الموعد الانتخابي قد فات. لم يعد مُجدياً انتظار القانون ولا فتح صناديق الاقتراع. السلطة، بما ومن فيها، ربحت قبل عمليات الفرز. في العصر ما قبل البدائي، كان المنطق يستند إلى مقولة “الشبيه يدرك الشبيه”. هؤلاء، ينتمون إلى ذلك العصر. فلا يلزم، بناء على ذلك، تصديق المعارك الكلامية، وادارة الاذن للتهويل بالفراغ او بالعهد. هؤلاء اصحاب إختصاص في ملء كل فراغ. إنهم الامتلاء الكامل. انهم عباقرة الفذلكة والاكروبات. ولو لم يكونوا كذلك، لما كانت رئاسة ولا حكومة ولا موازنة ولا… هلم جراً.
الحديث الفالت عن الانتخابات بات ملوثاً ومعلوكاً ألف ألف مرة. من عناوينه البذيئة: “قانون الستين”، “لا للتمديد”، “لا للفراغ”، “الاكثري يزاوج النسبي”، “النسبية الشاملة”، الدوائر الصغرى، الوسطى، الكبرى… الحديث الفالت، كذب، كذب، كذب.
هذا زمن تفوقت فيه التفاهة وارتقى فيه السخف إلى مرتبة لا حياء فيها. مجنون من ينتظر شيئاً من هذه اللعنة الملقبة:”الطبقة السياسية”.
واجب مُلح الكف عن ترداد اكاذيب هذه او تلك من القيادات. واجب تهنئتهم كقادة مطوبين، مهما اتوا من منكر. هؤلاء قادة يطاعون ولو قالوا الشيء وعكسه في جملة واحدة.
انه نمط من انماط عبقرية الانحطاط.
لا يُلام هؤلاء. لديهم صكوك مبرمة من اتباع “غفيرة”، ووكالتهم لا تنزع عنهم حتى ولد الولد إلى اخر السلالة وآخرة الوطن.
قادة لبنان يدعون تمثيل جماعات غفيرة. لكنها جماعات لا رأي لها ولا حول ولا قول ولا قوة. هؤلاء، مستعدون “لنقل البواريد من كتف إلى كتف”، إذا افتى القائد بذلك. السلم الطائفي الراهن اقتضى صفقات مصالحة بين خصوم دأبوا على رسم الخنادق بين الطوائف وداخل كل طائفة احيانا. فضيلة، أن يكون الانسان غبياً إلى درجة تصديق القائد والتعامل معه وكأن كلامه من وحي او نبوءة. اناس في غاية الطاعة، يمشون خلف قياداتهم حذو الجبهة بالنعل.
السياسة في الدول الاستبدادية معدومة. جرى اعدامها بقوة ملكية او اميرية او حزبية. السياسة في لبنان الديموقراطي – التوافقي هي مهنة الزعبرة العلنية، وفن من فنون اغتصاب السلطة، بأي ثمن، بأي ارتكاب، بأي تحالف… هنا في لبنان فقط، يتحالف الاعداء.
وعلى كل ما تقدم، لا بد أن يكف “اللبناني العظيم”عن التغني بالديمقراطية وتداول السلطة واحترام التعددية.
معيب جداً ذلك. هذا يدلل تفوق التفاهة وارتقاء السخف وصلافة البراءة وتهافت الحكمة وادعاء العمل من اجل انصاف الطوائف، لان “هذا هو لبنان”.
لبنانهم هذا لا يساوي “نكلة”.
لا يضير الطائفي أن يكون طائفيا. هذا من طبيعة “العبودية الطوعية”. يلتذ هؤلاء برنين القيود في معاصمهم. لا يلام هؤلاء في ظنهم انهم ينتخبون قياداتهم. يشبه لهم ذلك. انهم لا ينتخبون الا ما اختارته القيادات. قيادتهم لا تمثلهم ابداً، ولا تسأل عنهم، الا عند لحظة التحشيد.
انما يُلام يساري او قومي او علماني او ليبرالي، عندما لا يجد ضيراً في الاصطفاف الطائفي، مدعيا أن الموضوعية والواقعية السياسية، تفرض مثل هذا السلوك، انطلاقاً من أن النظام الطائفي يغلب من داخله.
خرافة تلك. الطائفية تهزم بقوى اقوى منها، ومن خارجها. وحتى اللحظة، اتحاد القوى الطائفية المارونية، السنية، الشيعية، الدرزية، اقوى من الشتات الذي يتوزع فيها اللاطائفيون.
أبشع ما يرتكب، أن يساهم اللاطائفي، في كرنفال الطوائف. لن يعطى الا دور المهرج.
الطائفيون تبنوا عبوديتهم، ويسيرون بحناجر طنانة وتكرار يُزبد وتصويت نهائي. فهذه جمهوريتهم هم جمهورها، والبقية لا علاقة لها بالكيان.
فأين الاخرون؟ اين النخبة العاصية او المعاكسة؟ اين اسئلتهم ومساءلاتهم؟ بسبب غيابهم غير المبرر، انتشرت الامية المعرفية وتفوقت الامية الاعلامية وانتشرت الامية الاخلاقية.
اين هم؟ يبدو انهم استسلموا لمنطق الاستحالة:
“لبنان هذا هو هكذا”وليس قابلا للتغيير. انه معطوب من اساسه، وإصلاحه معجزة. لقد استطاع لبنان أن يقلب كل شيء رأسا على عقب. فالجهل قوة، عندهم. الدين قوة، كذلك، المال اقوى الالهة، بالتأكيد…والنخب المعاكسة لا قوة لديها، لأنها استسلمت قبل أن تندلع المعركة… شتاتهم جعل منهم “القوة الخرساء”.
إلى متى يبقى لبنان كالحاً ومعتماً جداً؟
لا بوادر ابداً، بأن فجراً سيسطع. ربما فات اللبنانيين منذ عقود، أن يصنعوا مما وهبوا، وطناً. فضلوا عليه المزرعة. والمزرعة، ملك خاص. زريبة لمن بات من الدواجن.
إذا كانت اللعنة تجوز على اصحاب المزرعة، فهل تجوز الرحمة على اصحاب الاحلام المجهضة؟