ذهبنا إلى طهران ثورة الخميني.. فاستقبلتنا فلسطين
في مثل هذه الأيام من العام 1979 كنت في طهران، أحاول التعرف عن قرب الى المشروع السياسي للثورة التي شكلت بانتصارها الباهر نقطة تحول في تاريخ عالمنا المعاصر: الجمهورية الاسلامية في ايران.
لم يكن مفهوم هذه الدولة الوليدة التي أتت بها الثورة على أنقاض امبراطورية هجينة قد استقر على صيغة نهائية… وكانت الأجوبة عن الأسئلة المتوالدة من ذاتها، نتيجة غياب النموذج، تجيء على شكل اجتهادات في التفسير، متقاربة أحيانا ومتباعدة في أحيان أخرى، وبحسب موقع صاحب الاجابة من مشروع الجمهورية قيد التكوين..
وكانت الاجابات تكشف مواقف من نسألهم من الاسلام ذاته، ومن العرب على وجه التحديد، باعتبارهم من حمل الرسالة ونشرها في بلاد فارس، وكان السيف الى جانب الكتاب يفتحان له الطريق حيث يتطلب الأمر.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد تمايزت الاجابة بين الامام الطالقاني (رحمه الله) وبين الحسن بني صدر الى حد التناقض… ففي حين غلب الايمان بوحدة الدين، كعنصر تكوين جامع بين العرب والايرانيين في رحاب الاسلام، مع الأمل بالتلاقي في الاهداف سياسياً، من اجل التحرر وبناء مجتمعات عصرية مؤهلة للتقدم وعصية على الاستعمار ومحاولات اخضاعها مجدداً، كما كان يرى الطالقاني، فان بني صدر لم يكن يخفي ضيقه من العرب ومن الشراكة معهم ولو اضطرارية في الدين!
لم يكن الامر مفاجئاً تماماً لي، فلقد كنت التقيت في بيروت العديد من شباب الثورة الاسلامية ودعاتها، ولمست عبر النقاش قدراً من التمايز بين دعاة القومية مغلفة بالاسلام، لأسباب سياسية تتصل بطبيعة الحكم الشاهنشاهي المعادي للاسلام، وبين المؤمنين حقيقة بالاسلام كمشروع ثورة دائمة على واقع التخلف والارتهان للاجنبي، واعتماده منهجاً للتغيير الشامل، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، مع الثقة المطلقة بأهلية هذا الدين لان يكون في الغد، وليس دعوة سلفية تشد الى الأمس… وتنتهي بان تكون في خدمة الهيمنة الاجنبية على الدنيا والرجعية الدينية معاً.
كذلك، فلقد كان تسنى لي ان التقي الامام الخميني مرتين في تلك القرية الفرنسية الوادعة، والقريبة من باريس، نوفل لي شاتو: المرة الأولى لاستكشاف المناخ المحيط بذلك العجوز الذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس، والانتباه الى المفارقة اللافتة في اهتمام الصحافيين الأجانب به والذين كانوا يركزون على تقدمه في السن، وعلى مرتبته الدينية آية الله ودلالاتها، وعلى دموع المؤمنين الذين كانوا يقصدون خيمته ليصلوا خلفه، بينما المنطقة غارقة في بياض الثلج وصقيع كانون!
اما المرة الثانية فكانت لاجراء حوار موسع معه تناول مختلف طروحاته الثورية، اضافة الى الموقف من العرب، ومدى ملاءمة الدين الاسلامي الذي يطمح الى احداثه في ايران ومن بعدها في العالم أجمع..
طفنا في طهران الثورة، نمشي يرافقنا حيثما توجهنا صدى كلماته المسجلة على أشرطة كاسيت، استخدمت كمدفعية هادمة لاسوار الامبراطورية، فدكتها دكاً، وفتحت له عبر ايمان الناس الطريق عريضاً للعودة المظفرة بعد هرب الشاه وسقوط نظامه..
كان صوت آية الله ينطلق عفياً فيبكي كل من يسمع كلماته، ثم يمسح دموعه وهو يهز قبضته مزهواً بانتصار قائد الثورة الشيخ الذي جاءهم بالغد، ثم يتلاقون في قلب الهتاف الجماعي: بهمت خميني شاهنشاه دربدر شره .
