حوار مع كوشنير عن إسرائيل وحروبها التي تنهيها
على امتداد خمسة وثلاثين عاماً من الود الذي تستولده صداقة الجرح، لم نتطرق مرة، في اللقاءات المتكررة، الى السياسة : كان برنارد كوشنير يفاجئنا بحضوره المنعش كلما عنفت الحرب الأهلية في الداخل، او تعرض لبنان والفلسطينيون ضمنه الى اجتياح اسرائيلي جديد.
كان برنارد كوشنير يهبط علينا، كأنما بمظلة، للنجدة والمساعدة في انقاذ من يمكن انقاذه من الجرحى والمصابين بنيران الفتنة او العصبيات الهابطة في اتجاه العنصرية، فضلاً عن النار الاسرائيلية التي لما تنطفئ…
في البداية كان يأتي باسم اطباء العالم ، ذلك التنظيم الإنساني الراقي الذي كانت فرقه ذات الكفاءة العالية تتحرك بسرعة لمعالجة الآثار الهمجية للحروب الأهلية التي تفجرها غالباً صراعات النفوذ بين الدول العظمى، مستغلة ضعف البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان التي جرى استعمارها طويلاً، ثم تركها مستعمروها أسوأ حالا مما كانت يوم احتلوها.
ثم جاء كوشنير وهو وزير للصحة في فرنسا، وكان هو نفسه، في اهتمامه بالانقاذ، بنجدة من لا يجدون من ينجدهم، بتقديم اقصى ما يستطيع من مساعدة مستعيناً بموقعه كما بعلاقاته الدولية المؤثرة.
دارت الأيام، وتفجرت يوغوسلافيا من الداخل بعد رحيل مبدعها جوزيب بروز تيتو، وبالضغط من الخارج… واندلعت حروب أهلية اتخذت في بعض مساراتها شكل الحرب الصليبية ضد الاقلية المسلمة. وتدخلت الدول، وابتدعت صيغة استثنائية للتدخل العسكري، ولتركيب حكومة محايدة لوقف المذبحة. وعين برنارد كوشنير حاكماً لكوسوفو، بالاستناد الى سجله في مجال الإغاثة، وهو حافل، وإلى عقلانية موقفه السياسي، ورصيد علاقاته الدولية.
? ? ?
في اليوم الرابع لتوقف الحرب الاسرائيلية على لبنان هاتفني الدكتور كامل مهنا، وهو الذي قاتل كل الحروب فانتصر، وقاتله محترفو السياسة وتجار العذابات الإنسانية فلم ينتصروا عليه ولا على مؤسسة عامل التي انشأها ورعاها حتى اتسع نطاق عملها الإنساني فشمل انحاء عدة في بيروت وضواحيها والجنوب والبقاع… قال الدكتور مهنا الذي يعامل سيارته على انها طائرة ويعامل زوجته وأولاده على انهم مجلس أمن دولي وبالتالي فهم مسؤولون عن الاعمار والاغاثة والدبكة وولائم العشاء المفاجئة واستقبال السفراء وافتتاح المراكز الصحية وضبط اصول الغناء في السهرات:
صديقك برنارد وصل. سنمضي الى الخيام صباحاً، وسنتوقف لبعض الزيارات في صيدا وصور والنبطية وبنت جبيل، فهل تلاقينا لنتغدى في زحلة، ثم نعود معا للقاء الرئيس سليم الحص عصراً في بيروت، لنذهب بعد ذلك مع ابراهيم بيضون للعشاء مع الدكتور ألبير جو خدار في اهدن؟
? ? ?
في اليوم الثالث، جاءني برنارد كوشنير، الذي صار الآن صحافياً موفدا من مجلة باري ماتش ، فضلاً عن استمراره في مهماته الإنسانية. قال: اريد، للمرة الاولى، ان نتحدث في السياسة. ولا مرة ناقشنا الاحوال بدلالاتها السياسية. كانت تشغلنا الجوانب الكارثية للحروب والاشتباكات، فنرجئ النقاش حول الاسباب والنتائج..
قبل ان افرغ من ترحيبي بهذه المبادرة، قال كوشنير كمن يصدر حكما قاطعاً:
ان لهم الحق بدولة! لقد عانوا من الاضطهاد طويلاً، وتحملوا عذابات فظيعة، فلماذا تنكرون عليهم هذا الحق؟!
