عزمي بشارة يحاسبكم: لماذا دمرتم الشعار القومي؟!
يتسق الشكل مع المضمون تماما، وتتكامل الملامح مع نبرة الصوت العريض والدافئ حتى لتكاد تفترض أن »الرجل« يخرج من الصورة المتمثلة »للمناضل«، كما في الزمن الجميل.
هوذا عزمي بشارة: تماما كما عرفته من قبل أن ترى صورته: بالوجه الملوّح بالشمس والاضطهاد والمواجهة حتى اكتمال العروبة فيه، والمجلل بهالة الشعر الأسود كما الليل الإسرائيلي، وبالشاربين الكثين المطلقين على مداهما ليشكلا إطارا داكنا للابتسامة المضيئة التي تستعيد معها ملامح الطفولة الفلسطينية.
يحف بكما الشوق وكلاكما يخرج من اسمه في الذاكرة وعلى الورق مستأنفا حديثا قديما قِدم التلاقي على القضية وفي الرأي بين صديقين لم يُضعف البُعد ودهما ولا وثوق الارتباط بالفكرة والمبدأ!
هي لغة زمان موغل في الأمس حتى أبواب الغد؟!
ليس أبأس من أن يحاصرك السؤال المكرر والمعاد حول ما لا تحتاج فيه الى جواب من غيرك.
لا يليق دور »الخبير الأجنبي« بالمناضل العريق، ولا يليق الغباء بمن يدعي الذهاب الى حرب العدو بينما هو لا يعرف عنه غير ما سمعه من الأجداد الذين كانوا يستخرجونه من الخرافة، أو من الفضائيات التي تستعيده الى الأرض وترسلك أنت الى الخرافة!
مفزع هو الجهل بالعدو، ومفزعة من ثم مقارنة التحولات التي تحدث في »مجتمعه« الديناميكي مع حالة الركود المفروضة بالأمر على مجتمعك والتي تعيد سحبه من احتمالات التقدم لتدفعه في اتجاه التعفن أو الموت البطيء أو الشلل عن التفكير والعجز عن اتخاذ القرار!
كيف الغريب، الهجين، المستقدم من آخر الكون »يخترع« وطنا، وصاحب الأرض والشمس والهواء ونور القمر، زارع الزيتون والورد والبرتقال، يهتز يقينه بشرعية وجوده، ويخرج من جلده الى أربع رياح الأرض باحثا عن لقمة العيش والأمن على حساب الوطن الذي صادره منه حاكمه قبل المستوطن الأجنبي.
يزفر عزمي بشارة غضبه: لماذا أسقطتم الشعار القومي؟! لماذا هربتم من الميدان؟! لماذا تقتلون جمال عبد الناصر ألف مرة كل يوم؟! لقد جاء هؤلاء الأغراب من مختلف أنحاء العالم مشدودين بشعار قومي ديني مركب صناعياً، وقاتلوا بضراوة من أجل إنجاز مشروع كان يُعتبر أقرب الى الوهم منه إلى الحلم… بينما انصرفنا نحن الى تحطيم مشروعنا القومي، فإذا أولى الضحايا فلسطين، التي لا يمكن أن تبقى حقيقة إلا في إطارها الطبيعي كقضية عربية. مع سقوط الهوية العربية انفض الساحر، فصارت فلسطين مجموعة »فلسطينات« بل مجموعة نتف فلسطينية الماضي لكنها مجهولة الهوية في الحاضر. صارت »عرب 1948«، و»إسرائيل«، و»غزة« و»الضفة الغربية« و»فلسطينيي الشتات«. كلهم فلسطينيون، بالأصل، لكن أحدا منهم لا يمثل فلسطين كلها ولا يجسدها بالكامل، عدا أن »العربي« الذي صار »مصرياً« أو »عراقياً« أو »سورياً« لم يعد له حق النطق باسم فلسطين. فلكي تكون فلسطينياً كاملاً عليك أن تكون عربياً، أولاً.
يستذكر عزمي بشارة أيام الصبا في الناصرة: لا تستطيع أن تتصور ماذا كان يعني جمال عبد الناصر بالنسبة إلينا في »الداخل«. كان خطابه العيد. وكان »الترانزيستور« يشكل بطاقة انتساب الى الحزب عبره، الى الوطن عبره، الى القضية عبره. كان يبث فينا الأمل بأن أهلنا في الطريق الينا، لم ينسونا ولم يبيعونا ولم ينشغلوا بأنفسهم وبهمومهم الإقليمية عنا.