ذهبت الى اكثر من اربعين لقاء مع أولئك النفر من الرجال الذين كانوا يحملون راية الثورة، ويشرحون اهدافها: فيهم من أمضى ربع سنوات عمره في السجن، كالامام الطالقاني، وفيهم من عاد من منفى افنى فيه نصف عمره، فيهم الطامح الى ان يحتل موقعه في النظام الجديد من موقع الحليف ، افتراضاً منه انه شريك في انجاز عملية التغيير، وفيهم المتبرع بشرح اهداف الثورة مقدما نفسه كمرشح ممتاز للوزارة، وفيهم من كان يطمح الى تقاسم السلطة بين من صمد فبقي في المركز ولو سجينا، ومن عاد من المنفى مع انتصار الثورة مفترضاً ان ساعته قد دقت وحان ان يحصل على حصة في النظام الجديد.
… وكان الامام الخميني قد غادر طهران الى قم، والى مدرسة الفيضة فيها، حيث كان يدرّس من باتوا في طليعة رجال الثورة المؤهلين لان يبني بهم نظامه الجمهوري الفذ بالاسلام، بطبعته الجديدة التي تحمل رؤياه وتفسيره ومنهجه الذي على اساسه سيقيم دار الاسلام بديلاً من امبراطورية الخارجين على الدين وعلى المصلحة الوطنية معاً.
قصدنا قم، ونمنا في ضيافة صديق لصديقنا محمد صالح الحسيني، المجاهد الذي لم يقدر له ان يهنأ بانتصار ثورته، اذ اغتيل في كمين أعده بعض أعداء الثورة الاسلامية، في بيروت بعد فترة وجيزة من تحقق حلمه السَّنيّ. افقنا مع بزوغ شمس ذلك اليوم المثلج، فقصدنا المدرسة الفيضية حيث ستتاح لنا فرصة اللقاء مع قائد الثورة… المنتصر الآن والممسك بمفاتيح المستقبل في بلاده والمنطقة من حولها، والذي سيرى فيه الخارج (الاميركي أساساً ومن ثم معسكر الرجعية العربية المتعيشة على الشعار الديني)، الخطر الداهم المتقدم في زخمه وقدرته على التغيير حتى على المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي…
حملنا الى الطابق العلوي من المدرسة حيث كان الامام القائد. ومن هناك بدا المشهد خرافياً: اختفى الثلج مخليا المساحة لعشرات الآلاف من الايرانيين والايرانيات بالتشادور الاسود… وحين أطل الخميني ارتفعت الهتافات مدوية، ولم يكن ثمة مجال للتدافع فالناس كالبنيان المرصوص، وان كان العشرات قد تهاووا في حالات اغماء، او اعياء او انبهار، فسارع المنظمون الى نقلهم الى المستشفيات.
لوح القائد بيديه ثم جلس على طراحته امام مكبر الصوت، وباشر القاء خطابه في الحشد الذي كانت جموعه رجالاً ونساء يشهقون ببكاء الفرح وزهو انتصارهم، هم الفقراء، المساكين، ابناء السبيل، الذين يحفر الجوع اخاديده في وجوههم التي نفرت عظامها فكادت تخرج من جلدها.
حين جلسنا الى آية الله الموسوي الخميني، بعدما فرغ من خطابه، الذي ترجمه لنا الصديق الصدوق محمد صالح، لم نسأل عن سر انتصار الثورة، وانما كان همنا ان نعرف منه تصوره للجمهورية الاسلامية التي كانت تطرح اسلاماً جديداً، مختلفا عما عرفنا وألفنا من دول وتنظيمات ترفع الشعار الاسلامي فلا يجد فيه الناس ما يحتاجون اليه ليومهم وغدهم، ويفترضون ان الدين الحنيف يحققه لهم.
لا تكتمل زيارة قم من دون ان تقصد مقام المعصومة .
في صحن المقام تلاقينا بغير موعد: الراحلان مارون بغدادي وجوزف سماحة وكاتب هذه السطور ومحمد صالح، الصديق والدليل والشارح والعارف والمجاهد بغير ادعاء او تشدّق بالكلمات الكبيرة.
تبادلنا التحية والعناق، ثم انتبهنا الى ان جمهوراً كبيرا قد احاط بنا، وقد رفع اصواته بالهتاف المدوي: فلسطين، فلسطين، P.L.O منظمة التحرير كما كانت تعرف اختصارا بالأحرف الاولى من اسمها بالانكليزية.
قال محمد صالح: لقد عرفوكم عرباً، وهذه تحية لكم. ان فلسطين قضيتهم، كما هي قضيتكم. انها قضية كل المناضلين في العالم، فكيف بمن يرفع راية الاسلام والتحرر ومجابهة الاستعمار وانظمة التخاذل والدكتاتورية، كالنظام الامبراطوري الذي أبعدَنا عن هويتنا وعن دورنا، عن ديننا وعن قوميتنا معاً ليتسنى له ان يكون كسرى ، لكن في خدمة الامبريالية الاميركية والاحتلال الصهيوني لفلسطين.