فوجئت بهذا الهجوم المباغت فسألت متجاهلاً القصد الواضح: من تقصد؟
قال بسرعة: لماذا ترفضون ان يكون لليهود دولتهم: اسرائيل؟
قلت: تحدثت عن اضطهاد اليهود وتجاهلت من اضطدهم:
في اوروبا، لقد اضطهدوا واحرقوا في معازل جماعية..
وما ذنب شعب فلسطين حتى ينتقموا منه حتى حدود الإبادة؟ بداية نحن ضد اضطهاد اي شعب او مجموعة… وباعتبار اننا عانينا من الاضطهاد والظلم والقهر تاريخياً فنحن اكثر الناس تعاطفا مع المظلومين. لكن هذه الأمة لم تعرف في تاريخها اضطهاداً او نبذاً لليهود. لقد عاشوا معنا، جزءاً من الشعب، مكرمين معززين. وكانوا تجاراً وصناعاً وأهل وجاهة، سواء في لبنان او سوريا او العراق وصولاً الى اليمن، وكذلك في مصر وليبيا وتونس وصولاً الى المغرب حيث كانت أعدادهم عظيمة… وكانت لهم دور عبادتهم ورجال دينهم يحظون بالاحترام كما سائر رجال الدين، مسلمين ومسيحيين. وفي بداية عملي الصحافي اجريت حديثاً مع رابي كان يقيم في الكنيس اليهودي في وادي ابو جميل. وبرغم كل الحروب الاسرائيلية فلم يتعرض لهم أحد.
? ? ?
كان كوشنير يسمعني بغير اقتناع، واضفت:
مع ذلك فقد سحبتهم الوكالة اليهودية من بلادهم ونقلتهم الى فلسطين، وفيها الاستعمار البريطاني، فساعدهم على احتلالها… وكانت طلائع اولئك اليهود الآتين من اوروبا، صهاينة منظمين في عصابات مقاتلة، ومزودين بأحدث الاسلحة، ليقاتلوا من كانوا في حكم أهلهم…
قال كوشنير: لكن لهم الحق في ان يجتمعوا في دولة..
قلت: ولماذا لم يعطهم هذه الدولة من اضطهدهم واحرقهم بعنصريته. لماذا علينا، كعرب، وبالتحديد على الفلسطينيين ان يدفعوا ضريبة اضطهاد الاوروبيين لليهود من أرضهم وحقهم في دولة لهم فوقها، بل ومن حقهم في الحياة؟
قال كوشنير: ولكنكم ما زلتم ترفضونهم وتواجهونهم دائماً بالحرب؟
قلت: هذه مغالطة تاريخية. لقد جاءوا محاربين، وحولوا من كان بيننا من اليهود الى محاربين، واقتلعوا شعب فلسطين من أرضه بالمذابح المنظمة فطردوهم خارج فلسطين ليأخذوها، مفروشة، بعمرانها ومزارعها وأرضها المقدسة، عربياً اي إسلامياً ومسيحياً، وهم، الصهاينة، من فرضوا الحرب كتاريخ لهذه المنطقة، منذ وعد بلفور الشهير وحتى اليوم. ان وجودهم احتلال، وبالتالي فهو لا يدوم، برأيهم، إلا بالحرب، لعلهم يرون أنفسهم الرجل الأبيض الذي لم يهنأ له بال في اميركا إلا بإبادة الهنود الحمر. لقد جاءوا بالحرب، واقاموا دولتهم بالحرب، وفرضوا الحرب على كل جوار فلسطين، ولا يمكنهم ان يستمروا إلا بالحرب… ولكن احداً لا يضمن ان يواصلوا انتصارهم بالحرب… ثم ما قيمة حياة اولها حرب ومداها حرب وآخرها حرب؟
? ? ?
قال كوشنير: …ولكن حزب الله هو الذي باشر هذه الحرب!
