زياد القرمطي يواجه »أبا سعدى« بفيروزة الشباب!
سمع الأمير بشير الثاني جلبة في الخارج، ميّز بينها قرع طبول وصنوج وهتافات غامضة الكلمات. نده على حاجبه فلم يجبه، فاستغرب، قام واقفا وهو يداري أن يدوس على أطراف لحيته الطويلة، وتحرك نحو النافذة القريبة وأطل فإذا الحشد عظيم. كان الميدان ممتلئا إلى آخره بالبشر، رجالاً ونساءً، وبالذات شباناً وصبايا، والطرقات التي توصل إلى القصر تختفي تحت السيارات والأوتوبيسات التي أفرغت شحناتها البشرية في الضوء الشاحب لنصف قمر يواصل رحلته الأبدية خارج المكان والزمان.
حاول الأمير ذو الهيبة أن يفهم الكلام فما فهم، لكنه انتبه إلى أن رغبة في الرقص تشتد في نفسه مع الإيقاعات الغريبة والعالية التي ترج القصر كله وتنتشر في الوديان ما بين بعقلين والمختارة ودير القمر والباروك.
ثم جاءه الصوت الذي لا يحبه، لأنه طالما غنى لفخر الدين من دون أن يأتي على ذكره هو، هو الأعظم من كل الأمراء الذين حكموا هذا الجبل وما وراءه، والذي ينشأ اللبنانيون على نهجه: فيلعبون على الحبال جميعا، ويبدلون الدين كما يبدلون الطرابيش، ويعدلون في المبادئ لتغدو كما السراويل على الموضة، قصراً أو طولاً، يحالفون أعدى أعدائهم ليتخلصوا من أصدق أصدقائهم الذين يعرفون أكثر مما يجب أو الذين يطمحون إلى ما في أيدي غيرهم.
إذاً، فهي فيروز، لكن »الجو« مختلف جدا، فلا النبرة هي النبرة، ولا الكلمة هي الكلمة، ولا اللحن هو اللحن، ولا أثر »للقناصل« الذين طالما تضمنت مهرجاناتها السابقة دعوات إليهم للحضور والتدخل وفض المشكلة مع السلطنة التي سيفها طويل، بينما سيف الأمير يكفي لفض المشكلة مع شعبه المكسور.
حاول »أبو سعدى« أن يسلطن فما استطاع إلى ذلك سبيلا.
كانت الأغاني طويلة المقدمات الموسيقية، لكنها قليلة الكلمات و»تخلص« بسرعة. وكانت الألحان عظيمة الإيقاع بينما الصور في الأغنية محدودة جدا ولا تحتاج الى كل هذه »العجقة«. »فشاويش الكركون« سيظل شاويشا ولن يصير ضابطا حتى على إيقاع الجاز.
أدرك المير بشير من خلال الهتاف والتصفيق أن فيروز تختفي كلما أنهت أداء أغنية أو أغنيتين، ثم تترك المسرح لطيف زياد وموسيقاه ولصرخات جمهور الأغنية الشبابية التي تحكي الأمور بصراحة ومباشرة، بلا رومانتيكية، وبلا صور شاعرية، وبلا فذلكات لتفسير الحب أو لتبرير النهايات السريعة للآمال.
خطر ببال »أبي سعدى« خاطر: ماذا لو نزل إلى ضيوفه الطارئين في الميدان الذي طالما شهد حفلات التأديب للعصاة من الرعايا، والذي تحولت الإسطبلات على جانبيه إلى متحف أو معرض لأزياء حريمه؟!
قبل أن يحسم أمره سمع أغنية عن الفقراء والجوع وعن ظلم السلطة، فصرف النظر عن فكرة النزول لمبارزة زياد الرحباني الذي جاء بجيوشه جميعا، والذي قد يستغل المناسبة فيخطف بعض الحريم، أو يحرض بعض العبيد، وقد يخطر بباله أن يقلد لينين فيأخذ مكان »القيصر« في القصر باسم إعادة توزيع الثروات تحقيقا للعدالة الاجتماعية.
لمح الأمير، على البعد، شبحا أسود، يتلوى وهو يرفع بيمناه عصا رفيعة، يتطاول مرة، ينحني أخرى، يميد شمالاً ثم يميناً أو يتهاوى نزولاً، ويتأرجح رأسه كمن هزه الطرب، وقد تصدر عنه ارتعاشات كتلك التي تصاحب اللحظات الحميمة… وبعد لأي عرف أو أنه قدر أنه التجسيم الحي للموسيقى الزيادية.
لم يسمع الأمير الصوت جيدا، كانت الموسيقى طاغية عليه دائما، فإذا ما هدأت قليلاً ارتفع هدير الجماهير صاخبا، وتعالت جلبة أقدامهم وهي تخبط الأرض هدّارة، أو دوي تصفيقهم وهتافاتهم المجلجلة.
