أن تعيش المأساة يومياً، فهذا دليل على أنك حي. لم تعد مجرد مستمع أو متفرّج أو مداوم على مشاهد الموت.
إذا أراد الإنسان راهناً، أن يعيش ويحيا، عليه أن يتغير. أن يُولد كل يوم، بطريقة أخرى. عليه أن يسهر على ولادته، ويتيقن أنه قادر على الحزن ومتمكن من الأمل. لأن هستيريا القتل في غزة، لا يجوز الاستسلام لها.
صحيحٌ أن الإنسان يعتاد المأساة. تماماً كالعبيد عندما يطربون لحفيف أصفادهم أو كالقادة العظام الذين يُتقنون غسل أياديهم من عار ارتكاباتهم.
***
لم يكتشفوا بعد أن التوحش يتقدم بسرعة مصطحباً معه قوى القتل والإفناء.. بعد غزة، دخلت البشرية في طور التوحش الحضاري. الأعداء في كل مكان. هذه الكرة الأرضية الملعونة، ضحية انتصارات الجنون وأديان الجنون. ثم، الجنون ينتصر. يصير عقيدة. ينتصر بازدهار تقنيات الإبادة. العنف تجارة مجزية. الحروب أسواق ودين الأديان..
أن تعيش المأساة يومياً، فهذا يعني أنك على قيد الحياة عن جد. ليس بحزنك أو غضبك فقط، بل بإيمانك بأن الإنسان ليس سوى “سيزيف”. يحمل الصخرة. تسقط الصخرة في الحفرة. يعاود “سيزيف” رحلته نزولاً وصعوداً. هذه هي البشرية، ولا يُكذّب علينا أحد بأن البشرية إنسانية. لا.. وألف لا. إننا في صلب التراجيديا.. الزمن القادم يُنذرنا، بأنه سيكون الأسوأ.
***
هل الإنسانية موجودة؟
فقط عند الخاسرين والشهداء والذين يحملون موتهم ويقارعون به آلهة الفوضى والخراب والحروب. الحاضر يُبشّر بهلاك متنقل ومستدام. المستقبل كارثة. لا بصيص أمل. الحضارة قشرة. أزياء للزينة. العنف سياسة مجزية ورابحة.. لا قيمة للون الأحمر. الدم ضحية التعصب الديني، المذهبي، العرقي، القومي إلخ.. وهو كذلك مساحات لتجارة العنف والقتل والموت. لذلك، الحروب ليست في أزمة. هي برعاية قوى سوبر دولية.
النموذج الجديد، لهذه العقيدة، هي الصهيونية. إنها عقيدة مؤهلة لتحويل العالم إلى عصر التوحش الجديد. كل الفلاسفة والكتاب والمفكرين والنهضويين والإنسانيين، سقطوا بضربة الإعلام الذي يتقن إبادة الحقائق، بلا خجل.
الدماء، لغة التراجيديا البشرية.. لم يعد الموت فجيعة. هو فرصة للهروب من الجحيم.. ولو إلى جهنم الأديان. هو مشتهى المعذبين والخاسرين والمغلوبين. هو جائزة الخيانات.. وعليه: فإن البديل هو ترويس الحقد، وتأهيله للمعارك. هذه هي مآلات البشرية.
***
لا تسألوا عن هتلر ولا عن موسوليني ولا عن ستالين ولا عن ديكتاتوريات حديثة، مطرزة بالنياشين ومُرسملة بالأسلحة ضد شعوبها، فيما يسهر الغرب الاستبدادي على حراسة أملاكه. العنف سياسة مجزية.
نعود إلى السؤال: هل الإنسانية موجودة؟ إنّها حية ترزق. برهنت شعوب الأرض الحرة، على أنها مسلَّحة ببراءة الإنسانية، وضد التوحش الذي تتقنه دول عربية أنيقة أشبعتنا كذباً وإنهاكاً وسرقة.
الإنسانية لن تموت أبداً.. العالم، مذ وجوده، حمل هذه الثنائية: الحياة والموت، الحرية والعبودية، الغنى والفقر، العدالة والظلم، الحب والكراهية، المواطنية والقبلية – العائلية، الطائفية، الدينية، العنصرية.
