الخوف من الفرح، الخوف على النصر
فقدنا عادة الفرح، وصار قدومه أو وقوعه علينا يُحدث فينا ما يشبه الزلزال.
احترفنا الحزن، بل اليأس، بل الانسحاق في القهر، فلم نعد نصدق أننا جديرون بتحمل وطأة النصر، أو مؤهلون للإنجاز، أو بنا من الصلابة ما يثبت للفرح وما يحفظه ويحميه.
جاء النصر في لبنان من خارج النص الرسمي العربي، فحار الناس كيف يتعاملون معه، وخافوا من كلفة حمايته، فكاد بعضهم يتنصل منه، وبعض آخر يحاول مخلصاً تقزيمه ليغدو بحجم أكتافنا الضيقة، وبعض ثالث يغرق في خجله من ادعاء نسبته إليه لأنه لم يشارك فيه، في حين نسبه بعض رابع إلى إسرائيل ليرتاح ويريح!
لنتأمل قليلا في المشهد العربي الذي كشفه أو فضحه النصر في لبنان:
الحكومات بغالبيتها الساحقة لا تريد أن تراه، لأن الاعتراف به يدين نهجها الهارب من المقاومة إلى الاستسلام.
… أما وأن إسرائيل تحرجها باعترافها به، إذاً فلا بد من الإشارة إليه باعتباره »نصراً سياسياً لحكومة باراك« حتى لو تبدت نتائجه العملية على الأرض وكأنها نجاح »عسكري« للمقاومة.
ذلك أن تزكية المقاومة، كفكرة، وبشعارها الديني، كمنهج، يُسقطان »شرعية« ملفقة تستند إليها تلك الحكومات، وسياسات كانت تبدو »ناجحة« بنتائجها المادية المباشرة التي تبرر ذاتها بحصر الضرر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ما دام ان المواجهة متعذرة والنصر مستحيل، بمنطقها، وعبر »التحليل العلمي« لتوازن القوى وللتحولات السياسية الهائلة التي خلقت عالما جديدا بنظام عالمي جديد تحكمه وتتحكم به وتحكم العالم من خلاله الولايات المتحدة الأميركية ومعها بل ضمنها إسرائيل.
أما »الشعوب العربية« فلم تعرف ما يكفي عما جرى، ومن عرف خاف… خاف من حكومته، التي لا بد ستشدد قبضتها عليه، وخاف على لبنان ومقاومته، وخاف على التوظيف الناجح للشعار الديني في ما يخدم قضية الإنسان من خلال ربطه بين السماء والأرض، وخاف من عجزه عن تكرار التجربة، كما عن حمايتها.
إن الفرح منزلق خطر. فالفرح قد يأخذ إلى تبني التجربة وتكرارها والتبني فوق القدرة، واعتماد التجربة في مستوى الاستحالة.
على هذا يتم التواطؤ، وبغير اتفاق، بين الحاكم والمحكوم على أحد أمرين: إما تصغير النصر بحيث تنتفي عنه صورته السابقة الرائدة، ويصير حركة تكتيكية ناجحة جاءت ثمرة لنصر سياسي إسرائيلي؛ التزم باراك بوعوده الانتخابية فسحب جيشه وغدر بالميليشيا العاملة لحسابه، فتمكنت المقاومة من التقدم في الأرض المفرغة رافعة أعلامها و»خطفت الكاميرا«، لكن الحقيقة أنها تسبح في بحر النجاح السياسي الإسرائيلي!
لا حساب للدم في التحليل السياسي. الشهادة والشهداء للشعراء. في النهاية لا يتبقى في الميدان إلا الدبابات والصواريخ والطائرات. قوة النار لا قوة الدم.
ثم، تتوالى المشاهد على الشريط الحاجز لتقتات من الفرح.
يقف السلاح في مواجهة السلاح ولا قتال.
في البداية شيء من الشتائم والقبضات المرتفعة بالغضب الذي سيصير حنقاً، وسرعان ما يهدأ الغضب مخليا الساحة لبدايات »حوار«.
وعندما يصل الفلسطيني الى الشريط الحاجز يتأنسن الجندي المصفح وتكاد تندثر صورته كغاصب ومحتل ومن شذّاذ الآفاق ودخيل ومستقدم من الأمكنة الغريبة ليُزرع بديلاً من صاحب الأرض في هذه الأرض الحبيبة.
يحمل الجندي المصفح الأطفال من هذا الفلسطيني المتلبنن إلى ذاك الفلسطيني الحامل »هوية إسرائيلية«، ويحمل خاتم الخطوبة إلى فلسطينية »السلطة« على الطرف الآخر، من الحاجز، فإذا زغاريد العرس ترتفع كما التحية!