لم يعرف الأمير ما إذا كان الجمهور يصرخ من الوجع أم من نشوة الطرب، أم لأن الكلمات حركت فيه الشجن بقدر ما أثارته الموسيقى ودفعته الى التعبير عن ظلامته بالرقص على طريقة السود الأميركيين.
* * *
بعدما انتهت الحفلة التي مدّدها شوق الجمهور إلى فيروز، وفرحته بعودة زياد إلى إبداعاته، دخلنا »الغار« لنحيي أميرة الشجن، قيثارة الحب، والتي أعطت نفسها لغيرها فغنتهم بصوتها وتركها غناء الفرح خلفه، حتى جاء زياد فجعلها تغني كلماته بصوتها لجيله، مستكملة بذلك دائرة البحث عن ذاتها بين الذين يرون أنها تتوجه إليهم وينسون أنها بالكاد تعرفت إلى نفسها.
كانت تقف وقد أنهكها ذهول الفرح بالمفاجأة: إنها أعظم حضورا، برغم الغياب، مما تفترض. إنها أكثر التصاقا بسيرة الحب وهمس العشاق مما تحلم. إنها أعمق في صدور الذين سافروا بصوتها إلى الحب فسكنوه، مما تقدر.
هي لا صوتها. كأنما كل الناس قد فتحوا صدرها وعرفوا ما فيه فتضامنوا معها، وعوّضوها بحبهم عن قسوة الأيام ووحشة الوحدة والضياع في غياهب الماضي.
أما زياد فكان يملأ المكان: الميدان والقصر ومساحة الصوت وصدور الآلاف من الذين عبّر عن أفكارهم التي لا يعرفون كيف يحوّلونها إلى كلمات، وعن مشاعرهم التي يجهلون كيف يصوغونها شعرا وموسيقى.
هي حفلة زياد احتفاء بفيروز…
وكان طبيعيا أن يُستدعى الأب »العاصي«، وأن تتداخل قسوة الغياب مع حنين الافتقاد، وأن يكون الحضور إثباتا للقدرة على الاستمرار وعلى التعامل مع الحياة التي لا تنتهي مهما تبدلت صورها ووقائعها وأساليب التعبير عنها.
هي حفلة غنى الجمهور فيها شجنه،
وهزت نشوة حضور الغياب الجميع، بمن فيهم الذين في الصفوف الأولى، والذين خاطبهم زياد من »ديار بكر« وباسم »عبد الله أوجلان« فلم يفهموا المناسبة، ومن فهمها لم يفهم معنى التحية.
زياد »قرمطي« الرحابنة أدخل فيروز إلى قصر بيت الدين فاضطر الأمير بشير إلى تركه مؤقتا، بينما عاش الشباب حلم الوصول، قبل أن يكتشفوا في طريق العودة أن التغيير يحتاج إلى أشياء أخرى مع الموسيقى والغناء والتشهير بالماضي وأهله الغابرين.
ديموقراطية الصورة الواحدة وصور الديموقراطية الكثيرة
قال لي الصديق الآتي من بعض أنحاء المشرق العربي:
هنيئا لكم بالديموقراطية. إنها منتعشة في بلادكم الصغيرة بينما نحن لا نعرف عن الانتخابات شيئا، وإن كنا نتابعها في بلاد الآخرين بشغف لا تحظى به الرياضة أو الأفلام الجنسية.
هل بهرتك الصور إلى هذا الحد؟!
من حق مَن لم ير في حياته إلا صورة واحدة لمن ينعم ويحرم ويقرر المصائر، لمن يعطي ويمنع، لمن بيده الحياة والموت، الغنى والرفعة أو الفقر المدقع والذلة، أن يفرح حين يرى بلدا فيه كل هذا العدد من الطامحين إلى الخدمة العامة والعمل العام والتصدي للمسؤولية، برغم صعوبة اللحظة وضيق الأفق بل انسداده أمام احتمالات التغيير. إنها حماسة تدل على رغبة عارمة بالتجدد. إنها إرادة انقلابية.
انتبه الى برودتي تجاه حرارته في التعبير عن فرحته بالديموقراطية اللبنانية، فعاد يشير إلى الصور وهو يقول: الوجه الآخر الذي قد لا ترونه هو إعلان كل هؤلاء أنهم على استعداد للتصدي لمسؤوليات القيادة. ان كلاً منهم يقول: ها أنذا، امنحوني الفرصة وسترون انني أفضل من القائم بالأمر!
ولكنها صور، مجرد صور، أما الواقع فثابت لا يتغيّر.
