لا أعرف من أين أبدأ. نحن الآن نلج العام 2019. نعلمكم، سكان ذلك العام البعيد عنا، أننا لسنا بخير أبداً. الدهماء تتحكم بنا. وحكامنا يشبهون زعماء العصابات. تحبهم شعوبهم تحت التراب، وتنشد نسيانهم. الخراب الشامل، هو ما أنجبته عبقريتهم السياسية.. خراب في الروح وخرائب في الجغرافيا. لا بصيص أمل يتيم يتسلل إلينا، من هذا الليل العربي القاني. كل طموحنا أن نُحسِنَ تذكر الماضي الجميل والغني والعميق، والتطلع اليكم في العام 2050، وقد استعدتم تراثكم، تراث النهضة العربية، بفكرها وقيمها ومبادئها وآدابها وفنونها، لتبنوا مجتمعكم على قاعدة النهضة الثانية، وتكونون مواطنين في أمة حرة.
غلبتنا الردة مراراً. كنا نتوقع مصيراً مضيئاً. كان قادة الفكر والعلم والسياسة، يرصفون بجهودهم، الطريق الى الوحدة والحرية والديمقراطية والتقدم والعدالة والكرامة، ولكل ما هو إنساني ونبيل وعريق.. فشلنا. اتهمنا الغرب بنكبتنا، وهي جريمة من صنع نظام الاستعمار الكولونيالي والعنصري، توجها بتقسيم مميت. كنا نتوقع التحرر من العثماني المستبد، فوقعنا، برغم المواثيق، على جغرافيا مقسمة، وعلى ذبح فلسطين بعد سلخها عن أمتها وإهدائها للصهاينة.
عرفنا كل ذلك. كانت الوقائع تكذب أحلامنا وأفعالنا. تولى رجالات العهد العثماني، وهم أنفسهم رجالات العهد الأنكلو فرنسي، وفي ما بعد، رجالات العهد الإمبريالي الأميركي… تولى هؤلاء، القيام بمهمة حراسة التقسيم، وحراسة إسرائيل، وتحويل الكيانات حصوناً وقلاعاً، مملوكة من أمراء وملوك وقادة عسكريين، تعاملوا مع شعوبهم بالإملاء والاستتباع… أفظع انجازاتهم: قتل الأمة وأرواحها، وتحويل الناس الى سجناء، في سجن كبير يسمى العالم العربي.
اننا لا نشكو من أجل أن نعفوا عن أنفسنا. لم نكن بمستوى الحلم. وقعنا في شراك الانقسامات المذهبية والطائفية والعنصرية والعشائرية والقبلية والجهوية.
كنا نظن، إننا شعب واحد في أمة واحدة … غلط. أخذتنا الغفلة الى الانتماء السهل. يوماً بعد يوم، نكسة بعد نكسة، نكبة بعد نكبة، حرباً بعد خسارة، كنا نعوض الخسائر بالانسحاب من الذات والإقامة في حماية الدولة القاتلة… وليس غريباً، أن تكون مسيرة القرن الفائت، مسيرة الانحدار والفشل والإقامة المؤقتة في بلاد لم تتحول يوماً الى أوطان… نحن مسؤولون عن خسائرنا، لأننا لم نكن على مستوى النهضة ومقتضياتها السياسية والاجتماعية والفكرية والتنموية. أخذتنا الغوغائية الى معادلة الاحتماء بدل الانتماء. احتمينا بكيانات، استبدلناها بالوطن، بعائلات وطوائف استعضنا بها عن أحزاب، قصرت في المعرفة والإرادة والخطوة.
ليس تاريخنا العربي كما اشتهيناه. فترات الأمل كانت مقبرة العمر، ضئيلة النتائج. أحزاب النهضة العربية التي اندلعت أفكارها بجرأة من نهاية القرن التاسع عشر، بأسماء مضيئة وأفكار جريئة وطموحات مشروعة، هذه الأحزاب ادعت انها نهضوية، فيما كانت تغتال أهم قيم النهضة: الحرية. لقد أذاقتنا الأحزاب المتعسكرة التي بلغت السلطة ذات انقلابات، ما لا يمكن احصاؤه من النكبات والنكسات، نحن، لا النهضة، مسؤولون عما آلت اليه الأمة، خاصة وان الوريث الطبيعي لهذا الفشل، صعود الإسلام السياسي بكل أشكاله، وبات مرشحاً لأن يكون البديل عن نهضة قُتلت بأيدي أبنائها.
نحن مسؤولون عن كل ذلك، من يغسل يديه يدعى يهوذا.
في ظل الاستبداد العسكري والسياسي، انهارت منظومة رواد النهضة، فما عادت السياسة إلا ما يدور حول السلطة وأجهزتها المفترسة. عشنا بلا حرية، على فتاتٍ من الكرامة، على إجحاف في الحقوق، على تهرب من فلسطين، على إنكفاء في التنمية، عن خراب أصاب الدولة، كل الدولة، في كل الدول العربية… ومن المحق أن تتساءلوا، كيف عاشت هذه الأنظمة في دول بلا شعوب؟
ولكن هذا ليس كل تاريخنا. عشنا حقبة نهوض، كانت متمحورة حول قضايا التجديد والحداثة والعلمانية والإبداع والخلق. كانت الخمسات وحتى الثمانينات، برغم الاستبداد، العصر الذهبي للإنتاج الثقافي والإبداع الفني والصراع الفكري.
لم تكن العواصم العربية قد سقطت بعد تحت وقع أقدام السلفية، التي بلغت بعد ذلك ذروة الإرهاب.
أنتم، الذين في العام 2050، لستم الأبناء الشرعيين للفشل. لا أعرف كيف ستكون الجغرافيا العربية. هل ستكون فسيفساء طوائف ومذاهب وعشائر ومحميات لدول غربية؟ بودي أن استبعد ذلك ولو بصعوبة التصديق. نحن الآن، بعد فتنة “الربيع العربي” الذي حولته الثورة المضادة الى كارثة غير مسبوقة أشد وطأة من ذبح فلسطين، نحن الآن أمام الخيارات التالية:
ـ أما الاسلام السياسي، حيث التمييز الديني، يتفوق على التمييز العنصري،
ـ أما الاستبداد العسكري، حيث لا حرية ولا أحرار،
ـ إما الديمقراطية التوافقية، حيث لا مساواة ولا دولة ولا وطن.
الخيار الأصعب، هو أن يتصدّى جيلكم لهذه التجارب الكارثية، عبر العودة الى ينابيع النهضة العربية التي سعت الى عصرنة الإنسان العربي. ودفعت به الى تحمل المسؤولية، كمواطن وكحاكم. والتي تفشت في الروح قيم الانسان الجيد، من دون أن يتنكر لتراثه.
تراثنا النهضوي غني جداً. بدءاً بالطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وعلي عبد الرازق وقسطنطين زريق وانطون سعادة، وجبران خليل جبران والقائمة تطول، حيث نجد في كل بلد عربي ينابيع وأصولا هذه النهضة.
لا خيار يعيد للإنسان كرامته وحريته وللدولة مكانتها عند شعبها، إلا بإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية العادلة، والتي تصغي الى شعبها بكامل حواسها.
رجاء، لا تعيدوا تجربتنا أبداً. نحن مثال سيء جداً. فكونوا القدوة، عودوا الى الأصل الإنساني، انكم تستحقون ان تكونوا أمة لها موقع انساني تحت الشمس.