قيل كل شيء. لبنان كتاب مفتوح. لا جديد في ما يُقال ويُقرأ ويُتوقع. ومع ذلك، فانه وحده حي يرزق، فيما شعبه يقلد القرود الثلاثة، لا يسمع ولا يرى ولا ينطق.
ما الفائدة من الكتابة؟
يصح ما قاله الكاتب الفرنسي اندريه جيد: “وبما أنه لا أحد يستمع، فعلينا تكرار كل شيء من البداية”. الصمت لا يعلمنا شيئاً. الصمت تواطؤ خاسر.
وعليه، لا بد من القول والتكرار. شعوب لبنان استحقت عقوباتها. ليس عليها أن تشكو حالها. هي احتملت الكثير، وتبرهن انها قادرة على الاحتمال، من دون أن تتحمل مسؤولياتها. اللوم يقع دائماً على “الآخر”. و”اللبنانيون” فلاسفة التبرير والتأييد لمن يرتكب، بشرط أن يكون الارتكاب مشتركاً. مطلب المشاركة واضح. كما تكونون نكون، وكما أنتم نحن. “ما لنا هو لنا”، يشبه “ما لكم هو ما لكم”.
الانقسام المزمن كرس قاعدة المحاسبة الدائمة للخصم، والعفو الأبدي للصديق والحليف. نظام القيم نسبي. المبادئ، “هيك وهيك”. مصائب لبنان من صنع “خصومنا”، ومن صنع من ليس منا. الآخرون هم الكارثة، “نحن” خميرة الوطن، ولولانا، لكان لبنان في خبر كان… والسؤال المنطقي عن هذا التفكير، اليس لبنان، كل لبنان، في خبر كان؟ والآتي أعظم. لبنان بلغ الدرك السفلي، انه على حافة المصير.
يحظى لبنان “ببركة” الاجماع، برغم الخلافات المرتفعة الصوت. الاجماع يضم كل الخصوم لمحو كل الاختلافات. ضمانته الدائمة، “الربح المشترك”، فالحكم صفقة تعقبه مرحلة عقد الصفقات. من دونها، الصفقات، لا سياسة في لبنان.
اللحمة بين اللبنانيين، لا تقوم على الانتماء إلى هوية لبنانية. اهواء “اللبنانيين” عابرة للحدود، وتتخطى الجغرافيا، ولا تقيم وزنا لدستور. انهم يدينون سياسياً ووطنياً، بديانة آبائهم وجدودهم. من زمان، اللبنانيون، موزعوا الولاءات. لبنان لا يكفيهم. ضيق جداً على انتماءاتهم الدينية والمذهبية.
اللحمة بين افراد الشعوب اللبنانية، لم تنشأ بعد، على قاعدة الانتماء إلى لبنان. ارث الاستتباع موجود من زمان. لكل طائفة وطنان، لبنان، ودولة أخرى يشعر انها أقرب اليه من ابن بلدته او بلده. ومع ذلك، فإن الاجماع حاصل. انما، وهذا هو الأهم، الاجماع يكون على عقد الصفقة، وعلى تأمين الحصة المناسبة لكل فريق، فلا تعتدي طائفة على “حقوق” طائفة أخرى، ولبنان يؤمن هذا الاجماع، فيعطل المساءلة والمحاسبة والقضاء، ويتحاشى الدستور وينحرف عن القوانين، ويغمض عينيه عن الهدر والانفاق، ولو بلغ الدين حدود المئة مليار قريباً.
لم كل هذا الضجيج الاعلامي؟ عملية لهو ليس إلاَّ. صراخ اعلامي وصمت قضائي، وتطنيش سياسي. مرسوم التجنيس تحفة سرية. عندما كشفت، تصدى لها، من هو اليوم خارج الصفقة. الاخطاء الانتخابية فضيحة، ومع ذلك فالأمور تسير وفق توقيت “بيغ بن” البريطاني العريق.
لم كل هذا الضجيج حول سوريا والسعودية وإيران و…؟ كلام للاستهلاك؟ لم هذه المعاودة إلى معزوفة سلاح المقاومة؟ كلام لا يبلغ اسماعاً. ومع ذلك، وبرغم ذلك، وبسبب ذلك من خلافات وصراخ واعلام يوثق المنكر، فلا بد من اجماع، في تأليف الحكومة، فلا يظل خارجها، إلا قلة قليلة، مع احترام حصتها الصغيرة.
الادارات، بنت الوزارات، هي الحزب السياسي الأول في لبنان، وهذا الحزب، ذو اجنحة متعددة، ولكل جناح طائفي ركن فيه، لتنظيم حسابات المحاصصة، بحيث لا “يظلم” أحد من “منهوبات” الدولة. العدل في السرقة، رأس الحكمة السياسية في لبنان.. من يعلو صوته كثيراً يلبى صراخه بتدعيم حصته.
كل ما قيل في هذه المقالة، قد قيل سابقاً. لا جديد البتة. ومع ذلك، لا بد من التكرار، كي لا يصير الشواذ قاعدة، كما هي حال الكثير من الامور في لبنان. وللشواذ في لبنان تسمية شريفة. يقولون: هذه اعراف، حتى ولو كانت تعارض النصوص.
يجب أن يقال ويعاد القول. لا بد من صوت صارخ في برية السياسات اللبنانية، كي لا تموت الحياة في من لا يزال على قيد الحياة، بضميره ومبادئه والتزاماته.
لبنان السياسيين، “ميت على قيد الحياة”.
لبنان الناس، لم يمت، ولن.
هناك دائماً، ضوء في آخر النفق. المهم أن يستمر قرع الجدران، بقبضات قوية.
لقد قيل كل شيء، ويجب أن يستمر هذا القول. من خرجوا على “شعوب لبنان الطائفي”، ليسوا قردة، لا تسمع ولا ترى ولا تنطق.