حين عدنا الى طهران كانت تنتظرنا المفاجأة المدوية بالفرح: صحبنا محمد صالح الى تلك المستعمرة المتعددة المباني التي كانت سفارة اسرائيل ، والتي وضعت الثورة يدها عليها، بعدما غادرها جيش الاسرائيليين الذين كان من بينهم خمسمئة يحملون بطاقات الدبلوماسيين، في حين كان الآلاف من الخبراء يحتلون مواقع التوجيه في المجالات كافة: الجيش أساسا، بفروعه المختلفة، والزراعة بقطاعاتها جميعا، في الادارة وفي الحقول، والتعليم العالي، والداخلية كمستشارين في شؤون الامن، والمخابرات بطبيعة الحال.
جلنا في بعض المباني التي كان الايرانيون الغاضبون والممتلئون قهراً قد احرقوا بعضها، قبل ان تتولاها السلطة الجديدة فتسلمها الى منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان سفيرها هاني الحسن يعامل بوصفه الرجل المقدس يتبرك به المؤمنون بفلسطين.
في طريق العودة الى الفندق، استوقفنا طابور طويل يسد الشارع، ومئات الرجال ينتظمون صفوفاً، وفي يد كل منهم بعض أوراق النقد.. سألنا فقال دليلنا: هذا مكتب اقيم على عجل لوكالة الأخبار الفلسطينية وفا .
تنهدنا بحسرة. ان هؤلاء المساكين لا يعرفون ان هذه النشرة لا تستحق كلفة طباعتها، فكيف ان تباع لهؤلاء المستعدين لبذل دمائهم من اجل فلسطين؟!
[[[
سمعنا آنذاك في طهران، كما سمعنا في بيروت وفي العديد من العواصم العربية:
ماذا لو ان القدر قد منحنا هذه الهدية من السماء ممثلة بالثورة الاسلامية في ايران، حين كانت حركة الثورة العربية في زمن تألقها بعد؟!
وكان الجواب باللغتين العربية والفارسية:
إذن، لكان العرب والايرانيون قد صنعوا عالماً جديدا، يعوضون فيه، بارادتهم الثورية، وبفهمهم العميق لاحوال شعوبهم، وبمعرفتهم اليقينية باعدائهم وقدرتهم على حماية من هم في موقع الاصدقاء، عن دهور قهرهم واذلالهم بقوة مستعمريهم الخارجيين ومستعبديهم في الداخل!
اليوم والثورة الاسلامية في ايران تدخل عامها الثلاثين، ينسى كثير من العرب روابطهم بهذه الدولة التي جاءت الى صداقتهم، ممسكة براية الرسالة التي نشروها فيها، فيتخذون منها موقفاً عدائياً بينما هم يهرولون الى التلاقي مع العدو الاسرائيلي تحت رعاية قاهر الشعوب في الكون: الاستعمار الجديد، الاميركي الهوية.
ليس الأمر سوء حظ. انه سوء سياسة… والدليل فاقع: لننظر الى الاسلام كما تقدمه الأنظمة العربية التي ترفع شعاره نفاقا لشعوبها، والى موقع الاسلام في هذه الجمهورية الوليدة التي باتت الآن قطبا كونيا، لا يمكن تجاهله.
واكثر ما يزكّي ايران الثورة الاسلامية هو الشعار الاسلامي المرفوع نفاقاً في الدول المعادية للتحرر والتقدم والعزة، لا سيما العربية منها.
اما أعظم ما يبعث على الريبة فهو استخدام المذاهب في مواجهة الدين الحنيف، وهو واحد.
وهكذا يخسر العرب اسلامهم من دون ان ينصروا عروبتهم.
… ويخسر العرب ارضهم (العراق بعد فلسطين) من دون ان يربحوا دينهم.
ويخسر العرب يومهم من دون ان يربحوا غدهم الذي تركوا لاعدائهم ان يصنعوه لهم بما يناسب مصالح احتلالهم من الهيمنة.
ياسر هواري يكتب غداً بدروس الأمس
لم تجمعني زمالة العمل في مؤسسة صحافية واحدة مع ياسر هواري، لكن شيئاً من الود والتقدير المتبادلين جمعا بيننا، على اختلاف الاهتمامات والموقف السياسي.
وحين انضممت الى أسرة دار الصياد، كان ياسر هواري قد تخلى عن رئاسة تحرير الشبكة ، بعدما جدد صيغتها، وحولها الى مجلة ناجحة كان اكثر من أحس بخطرها المسؤولون عن تحرير مجلة الكواكب في القاهرة، وقد كانت اهم مجلة فنية عربية آنذاك.