الصراع مستمر. سلاح الأبرياء أقوى من أي سلاح بيد المجرمين الأنيقين!
وأنت.. وأنا.. علينا أن نختار. إنّه زمن الحقيقة، وإنها فرحة الخيارات الصائبة. إما أن تكون إنساناً أو تكون وحشاً. إما أن تكون مواطناً كونيا أو حثالة تعصب عرقي ديني، مذهبي، أرومي.. إلخ. إما أن تكون مؤمناً بأن السلام أسمى الغايات، وأن العدوان، هو حثالة الأقوياء. والأقوياء هم آباء المجازر والإبادات.
***
لا بد من مساءلة أنفسنا في لبنان تحديداً. لأن مساءلة الشعوب العربية باهظة الثمن. عقوبتها تراجيديا تنكيل وسجون واقتلاع وطرد.. ممالك وإمارات العرب محروسة بالقيود والصمت الإلزامي والتعبير بلغة تشبه فقاقيع الصابون.
نحن في لبنان، لسنا لبنانيين أولاً. نحن كما كنا وكما سنكون. لا طاقة لنا على “التفهم والتفاهم”، طبقة سياسية – دينية – طائفية مثالية. حرب غبراء في الشاشات، وعبر مواقع التواصل، “والمفروض أن تسمى، مواقع التقاتل”. لبنان هذا منقسم بشكل لا شبيه له سابقاً. لغة التداول تدل على أن لا وجود للبنانيين أبداً. هناك عصابات متعصبة لأرومتها، لمذاهبها، لمرجعياتها، التي تتقن فنون التكاذب والاحتماء.
أما بعد؛
في لبنان شرائح منتمية عن حق إلى فلسطين، وجمعيات وجماعات وأندية وخلايا، ترى إلى فلسطين أنها جزء منها. وهناك، من يجاهر، في لبنان أيضاً، وبلا خجل، “شو خصنا بفلسطين”. ولبنان، ليس دولة ديكتاتورية مخفية. الدول العربية، أطبقت على شعوبها بصمت هرمسي. عيون وأجهزة التنصت، تحصي الأنفاس، وتطرد سريعاً كلّ مشتبه بعلاقة ود بفلسطين.
لبنان، يملك مساحة لكل ما يقال وما لا يقال. هذا هو لبنان. جحيم بلا نار. شعوبه قبائل وطوائف. الأحزاب انتهت. الاصطفاف المذهبي اكتمل. التكاذب السابق، سقط. هناك وضوح فصيح: “نحنا مش إنتو”. عظيم. “كيف تعيشون مع بعضكم البعض”؟ مستحيل..
وهناك أيضاً، إعلام.. وكل ديك على مزبلته يصيح.
لبنان الاستقلال، على علاته، كان حضارياً جداً. التلاقي كان مفتوحاً على مصراعيه. الأفكار والعقائد رائجة. الحوارات لم تتوقف. السياسات الهزيلة كانت غير مؤذية.. أما الآن، فلا حول ولا قوة.. لبنان لم يعد وطناً ولن.. فلسطين مقسومة إلى شطرين، لبنانياً. لـ”إسرائيل” ضيوف دائمين في لبنان. “أنتم الضيوف وأنتم رب المنزل”. حدث ذلك علانية. زارتنا “إسرائيل” براجماتها ودباباتها وطائراتها ودمّرت.. “معليش”. نستحق ذلك. “إسرائيل” شقيقة غير سرية لجزء من اللبنانيين من ذوي الأصول التي لا تمت بصلة إلى جغرافية لبنان.
أصدقاء غزة في لبنان مُقصّرون كثيراً. يكثرون من الكلام المكرر ولم يتحركوا في كافة الميادين المفتوحة.
***
لم تبدأ النهايات بعد.
دماء الفلسطيني تقرع الأبواب.
وحدها السماء مفتوحة لهم.
أخيراً؛
متى نؤمن بالجنون؟
التعقل في أزمنة الدم.. فضيحة.
ماذا غداً؟
لا جواب.
لكنني متأكد أن شعوب الأرض ولّادة مستقبل.