تسيطر المرارة على جو الجلسة، ويهدر صوت عزمي بشارة:
أنتم لا تعرفون حقيقة ما أصاب إسرائيل من هلع إبان حرب الاستنزاف التي اندفع إليها جمال عبد الناصر وجيشه مباشرة بعد هزيمة حزيران 1967. لقد خلخلت تلك الحرب، بخسائرها المتواترة يوميا، الكيان الإسرائيلي. وحين جاءت حرب 1973 فإن إسرائيل قد دخلتها مرتبكة ومذعورة لأن حرب الاستنزاف كانت قد استنزفتها، حقيقة، على الصعيد النفسي قبل الصعيد العسكري والمادي.
حرب 1973؟!
آخر تجليات الشعار القومي.
لماذا يهرب العرب من أنفسهم؟! لماذا يتخلون عما يجعلهم ذوي شأن وذوي مكان وذوي هوية، وينسبهم حقا الى تاريخهم، بدلاً من الضياع خارجها وخارجه؟!
تنفتح صفحات الواقع المر، ويتلاقى حطام الشعار القومي مع رمح المواجهة الذي يواصل التصدي للخرافة المسلحة، فلا ينتظم الحوار: يسألون كثيرا ولكن خارج الموضوع. هي مناسبة لاستعادة ذكريات الطفولة والاطمئنان عمن تبقى على قيد الحياة من رفاق الصبا… لكنهم يعرفون أنهم قد فقدوا الحق بالسؤال عن الغد. وهو ينزعج من انغماسهم في التقاعد الى حد الاستقالة المطلقة من همّ معرفة شروط المواجهة اليوم!
لا حوار، بل مسامرة.
والوقت أضيق من أن تنفقه في حمل رسائل »نحن بخير، طمئنونا عنكم«، مع الاحترام الجزيل للعواطف الشخصية.
هيا، احمل صليبك واتبعني.
لكن الصلبان أثقل من أن تستطيع حملها أكتاف الرجال الذين هدّهم البُعد والضياع والغربة وافتقاد اليقين.
فاحمل صليبك وأمض متوغلاً في أجيال الآتين الى العذاب الذي سيستمر طويلاً حتى يستعيد الحلم جسده، ويواجه الخرافة التي غدت حقيقة بمشروع عربي يحمي كل قطر من أن يكون فلسطين ثانية، وكل عربي من أن يكون لاجئا في أرضه حتى يتيسّر له جواز سفر غريب يغدو أرضه الجديدة ووطنه المستحيل!
عن عبد الوهاب البياتي .. خارج الشعر!
على غير موعد تلاقينا في »نايت اند داي« بفندق سميراميس القديم في قاهرة جمال عبد الناصر.
كانت صالة الاستقبال الكبرى ندوة مفتوحة لكبار الكتّاب في مصر آنذاك، يتصدرها متى ليَّل الليل الشاعر كامل الشناوي يتحلق من حوله المعجبون من فنانين وقراء وفضوليين، في حين يتجمع »الصعاليك« وأنصاف المعروفين واللاجئون السياسيون في المقهى المجاور الذي لا يقفل أبوابه على الساهرين مهما طال انتظارهم للصباح الموعود.
كنا، نحن الصحافيين المهتمين بالسياسة، طارئين على مثل هذه الجلسات، ومتهمين بأننا نركض وراء التافهين من الحكام وأصحاب الألقاب على حساب الثقافة والمبدعين والذين يتعاملون مع الوجدان وليس مع السلطان.
وكانوا ثلاثة إلى الطاولة: حسين الحلاق ومحمد الحبوبي وعبد الوهاب البياتي… فصاروا بعد انضمامنا إليهم ستة.
دارت الراح، واستعيدت معها الأحاديث عن مشاريع الانقلابات الموعودة في كل من سوريا والعراق. وبرغم توهج الاحتمال في اقتراب موعد التغيير فإن جواً من الحزن العراقي ظل يهيمن على الجلسة.
جاء معجب بالبياتي فحياه وقبّله كثيرا، وسأله أن يوقع له ديوانه الأخير، فقرّبه وطلب له مرطبا، وانهمك في كتابة الإهداء.
مضى المعجب في المجاملة حتى النهاية، فذكر أنه يفضل البياتي على غيره من شعراء جيله، وحتى عمن تقدموه، فهو يراه حزنا عراقيا مصفى، في حين ان الجواهري سياسي أكثر مما يجب، والسياب نداب بكّاء أكثر مما يجب و…
لا إنذار مسبقاً مع الغضب العراقي.. وهكذا وجدنا البياتي يتوقف عن الكتابة، ثم يقف فيرمي المعجب بديوانه الذي كانت صفحته الأولى البيضاء قد فاضت عن آخرها بعبارات الثناء والمديح لهذا »المجهول« الذي حاول اصطياد »لحظة قدرية« مع شاعره الأثير!
