الاقتراب من التاريخ، يقتضي حالة من العري والخوف والشك. كتب التاريخ هي نتاج “رواد” حسموا مسألة الصدق مع الأحداث: هناك حقائق يجب تجنبها، وأحداث يجب ان لا تروى بصوت مرتفع.
لكل فريق او دين او مذهب أو مصلحة او سياسة، ان يعتبر الكذب فضيلة لحماية الواقع الذي يريده. فلا ضرر لتاريخ مضى إذا كذبنا عليه. الإقامة في الخطأ والتلفيق والتزوير خير من الوقوع في شباك “الحقائق المضرة”. فالمطلوب، لدى اصحاب المصالح، المادية والمعنوية، ابناء السلالات التاريخية والدينية والحزبية والعرقية، ان تكنس الذاكرة من كل ما يعرقل مسارات القوى القائمة راهناً. مراراً، تم تزيين التاريخ وكتابته بلصوصية ذكية ومنطقية لخدمة أغراض راهنة. الحقيقة والتاريخ ضدان. الحقيقة التاريخية الصادقة يجب ان تموت.
من لا يصدق، فليراجع تواريخ المذاهب والديانات والاحزاب والعقائد والمصالح. تاريخ العالم اليوم، والسائد بكل صلافته، يعفو عن الدول المرتكبة لأعتى الفظائع في زمن الاستعمار المباشر. العرب ضحية تاريخ مُغربل تمت تنقيته من الإبادات والقتل والسرقة والنهب.
لا أحد يحاسب الاقوياء. ولو ارتكبوا تواريخ من الكبائر. لقد كنس الغرب ذاكرته من الجرائم، وهو يقدم نفسه انه من سلالة الروح القدس. هذا الغرب الملاك، شيطان رهيب. والغريب ان له اتباعاً من ضحاياه.
ماذا عن تاريخ اللبنانيين؟ هل هو صادق ام مختلف ام منحاز؟
المعروف، ان لبنان لا يرسو على تاريخ، ولا التواريخ تلائم مكونات لبنان الطائفية.
هذه المقدمة، تمهيد للتعرف على الانتماءات التاريخية لطوائفه و”شعوبه”. يبدو انه محق من قال: تواريخ لبنان هي ضد لبنان. وهو كذلك اخيراً، اضطر السيد حسن نصرالله، ان يعلن “من نحن”؟
عاد بهويته الى منبت شيعيته واصولها اللبنانية. الشيعة في لبنان، متجذرون في لبنان، جنوباً وسهلاً وبقاعاً وشمالاً، منذ أكثر من 14 قرناً. بل، ربما منذ ما قبل الاسلام. اليمن منبع الهجرات على مر التاريخ، حتى قيل ان التوراة ولدت هنالك و”المسيح جاء من الجزيرة العربية”. ومن اليمن هاجرت قبيلة بني عاملة الى “جبل عامل”. واسم الجبل ليس سابقاً للهجرة.
هل هذا التاريخ الوارد اعلاه يقنع اللبنانيين؟ طبعاً لا.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ان المذاهب الدينية والسياسية، هي “صاحبة الحق” في تعريف، من هو اللبناني، مما يعني ان الشيعة يعطلون اليوم بحضورهم، “النسيج الخرافي” للشعب اللبناني، علماً، ان ليس في لبنان شعبا، بل، جماعات ومذاهب وقبائل وعائلات، ولها احضان كثيرة. التاريخ لم يجعل لبنان على صورة وطن. حَبِل به كما هو الآن.
اصوات طائفية تنكر على الآخرين لبنانيتهم. يقولون: “هؤلاء ليسوا من تاريخنا”. وهذا صحيح، لم يكن لبنان جامعاً ابداً لمن هم فيه. بل كان مبدداً، أما الوجود الاجتماعي، فقد كان على الدوام، يعيش حالة مناوأة وممانعة دائمة التفاعل. لذا، كان لكل مذهب تاريخه اللبناني المختلف. إذا، “لبنان لا تاريخ له”. له سيل من التواريخ، والمؤرخون في معظمهم على دين طوائفهم.
منذ الولادة العرجاء للبنان الكبير، و”تاريخ لبنان” موضع نزاع وتشكيك. الانتماء اليه ملوث. كل فريق يعلن بصوت “علمي” (وادعاء موضوعي) ان تاريخ الآخرين، ليس تاريخنا. يعيشون في جغرافيا لم تتوحد. جغرافيا تزحل، كلما زحلت جماعة من موطئها الى منطقة لجوء. لا بد من لملمة اجزاء لبنان من تاريخ فينيقيا الى ما بعد الطائف.