أما في الداخل فإن سموم الطائفية تتحرك في الجسد المثخن بذكريات الحروب المفتوحة فتستيقظ الفتنة وتبدأ في نهش النصر اليتيم الذي يخاف أهله منه فيتركونه أرضا حتى لا يسقطوا تحت أثقاله.
* * *
ليست هي الحقيقة تماماً، لكنها بعض المخاوف على النصر الحقيقي.
مَن يحمي النصر؟!
في الحماية لا تكفي الدماء وحدها. لا بد من العقول، لكن العقول مشغولة بالنهايات التي يرى المتعجلون إلى بلوغها أن النصر قد يكون عقبة إضافية، وقد يفرض نهايات لهم، بينما هم يلهثون عند خط الوصول!
محمد منير: صوتان للمحكومين بالأمل
ما إن رفع محمد منير صوته حتى حضر سعد الله ونوس فامتلأ المسرح وغص ملعب المدرسة الريفية بالحياة، وسرى الفرح في الهواء ممتدا من بلاد النوبة جنوبي الأقصر حتى أطراف بلاد الشام عند التخم مع الفرنجة.
تتهاوى عند الجذع الرقيق لمحمد منير توصيفات الطرب والمطربين.
يرتفع الصوت الحي بالنبرة العفية، كما الأذان، كما النداء الى الحياة.
لا حاجة للفرقة الموسيقية وغيتاراتها الكهربائية والأورغ والأبواق النحاسية الصاخبة.
لا حاجة للصراخ وصخب الكلمات المتلاطمة في عجزها عن إيصال الرسالة.
الغناء دعوة إلى الحياة، إلى مقاومة الطمس والإلغاء والتهميش.
الغناء تحريض لاكتشاف قدراتك الطبيعية التي على بساطتها يمكنها أن تكتب على أرضك، وبأرضك، تاريخك غير المحرّف أو المزوَّر أو المشوّه أو المجتزأ أو المنقوص.
بدا محمد منير جالسا يغمره التهيّب والخجل. ومن قلب الحزن الأبدي الذي يشع من عينيه فيضيء وجهه الأسمر كما الأرض والقمح والزيتون كان يطل الفرح بانتصار الميت على الموت، وبقدرة الحي على إعادة صناعة الحياة.
»علّي صوتك بالغنا… لسه الأغاني ممكنه«
هدرت أصوات الفلاحين الفقراء الذين لم يكونوا يعرفون الغناء، بتأكيد الإمكان. بمثل هؤلاء البسطاء المهددين في بساطتهم يمكن أن يُبنى عالم جديد إذا أمكن حماية البراءة والبداهة.
قال سعد الله ونوس بصوت محمد منير: من جديد، إننا محكومون بالأمل.
قال محمد منير بصوت سعد الله ونوس: إنها ليست نهاية التاريخ.
قال الناس بصوتهم الحي: ان الأغاني ممكنة بعد.
صار لحصين البحر صوتان، وها هو الصدى يتردد في دمشق وبيروت وعمان وبغداد والقاهرة.
لن يظل الناس المحكومون بالأمل، مجرد صدى.
رسائل بلا عناوين
1 عادت الحياة إلى الحروف الميتة فاخضلت وترقرق الندى فوق الأذن التي هجرها الطرب.
لا داعي لمزيد من الانتظار مكابرة وتعففا عما تهدرنا السنون ونحن نلح في طلبه، ونستولده خيالاً في المخادع، ثم لا ننام إلا لكي نسافر في أحلامنا إلى نشوته القصوى.
ليس الخيار بين كرامة مضيعة أو موعد مهدور يغرقنا في حرقة الندم على شباب لن يعود.
لماذا التردد البليد. سأصيح بأعلى الصوت: خذني بمهانتي وليأخذ غيري وهم الكبرياء التي تلغي إنسانيتي. من هذا المخبول الذي يرى الشقاء إنفة وعزة نفس والموتَ عطشاً انتصاراً للربيع؟! إنما أخاف من نفسي عليّ، ولا أخاف منك إلا عليك.
* * *
2 تحبين المداعبة؟
ولكن الشهوة المندلعة من عينيك تلتهم مساحة الكلام.
تنفرط الكلمات حروفا من جمر، وتنتشين باللسعة فتتثنين وتتلوين وتنحنين ثم تهمين بالوقوف ولا تقفين، وتمدين يديك إلى صدرك تشدين فتحة الثوب عند نهاية العنق إلى تحت ثم إلى فوق وتتطاولين لإظهار ما تحجبه الطاولة والثوب في »العب« الصغير.