وكان علينا، بعد ذلك، أن نمضي ساعة أو أكثر في محاولة تهدئة عبد الوهاب البياتي الذي وجدها فرصة لاعلان رأيه الصريح وبتعابير عراقية »رقيقة« جدا في مجمل شعراء العراق، مثنيا بشعراء مصر، مختتما حلقة الإعدام بمجمل شعراء لبنان وسوريا.
* * *
دائما كانت لقاءاتنا تتم بالمصادفة وحيث لا يمكن التوقع.
ودائما كانت الجلسة تبدأ طيلة الأحاديث، مطعمة ببعض الشعر والكثير من اللوعة، لتنتهي في جو من الاقتتال الذاتي ومن الاشتباك العنيف مع الآخرين، حاضرين وغائبين.
قال صديق: البياتي ينفق حبه كله في شعره، فلا يتبقى لديه غير المرارة والضيق بالآخرين.
وقال صديق آخر: انه عيب الكبار دائما، نادرا ما يقبل أحدهم غيره!
قال صديق ثالث: انها الخيبات والمرارات والفواجع العراقية!
على ان الكل كانوا ينتهون الى التسليم بالمكانة الرفيعة للبياتي شاعرا، وينسبون حدته الى غرابة الطبع العراقي عموما وهو طبع تختلط فيه فاجعة التاريخ بمأساة الجغرافيا ببؤس الأحوال السياسية مع قسوة استثنائية في المناخ!
واتفقنا على ان نفصل دائما بين الشاعر بشعره و»الشخص« بمزاجه وانقلاباته الحادة، مستشهدين بأمثلة لا تحصى من الوقائع عن آخرين من الشعراء أكثر فطنة من البياتي لأنهم »يلعبونها« حسب الأصول: فالعلاقات العامة تحجب الرأي الخاص، والتسويق يطغى على موجبات الصراحة المحرجة.
في الاحتفال بالجواهري التقينا. وبقدر ما كانت كلمة البياتي »رسمية« باردة، فإن دموعه كانت حرى. وقال قائلنا: من حقه أن يُكرَّم، هو الآخر.
أما في آخر لقاء معه، على هامش الجنادرية في الرياض، فكان عبد الوهاب البياتي قد استوطن اليأس والقرف والمرض، وكان كمن يقف على المحطة في انتظار الموت… على كرسي هزاز في دمشق التي أحبها فأحبته واستبقته فيها.
النفاق العسكري باللافتات المدنية!
اللافتات لا تصنع حباً.
ومهرجان اللافتات التي تُرفع عادة في الأول من آب، لمناسبة عيد الجيش، حفل هذه السنة بإهانات كثيرة للبلاد جميعا، بشعبها وجيشها ودولتها والمؤسسات.
لقد زايد المنافقون بعضهم على بعض حتى جعلوا الجيش أهم من شعبه ومن وطنه.
وبغض النظر عن ركاكة اللغة، والأخطاء النحوية والإملائية الفاضحة في اللافتات التي رُفعت في كل المدن والقرى والدساكر والمزارع، فإن الدلالات السياسية للشعارات المكتوبة كانت خطيرة.. ومعادية لما قصد إليه المنافقون!
جعلوا الجيش »عجلاً مقدساً« أو »صنماً مذهباً«، ورفعوه فوق شعبه، وأعطوه ما لم يطلبه وما لا يجوز له أن يطلبه من مراتب ومهمات، كمثل أن يعيد تأهيل الشعب، أو ان يكون المستبد العادل!
النفاق آفة قاتلة! وأولى ضحاياها، في الغالب الأعم، المنافقون!
بقي على أمراء النفاق أن يصنعوا لذلك الجيش شعبا.. ووطنا!!
ثم: ألا يقرأ المنافقون، أو هم لا يسمعون عن إسرائيل وجيشها الذي يستعد بأعظم ترسانة حربية ليكون »جيش السلام« المفروض على العرب جميعا.
لم يكن في لافتات المنافقين أي ذكر لإسرائيل!
ولقد أنزل الجيش بعض اللافتات التي تمسه لأنها تندبه لما لم يؤهَّل له.
فليته أنزلها جميعا، إذاً لكان ارتفع في عيون أهله الذين يُسكنونه عيونهم وينتظرون منه دورا هو بالضبط ما غُيّب قصداً عن لافتات المنافقين!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أخذني حبي الى المعرفة، إلى الثقافة. كنت أخجل من جهلي حين أستمع الى حبيبي يتحدث عن الكشتب وعن الشعراء الذين قرأ لهم وحفظ شعرهم. قلت ان حبي يستحق ان أحفظ له ديوان الشعر العربي كله، ومختارات من أرق ما قاله المحبون باللغات جميعا. الحب يرفع، يا صديقي، ويزيدك كبرا. الحب امتياز. ألستَ تعرف المحب من بين آلاف الجلساء. ان لغته مشرقة كنور عينيه.
طلال سلمان