لا شيء يؤلم المقاومة الفلسطينية اكثر من محاولة حاضنتها الطبيعية اشعارها بأن وجودها عبثي. وما طوفان الأقصى الا ردا طبيعيا على هذه الفكرة، وانتفاضا عليها خصوصا في ظل ما سمي بالاتفاقيات الابراهيمية ومشاريع التطبيع. لقد ساد قبل طوفان الاقصى نوع من الاستخفاف بالقضية الفلسطينية وحلها لدرجة ان اسرائيل صارت تقضم الضفة الغربية بشكل متزايد وتتساهل تجاه غزة على أمل ان تفصل وتقسم النضال الفلسطيني وتنال الجائزة الكبرى في الضفة والقدس. وقد انتفضت غزة ومقاومتها مرارا لإثبات أن غزة والضفة والقدس وكل فلسطين جسد واحد.
اخيرا جاء طوفان الاقصى. لم تكن إسرائيل وحدها اول من استنكر، بل قام بذلك بعض الفلسطينيين والعرب. واظهر الطوفان حجم الهوة التي تفصل بين منطقين يصعب عليهما الالتقاء. في البداية استغلت اسرائيل بقوة هذه الهوة كما استعملت التعاطف الرسمي العالمي معها فأدارت حرب ابادة وحشية. هذه الوحشية أدت إلى حركة وعي لدى الرأي العام العالمي فرأى الصهيونية على حقيقتها: التجسيد الاعلى للنازية. واكتشف كثر من يهود العالم، خصوصا في أميركا، أن اسرائيل ليست لهم بل هي وحش يهددهم ايضا فتخلوا عنها تحت شعار “ليس باسمنا”. وانفجر العالم باسره صارخا بالحق الفلسطيني في كل ارجاء العالم الا في المحيط العربي الذي حاولت أظمته الرسمية قمع اية محاولات حتى للتعاطف مع الفلسطينيين الا على هامش ما يسمى بالضريبة اللفظية. وحصر المحيط العربي الرسمي تعاطفه مع الفلسطينيين في تقديم جزء من المساعدات الانسانية والتفاخر بها، فيما كان التضامن الفعلي مع اسرائيل من خلال فتح خطوط الامداد البري والبحري وحتى الجوي الغذائي والخدماتي والعسكري خصوصا بعد الحصار الذي فرضه اليمن على ميناء ايلات وبعد الحصار الذي فرضه اجانب على السفن الاسرائيلي.
عموما كان المشهد مريعا لجهة التفكير بالمعطيات وكيف ان اسرائيل تحاصر غزة في قوتها فيما دول عربية شقيقة تفتح مطاراتها وموانئها وطرقاتها وتستخدم آلياتها وسفنها وطائراتها لنقل ليس فقط الغذاء وانما ايضا السلاح والذخائر لإسرائيل. وقد فضح اوروبيون واسرائيليون هذه المشاهد بالصوت والصورة. كان اغلب المحيط العربي الرسمي راغبا في رؤية المقاومة الفلسطينية صريعة وكان اسرائيليون واميركيون يتفاخرون بأن عربا على اعلى المستويات ينتظرون ان تنجز اسرائيل مهمة القضاء على حماس.
بعد ان طالت الحرب وأنهك الجميع جاء وقت جني الثمار. ولكن المشاهد الاخيرة للحرب اقلقت الانظمة العربية بشكل كبير. فالهجوم الاسرائيلي على قطر اشعر كل الانظمة العربية ان عصر الهيمنة الاسرائيلية بات على الابواب وأن كأنظمة باتت مهددة. حينها قررت ان تبدي موقفا كان نتيجته العمل على تغيير المسار عبر خطة ترامب التي اعلنت.
اتفق ترامب مع الدول العربية على وقف مشروع ضم غزة وابتلاعها وتهجير اهلها وكذلك فتح افق لتحقيق اماني الفلسطينيين في اقامة دولتهم مقابل القضاء على المقاومة. فوافقوا ووعدوا بإنهاء المقاومة من خلال القضاء على القوة العسكرية لحماس حتى قبل مشاورتها. وتم وضع حماس بين خيارين: إبادة الشعب الفلسطيني في غزة وطرده من أرضه، او القبول بالاشتراطات الاسرائيلية والاميركية. لم يترك لحماس اي خيار حيث أن ترامب جمع دولا عربية واسلامية بينها تركيا وقطر لتهلل وترحب بالخطة الجديدة.
حاليا، يجري العمل على ابداء خطة ترامب أنها متوازنة، وذلك لأنها تتضمن رفض التهديد الاسرائيلي بالضم والتهجير لكن من دون ان توضح اي افق نحو الدولة الفلسطينية. أما الغائب الأول والمهمل في هذه الخطة فهو السلطة الفلسطينية التي يبدو ان النظام العربي حاول ان يجد خيطا يربطها بغزة في المستقبل وليس الآن. والكل يتذكر كلام مستشار شارون، دوف فايسغلاس، عندما قال سوف نتقدم نحو السلام عندما يغدو الفلسطينيين اسكندنافيين. اي ان المطلوب هو تعديل هيئة وصورة الفلسطينيين قبل الحديث عن سلام معهم.
أي شخص عاقل يرى أن خطة ترامب هي خطة اسرائيلية معدلة. وكلام ترامب عنها مجرد خليط من التباهي والجهل وسوء النية. هي لا تترك مجالا للمناورة. أما الدول العربية فهي ترى فيها خلاصا من حماس، واستبعاد لخطر الضربات الإسرائيلية عليها، ولو مؤقتا، وانتفاضة الشعوب العربية إن استمرت الحرب. ما يتم العمل عليه هو اطعام الاسد الجائع كي يهدأ، على أمل ان تنشأ صورة ومعطيات جديدة. هي تضحية مطلوبة بحماس في هذه اللحظة. وقد سبق للنظام العربي ان فعل ذلك مرارا مع الفلسطينيين.
يمكن القول إن ما تم هو محاولة الوصول لحل يلمس الوقت الحاضر ويتجاهل متطلبات مستقبل. ولكن ذلك تناسي لحقيقة بسيطة: التاريخ لا يرحم، والخذلان ما هو إلا خطوة نحو ولادة موجة مقاومة أشد قوة.