بعد فترة، أطلت علينا الاسبوع العربي التي كانت مجلة مغمورة، بحلة قشيبة، عبر الصيغة التي اقترحها لها ياسر هواري حين تولى رئاسة التحرير فيها، مقرراً ان يجعلها نسخة عربية من مزيج من مجلتي باري ماتش الفرنسية و لايف الأميركية، حيث تصبح الصورة ركيزة اساسية في انتاجها، تسابق التحرير أي المادة المكتوبة وقد تطغى عليها… ومرة أخرى كان التحدي موجها لمجلة المصور المصرية.
كان ياسر هواري يمثل جيلاً جديداً من الصحافيين في لبنان، جمع بين الدراسة الاكاديمية والخبرة المهنية وروح المغامرة..
كذلك، فقد كان بين طلائع ذلك الجيل الذي وجد نفسه في عاصمة تكتشف موقعها المميز في قلب بلدها الجميل الذي طالما اعتُبر درة الشرق، وفي اللحظة التي كانت فيها بيروت تتقدم لتصير عاصمة الاعلام العربي المكتوب، في ظل احتدام المنافسة بين المشروع القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر، ومشاريع الهيمنة الغربية الاميركية البريطانية التي ليست الكوفية والعقال، وحاولت استخدام الاسلام في وجه العروبة.
عن تلك المرحلة تحديداً، جمع ياسر هواري كتابا من افتتاحياته في الاسبوع العربي ثم في مجلة كل العرب التي اصدرها في باريس بعدما هاجر اليها في منتصف السبعينيات، قبل ان يستقر فيها، ليصدر مجلة بالفرنسية ارابيز ، أتبعها بعد عشر سنوات بمجلة باللغة الانكليزية تراندز .
الكتاب يحمل عنوان حدث غدا ، والتقديم للزميل غسان تويني، والافتتاحيات القديمة الجديدة تناولت الشؤون اللبنانية بتداخلها مع التطورات في الاقطار العربية في ظل ضغوط مشاريع الدولة التي طالما استهدفت المنطقة… وفيه حكايات وطرائف ولطائف وذكريات ملكية ورئاسية تكاد تماثل اخبار هذه الأيام، ومن هنا جاء عنوان الكتاب … وان ظل الرئيس الراحل فؤاد شهاب يحتل مكانة مميزة فيه، ولعله في ضمير ياسر هواري كان الأقرب الى نموذج الحاكم الصالح، لذا فان رنة حزن تشيع في الكتاب عن تجربته التي أُجهضت قبل اكتمالها. على ان في الكتاب مقارنات ضمنية بين اهل السياسة في لبنان قبل اربعة عقود بل خمسة، وبينهم اليوم، وهي تحرك من المواجع اكثر مما تثير الفضول، وقد اختتم ياسر هواري تقديمه الجديد لها بهذه العبارات:
هل يحق لنا بعد كل ذلك ان نتذمر ونتأفف ونشتكي ونتألم، وقد زرعنا الريح فحصدنا العاصفة .
ولست أدري هل قصد ياسر هواري، الهادئ اكثر مما تحمل صفات اللبناني ، الميال الى الصمت بأكثر مما يتحلى به الصحافي ، حين ارخ لانجاز كتابه ب 13 نيسان 2007 وهو موعد تفجر الحرب الاهلية التي بتنا الآن نصنفها الاولى ام انها جاءت عفو الخاطر، وعلى طريقة ياسر الذي تهنئه كصحافي فني فيفاجئك في الصحافة السياسية، وتهنئه بمطبوعة عربية فيباغتك بمطبوعة بالفرنسية، وقبل ان تسعى لتهنئته يصلك العدد الاول من مطبوعة جديدة بالانكليزية، فضلا عن أنشطة متعددة في الخليج العربي تحت عنوان العلاقات العامة وتقديم الخبرة لمن يطلبها، في مجال الصحافة بأنواعها المختلفة.
… وها قد اضاف ياسر هواري الى القابه، الآن، لقب المؤلف .
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
التقيت صديقاً عائداً من المهجر. وكان في حالة فرح غامر. قال انه عائد ليتزوج بحبيبة ضاعت منه وضاع عنها عشرين عاماً!
الحب أقوى من الزمن. قد تخمد ناره، وقد تطويه عاصفة غضب، وقد يُجبره ظرف قاهر على التخفي وانكار ذاته… لكنه يظل حياً، ويبقي الامل نضراً، حتى تحين اللحظة، فإذا الدنيا تزهر، وإذا الربيع ولادة الحب يبعث المحبين ليكملوا آهاتهم متحاضنين!