لكنه كلام في السياسة، أو هو اقتراب من السياسة، أو هو إعلان الطموح إلى المشاركة في السلطة أو إلى أخذها، وهذا كله من المحرمات في معظم البلاد العربية. قارن نفسك بغيرك ترتَح؟!
بمن؟ بالأميركي أم بالبريطاني؟ بالفرنسي أم بالإسرائيلي الذي يقاتلني وأقاتله ولا يمكنني أن أهزمه بهؤلاء؟!
أما بالذين عندنا فالمؤكد أنه سيهزمنا!
وانتهى الحوار عند حدود الديموقراطية المصورة، أو الصورة الملونة لوهم الديموقراطية اللبنانية التي تشابه المازة اللبنانية: تبولة وفتوش وكبة نية وسودة نية وحمص بطحينة والباقي خس!
* * *
ضاق الجدار على اتساعه، بالديموقراطية المصورة، فجأر بالشكوى: »أأنا العاشق الوحيد لتلقى تبعات الديموقراطية على كتفيّ«؟!
كان الجدار أشبه بلوحة تمتزج فيها المدارس الفنية جميعا: التكعيبية والسريالية والكلاسيكية، وتمتزج فيها ألوان الطيف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار السابق المعلن توبته واستعداده للالتحاق »بالطغمة المالية« إن أمكن، و»بتحالف رأس المال المستغل والسلطة الدكتاتورية«، إن هو وجد لذلك سبيلا.
وكانت الصور فضاحة: فثمة ديموقراطي بالأزرق يضحك بلا سبب، وثمة ديموقراطي بالأحمر والأخضر يرسم على شفتيه ابتسامة سخرية خفيفة يفهمها كل ناخب وكأنها موجهة إليه بالذات، وثمة ديموقراطي بالأبيض والأسود وقد بدا عابساً مكفهر السمات توكيداً لضيق ذات يده.
وكانت هناك صورة لديموقراطي أحول يبدو وكأنه ينظر شزرا إلى كل عابر سبيل.
كذلك كان ديموقراطي آخر تختفي عيناه خلف زجاجتين بنيتين، فلا يمكن التثبت إلى أي ناحية ينظر، وبالتالي الى أي اتجاه ينتمي، وإن كان يحاول الإيحاء بأنه إنما يرى الجميع ويتعقبهم ليطمئن على سلامة اللعبة الانتخابية.
وكان هناك ديموقراطي شديد القصر لكن صوره بالغة الطول، ثم انه يبدو فيها وقد فتح قميصه عن صدره وشمر كمّيه وكأنه في طريقه إلى حلبة المصارعة.
الديموقراطية أحجام..
هناك ديموقراطيون بطول عشرين مترا، من فوق إلى تحت…
… وديموقراطيون بالعرض، 30 × 5 أمتار.
والديموقراطية في ازدهار عز نظيره: فهي فوق السطوح، على الأعمدة، على الشرفات، على الأشجار، تحتل الفجوات في البنايات التي دمرها الصراع الديموقراطي قبل سنوات.
الديموقراطية بوسطات وتاكسيات، محادل وقطارات (برغم أن لبنان قد استغنى عن السكة الحديد حماية للبيئة).
كل أشكال الديموقراطية متوفرة، كل ألوانها مزهرة، كل مظاهرها منتشرة كالوباء.
الأشكال، الألوان، المظاهر، الصور، الشعارات، غبار المعارك، الخطابات، المهرجانات، المكاتب، الهتافات، الأهازيج، الزغاريد، والبواريد… كلها في أبهى حالاتها.
المسرح جاهز: المبنى ذو القبة والمجهز بتقنيات الثورات العلمية الحديثة.
النواب الذين لا يصيرون أبدا سابقين، والمرشحون الذين لا يصيرون أبدا نوابا لاحقين.
اللوحات الزرقاء، الرواتب الراكبة مصعداً لا يتوقف أبدا عن الصعود، المخصصات التي تشمل الزفت والتقاعد والتعويضات التي تلحق الذرية الصالحة أصولاً وفروعاً الخ.
ما أغلى الديموقراطية!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
قد يهدأ الحب، قد تخمد ناره، لكنه لا ينتهي أبدا، لا يطويه الزمن ولا يذهب به الغياب ولا يسقطه الغضب. تكفي لفتة، كلمة عتاب، نظرة في لقاء غير محسوب بعد دهر من الصمت الحزين ليمتد اللهيب إلى كل المعوقات والموانع فيحرقها جميعا. الحب باق. قد يحاول المحبون خداع أنفسهم، قد يتحايلون عليه، لكنهم متى سكنوا إلى نفوسهم وجدوه فيها يحميهم من جنون الضياع وإنكار الذات.