لبنان المتحد، مفقود. لم يتحقق ابداً تاريخه. ليس تاريخ دولة او وطن متحد. هو تواريخ، وبالتالي، انتماءات لهويات ذات قوة وحضور ورسوخ. لبنان ليس اللبنانيين ابداً. اذ، لا وجود لهوية لبنانية. الانتماء الاول هو انتماء ديني او مذهبي او عرقي. لذا لبنان ليس دولة. كان مشروع دولة. إنتهى المشروع وتشظى، وصارت شرعية الجماعات وميزاتها ومشاريعها وسياساتها ومحاورها، هي نتاج الرحم التاريخي الذي ينجب كيانات، وليس من اختصاصه إنجاب دولة.. اذا لا دولة في لبنان.
هل ما قاله السيد حسن نصرالله، فريد ام حقيقي؟
لكل طائفة مؤرخوها. وللتوضيح، لا بد من التأكيد على ان التاريخ يصنعه الكتَاب. انهم يؤلفون ويؤرخون وفق اهوائهم: ويُدوّن ان التاريخ علم دقيق. التواريخ مشوهة الماضي. لكل تاريخه، وهو نتاج حمولة طائفية وازنة. تواريخ لبنان الحديث، تؤسس على ما قبل التاريخ. يعودون الى زمن فينيقيا، الى احضان سوريا، الى حروب الاخوة الاعداء، في الاسلام والمسيحية. الى منابت اقلوية نقية. بحيث تكون كل طائفة، سيدة على نفسها، ولا تتنازل عن سيادتها لأجل سيادة الدولة. يذهب بعض المؤرخين “اللامعين”، الى تحقير فترات تاريخية واتهامها بالإساءة الى لبنان – فينيقيا. جواد بولس (اسم لامع تاريخياً وسياسياً). مرجع “علمي” مشهود له، يتساءل: “كيف ندافع عن انفسنا في وجه هذه الجائحة؟ وما هو المشترك بيننا وبين البدو؟ (من هي الجائحة؟ ومن هم البدو)؟ إن اللبيب من الاشارة يفهم. المسيحيون عنصر من عناصر التفوق، والآخرون اهل بدواة وملل. هل من عنصرية أفدح وأوضح. الا نجد مثل هذه اللغة، الآن؟
الآن… وليس بالأمس. الفرز الطائفي اليس أحد وجوه القياس الحضاري. فالمسيحي حضاري والآخرون لا يطاقون، ولا عيش مشتركاً معهم.
لبنان الواحد، خرافة. لبنان التعدد المذهبي والعرقي هو الاساس.
الانتماء المتباعد، يؤدي الى تغذية الانفجارات السياسية بمخزون عرقي وطائفي، قائم على سلم سلالات واديان. ولكل دين او طائفة، نموذج حياة ومعتقدات وسياسات. تواجدهما، يحتاج الى البقاء في حالة استنفار. ومن يستفظع ذلك وينكره، فليقل لنا لماذا تم تمزيق الجامعة اللبنانية؟ هذا مثال، وما تبقى شبيه بعملية انزياح متماسكة.
المزيج اللبناني النسبي بين الطوائف في المناطق انقرض، وتحديداً في القرى والمناطق المشتركة بين الطوائف. سموا الجنوب باسمه الطائفي. سموا الجبل باسمه الطائفي. سموا البقاع… وهكذا دواليك… ثم تذكروا الوزارات والمجالس.
رجاء، اعترفوا بأن لبنان ليس موجوداً. ما هو قائم، ركام دويلات طائفية معقدنة وذات رسوخ في التواريخ اللبنانية. أما الجغرافيا اللبنانية، فموزعة وفق الكثافات السلالية والمذهبية. هنا، تاريخ لبنان، “خان الجغرافيا”. ولقد كان ميشال شيحا على حق:”قدر لبنان ان يعيش في خطر”.
مؤرخو لبنان، كتبوا وفق اهوائهم. لويس شيخو رسم للبنان حدوداً تختلف عما حصل. قلمه كان مناوئا للعرب. الشيخ سليمان الضاهر الشيعي، لم يكن يريد ان تكون حدود جبل عامل، حدوداً ادارية لمنطقة لبنان، ومعروف، ان جبل عامل ضُم بالقوة الى لبنان. أي ان جبل عامل لم يصر لبنانيا بإرادة ساكنيه. كان جزءاً من جنوب جبل عامل فلسطينيا. لم يشعر شيعة الجنوب المقموعون والمذلولون انهم اسياد انتمائهم. إنتماؤهم مرتبط بسوريا.
اعتبر جبل عامل قطراً. ويشرح الدكتور احمد بيضون ذلك بما يلي:
“وهكذا تتضح دوائر الارض في رغبة مؤرخ جبل عامل، الوطن – الطائفة. سورية: الوطن – الدولة. بلاد العرب: الوطن – الأمة”. وعليه. لم يكن الجنوب من دعاة الاستقلالية. بل من دعاة الوحدة مع الأمة. وواجهتها زمنذاك. سوريا..