قلت: … ولكنك تعرف انها ليست عملية الأسر الاولى… وان هذا الأسلوب قد اعتمد سابقاً لتحرير أسرى المقاومة، وكان الامر ينتهي بمفاوضة ثم مبادلة… فلماذا اختلف الرد هذه المرة؟ ولماذا تطور الرد المحدود الى حرب مفتوحة دمرت خلالها اسرائيل معالم العمران في لبنان، فنسفت الجسور وعطلت المطارات والمرافئ ونسفت القرى واحرقت المواسم الزراعية وارتكبت عشرات المجازر في القرى والبلدات والمدن في الجنوب والبقاع اضافة الى ضواحي بيروت الجنوبية… لقد زرت الجنوب ورأيت بعينيك البيوت المنسوفة في الخيام. قتلوا النار والماء والإنسان ومواسم الخير. قتلوا المدارس والمعاهد والمساجد والكنائس والطيور والفراشات.
قال كوشنير: و حزب الله … ألم يقصف المستعمرات والمدن في اسرائيل؟ ألم توقع صواريخه ضحايا هناك؟ ألم تدمَّر مبان بينها مدارس ومساكن ومعامل؟!
قلت: بلى… لكن المقاومة كانت ترد بما تملك من سلاح محدود المدى والفعالية. أما الطيران الاسرائيلي فقد شن اكثر من تسعة آلاف غارة على مختلف انحاء لبنان، مطارداً ومدمراً كل أسباب الحياة؟
عاد كوشنير فرنسياً، فنفخ وتأفف وبرطم قبل ان يقول: حسناً… ما الحل؟! الحرب ليست حلاً. دعني اخبرك عن كوسوفو. لقد اقتتلوا طويلاً، وذبحوا بعضهم البعض. وفي النهاية كان لا بد من التدخل لحماية الاضعف، ولو بالقوة… وها هم الآن يعيشون كل في كيانه الخاص… فلماذا لا تتركون اسرائيل تعيش في كيانها الخاص؟
وشعب فلسطين؟ أين دولته؟ ان اسرائيل تقتل رجاله ونساءه وأطفاله كل يوم. ألم تر صور الاطفال ممزقين بالصواريخ والقذائف الاسرائيلية؟ لماذا لا يكون لشعب فلسطين، صاحب هذه الأرض وبانيها وحاميها وحافظها طوال التاريخ، دولة فوق أرضه؟
? ? ?
قال كوشنير: والحل؟! من أين تأتي بالحل؟!
لنتفق، بداية، ان الحرب ليست حلاً. هل تستطيع اقناع اسرائيل بأن الحرب لا تضمن مستقبلها؟ لقد انتصرت مرات، ولكنها هذه المرة لم تنتصر… ولعل المقاومة في لبنان قد فتحت باب الحل بأن اكدت ان الحرب لا يمكن ان تقيم سلاماً، او تضمن لاسرائيل المستقبل.
قال كوشنير: أنا ذاهب بعد أيام الى اسرائيل… انني اعرف الكثير من قادتها، ولسوف أناقشهم وألومهم على وحشيتهم في حربهم هذه.
قلت: اما نحن فإننا نرى ان اسرائيل بعد هذه الحرب لن تكون اسرائيل التي كانت قبلها، كما ان لبنان لن يكون لبنان الذي كان… كذلك فلسطين لن تكون ما كانته قبلها. لعلهم يدركون ان الحرب هي نهايتهم ان لم يكن بعد ثلاثين فبعد خمسين او ستين او سبعين سنة. الحرب ليست مستقبلاً. الحرب ليست أرض حياة.
… وانتهى النقاش باعتذار، فقد خشيت ان اكون قد اسأت الى اصول الضيافة مع صديق عزيز له اياد بيضاء على ضحايا الحروب الاسرائيلية من اللبنانيين والفلسطينيين.
لكنه برنارد كوشنير الذي يحفظ له كل من انقذهم او ساهم في معالجتهم التقدير والود العميق، برغم كونه يهودياً لم يضطهده احد، ولكنه يتحسس آلام المضطهدين والمعذبين في الأرض.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
في الحرب أنت شهيد او حبيب. يفجر الخطر ينابيع حبك جميعاً، فتحب الأرض والشجر والثمر، الطير والورد، المباني والأرصفة وحتى من كانت ترى السماجة مجسدة فيهم، باسمائهم وملامحهم وتصرفاتهم… اما حبك الذي هو حياتك فيزداد شفافية ورقة حتى يكاد يذيبك.