من الثقافة القومية الأوروبية.
قبل العصر الاميركي، اجتاحت بريطانيا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية وأخضعته لتاج جلالة الملكة وكان أفدح ما ارتكبته هو وعد بلفور. فلتكن “إسرائيل” الولاية الغربية في قلب الجغرافيا العربية. حارب فيصل وبريطانيا وفرنسا الإحتلال التركي بنا.
لا بد من موطىء قدم. هكذا كان. إحتل الفرنسيون الجزائر. شهداء بالملايين. إيطاليا المسيحية غزت ليبيا وألحقتها بها. تقسيم سوريا الكبرى إلى فتات دول: لبنان، جبل الدروز، وهبوا الإسكندرون لتركيا. إقامة مملكة تحت جناحهم في الأردن.. فتكوا بنا تقسيما وزعوا الفتنة في كل مجتمع. صنّفوا المواطنين وفق دياناتهم وطوائفهم وأروماتهم.
الخراب العربي. لم يكن بين العرب. وكلاء الغرب في هذه المنطقة، ساهموا في إضعاف أمة وبعثرتها وجعلها كيانات متذابحة. حروبنا الداخلية في كياناتنا كانت برعاية غربية.
باختصار “إسرائيل” مشروع غربي رأسمالي. هذا أولاً. من دون الغرب ودعمه تزول. لا ننسى أن فرنسا ديغول، “المعبود عربياً”، هي التي وهبت “إسرائيل” مفاعلاً نووياً. تعرضت مصر للعدوان الثلاثي بشراكة بريطانية وفرنسية. لبنان هذا المعتل والمنهك من زمن ولادته، هو هبة ملغومة للبنانيين. يا حرام. نقتتل نحن، لأن تحضير المقتلة تم في معاهدة سايكس بيكو.
السؤال الغبي المطروح: أين العرب؟ أين الحكومات؟ أين الدول؟ أين الشعوب؟
الجواب واضح وترجمته هي الآتية: لا شعور أو إحساساً بالمأساة الفلسطينية. لقد ذُبحت فلسطين مراراً. طاردوا شعبها في كل مكان. هجّروه. قتلوه في الأردن. منعوه من الإقامة المسلحة في سوريا. أدخلوه في آتون التناقضات الطائفية، إلى أن تم نفيهم إلى أبعد الأمكنة من فلسطين: تونس واليمن و.. المنافي البعيدة.
وعليه، فإن أعداءنا، وبكل أسف، هم مرجعياتنا. لبنان أكثر من نصفه مع أميركا. سوريا حلقة من العنف المحموم بقيادة اميركا وتركيا والممالك والإمارات. وهذه كلها تقيم تحت الإمرة الأميركية. لا تعجب إذاً من موقف الغرب الهستيري، ضد أصغر بقعة في العالم: قطاع غزة.
يا عالم العهر. إننا أبرياء. لم نؤذِ أميركا ولا فرنسا ولا بريطانيا ولا إيطاليا ولا كل زمرة الغرب التي وقفت بعنف إلى جانب “إسرائيل”. شعب غزة لا يواجه “إسرائيل”. إنه يواجه الأسياد الغربيين، وحلفاءهم من العرب، وهم كثر.
إني مؤمن بأن غزة أمة، لا بل طليعة أمة.. وللنص تتمة.