تضحكين وتتضاحكين وتستمتعين بالنكتة الخارجة وتستدرين الصور الماجنة والكلمات المواجع لعل اللفظ الجارح يعوّضك عن الفعل.
لكن لقاء المصادفة إلى انتهاء فماذا تفعلين بكوم الكلام التي ستبقى تحت الطاولة، في حين تنصرفين تخبين داخل الثوب الضيق وفي العينين وجع الحريق؟!
* * *
3 تتمسك بالهنيهة، تريدها أن تصير زمنا.
لا تتسع الهنيهة لكل الذي لا يقال. لا أنت تستطيع أن تمطها ولا هي تتحمل وطأة مطالبك الكلية.
الخيار بين عمر فارغ وهنيهة مشحونة بالتمني، والمعادلة مستحيلة وأنت ممزق بين خوف الامتلاء ورعب التهاوي والانكسار خارج الزمن.
الهنيهة مفرد. واحدة قبل، واحدة بعد، واحدة في التخيل، واحدة في التمني… ولا سبيل إلى جمع الهنيهات عمرا.
ننحشر في الهنيهة ليتفجر الشعر، فإذا طلع النهار وتدفقت سيول الثرثرة في المواعيد التي تبعدك عن ذاتك تهدَّدَكَ الغرق وتعلقت بمصادفة جديدة تمنحك الهنيهة المنشودة لتعود فتسكن الحكاية المفتوحة دائما على احتمال ألا تجد خاتمتها إلا فيك!
* * *
4 عشر سنوات من الصمت، لكن الذكرى الباهتة ظلت معلقة فوق الملامح المظللة بالشك والمطوية داخل غبار الأيام.
تحتل الثرثرة المساحة، ثم تجيء كلمة مفردة فإذا المشهد يستعيد نفسه بتفاصيله التي حجبها الغياب واليأس من الاكتمال.
تلتفت لتدقق في الملامح مستكشفا عندها المعنى، ممتحنا عندك القدرة.
الذاكرة تستعيد القصص ولا تستولدها. الاستعادة ضحكة باهتة والولادة صرخة وجع تفتح أبواب الجنة الموصدة بالخوف.
يتندى هواء السَّحَر فيتكاثف وجعك وأنت تلملم ملامح صورتك الأولى المتهاطلة من وسن العينين وقد استعادتا الآن إشراقة التمني ومتعة الوجع المشتهى.
قصص مبتورة
} قال المتباهي برجولته: أعف عن الطرائد الصغيرة التي غرورها أعظم من لحمها. لا وقت عندي أهدره في تسمين ضحاياي!
ردت الأنثى الماكرة: ما دام أنها حرب باللسان فلتتذكر دائماً أن لساني أطول، وأن الناس يميلون إلى تصديق دموعي الجاهزة أكثر من أوهامك المدّعاة.
} قالت متحسرة: لو أننا التقينا قبل ثلاثين سنة! كنتُ ملكة جمال مدرستي آنذاك، وقد نظم فيَّ الكثير من زملاء الدراسة قصائد غزل.
ابتسم ولم يحر جواباً فتنهدت مستدركة: نهرب من عجز الحاضر إلى استحالة في الماضي، لكأننا عصفوران متعبان كلما عثرا على شريط يمكن أن يرتاحا فوقه اكتشفا أنه مكهرب أو مقطوع. لا يتسع لنا إلا السقوط!
} قال لصديقه وقد ضبطه يمارس هوايته المفضلة في تتبع النساء فوق الأرصفة:
أما تعبت من هذا العبث؟ كلهن نساء!
هز الصديق رأسه وعلى وجهه ملامح السخرية قبل أن يقول: هذا هو الغلط بعينه! لقد اكتشفت، بالمعاينة، أن في كل امرأة ألفاً من النساء وأن المرأة بالمفرد غير موجودة! تأمل هذه الصغيرة، إن فيها أمها وجدتها، بل جدتيها، وفيها عشر ممثلات سينمائيات وعشر مغنيات، وفيها ريفية تداري سذاجتها بشق الثوب عند أعلى الساق، وفيها بدوية تريد تأكد ذاتها عبر عينيها الواسعتين. هيا، انصرف قبل أن تفسد عليّ دراستي ومتعتي، وسأعود إليك ذات يوم بامرأتي المفردة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يميت الزمن الحب، يجعله رقيقاً، شفافاً، مجرداً، لصيقاً بالروح، هو منها وهي منه. تسقط عنه الشهوة والرغبة في الامتلاك، وتتوارى »الأثرة« خلف ستار العفة. لكن نسمة هواء صيفية تحرك صفحة البحيرة الساكنة تكفي لإطلاق سراح الطوفان الحبيس. إحم حبك جيداً من الزمن، ومن الطوفان.