يوسف السودا الماروني، اصَر على اثبات وحدة التاريخ اللبناني. ركز على اسمين: فينيقيا ولبنان. حجته ان لبنان هذا هو لبنان بلا انقطاع، والاسماء الأخرى التي اعطيت للبنان ليست الا اعراضاً عابرة. فلبنان هو البداية والنهاية. من زمان الى كل الأزمنة.
“لبنان الصيغة”، “لبنان الملجأ”، “لبنان الجسر بين الشرق والغرب”، لبنان: “الفينيقي الدائم”، لبنان “جبل الدروز”.
كل يؤرخ وفق هواه: جواد بولس ويوسف السودا وفي ما بعد الكسليك يؤرخون للبنانهم هم. امين طليع، يؤرخ للدروز، فإمارة لبنان هي امارتهم، والدروز هم الذين صنعوا التاريخ اللبناني.
محمد جميل بيهم، المؤرخ البيروتي السني، ساءه ان لا يكون تاريخه قومياً تاماً. كان سعيه لإقامة امة تامة. لكن هذا النزوع لم يكن لأسباب قومية، بل لأسباب سنية. ويعلق على اعلان الجنرال غورو عند اعلان “لبنان الكبير”: “كأنه يخاطب طائفة دون أخرى، حتى ظن ان البلاد السورية التي الحقت بلبنان الكبير، الحقت به رعيَة. ولا قيمة له في كيانه”. وغاية بيهم، ليست لبنان الكبير، بل اقامة الوحدة العربية.
هذا نذر يسير من انتماءات المؤرخين الى طوائفهم، والى اعتقاد كل فريق طائفي ان تاريخ، او ما يتصوره انه تاريخ الآخرين هو الاساس. فيما الحقيقة، ان لا تاريخ حقيقيا البتة، وتحديداً، تواريخ المؤرخين الذين كانوا يقرأون الواقع والسياسة بعدسات طائفية.
هذا في ما مضى. ماذا عن “الآن”؟
تاريخ لبنان ما بعد الاستقلال. مؤسس على نظريات تاريخية سابقة. غير ان التاريخ أحياناً “يُكوّع”. تاريخ ما بعد الاستقلال، هو صياغة جديدة لمشكلات قديمة. كان لا بد من جائزة لكل طائفة. جائزة للموارنة، جائزة للسنة، ونصف جائزة للدروز وتقريباً لا شيء للشيعة. انما الزمن ليس مسدوداً، ولا يسير في نفق، ما كان للموارنة تزعزع. وما حرم منه السنة انتهى، وتجاهل الشيعة أسفر عن قبضة قوية، قرع بها السيد موسى الصدر الابواب المغلقة بوجه الشيعة.
من له سلطة التعبير؟ من يحق له من الأشقياء الطائفيين، ان يسأل طائفة ما، اليوم تحديداً، من اين لك هذا؟ وهل يحق لك هذا؟ ولماذا انت مع الغرب واميركا؟ ولماذا تقاتل اسرائيل؟ لماذا انت ضد او مع المقاومة، ولماذا انت مع فلسطين فيما تود مصالحة “اسرائيل”؟ ولماذا انت مع عبد الناصر كنت، واليوم مع السعودية، وتقترب من التطبيع؟ ولماذا انت مع اميركا 24 ساعة على 24 ساعة، وتخلي الساحات في معظمها لخيول السفارة الاميركية؟ ولماذا هذا الفريق مع ايران… الخ
هذه اسئلة مشروعة وحقيقية ويلزم الا تكون مثارة او مناسبة للسخرية. هذه حقائق وليست اتهامات. الموارنة، في كثرتهم القليلة الباقية، من حقهم ان يقلقوا، ويقولوا هذا ليس لبناننا. وبالتحديد لا نريده ايرانياً، وكانوا قاوموا الوجود السوري، هل يستطيع الشيعي ان يتعامل مع هذا الوجود الماروني؟ سياسياً وقضائيا واقتصاديا و.. كارثياً.
إذا كان ذلك مستحيلاً، فيجب الا ينتظر الشيعي إلا ان يعامل بالمثل. فيسأل عن هويته وتاريخه ومقاومته وعلاقاته مع القوى الفلسطينية المسلحة، وعلاقته بإيران، ومشاركته بالحرب السورية، واندفاعاته في حرب اليمن الخ.
وهكذا يسأل السنة اليوم، بعدما اقتربت اسئلتهم من القاموس الماروني.
هذا هو لبنانكم الملوَث. إنه مخلوق مخلَع.
“ما حدا أحسن من حدا”.
لبنان، لم يكن موجوداً كدولة. ولن يكون.
لا يبنى وطن على سجلات تاريخية متناقضة وكاذبة.
افق لبنان، كان دائماً خلفه.
لقد رحل الى الوراء. الوقوع النهائي محتمل.