عن العائلة الأمة: الياس عبود وأم وليد وسائر الشهداء!
جاءه الصوت متدفقاً على امتداد اربعة عقود من الزمن او يزيد: أنا فيروز الياس عبود… هل ما زلت تتذكرني؟!
لم يسمع ما قالته بعد ذلك، حدد لها موعداً ثم تاه في بيداء الذكريات التي حجبتها عاديات الايام في »مكامن« من تلافيف الدماغ في انتظار من او ما يهيجها فتستعيد ذاتها بذاتها وتنهمر تفاصيلها مطراً لا يتوقف من الصور والمواقف والحكايات التي تزهر في ليالي السمر ضحكات وابتسامات على وجوه الذين غابوا ولن يعودوا!
انها عائلة أمة، عائلة تاريخ، عائلة تصلح ذاكرة لجيل كامل فكيف يمكن لأي كان ان ينساها؟!
ترى من الاعظم في تلك العائلة التي وُلدت في احضان الحزب الشيوعي، فجمعت »مشروع فلاّح« من القرعون مع امرأة ولدت لتكون »قائدا« من ديرميماس على حد الدم مع فلسطين: الاب الذي صيّر نفسه صحافياً مميزاً وكاتب قصة وروائياً وظل يقاتل اليأس والاضطهاد ونقص الوعي حتى آخر نفس؟
…أم الأم الجبارة الارادة، التي تحملت الشقاء دهراً، وخذلان الاصدقاء وتخلي »الرفاق« عنها بينما زوجها معتقل؟! ثم تحملت توالي المصائب التي تسبب في بعضها »الأهل« حين اغتالوا ولدها الحبيب »نقولا« امام باب البيت في فرن الشباك، في غمار »الحرب بين الاخوة«، بينما كانت حبيبتها »لولا« تنهي تدريبها وتتقدم الصفوف لتفجر نفسها في قوات الاجتياح الاسرائيلي التي كانت قد وصلت باحتلالها الى مسقط الرأس، القرعون، في قلب البقاع، وكانت المقاومة شرط حياة ليكون للحياة معنى؟!
…أم تراه وليد، الابن الاكبر، الذي قاتل ما وسعه القتال، ثم كسره اليأس فانزوى داخل مراراته، في انتظار عودة »الدكتور فؤاد«، تاركا للشقيقة »امية« ان تواصل النضال حتى »الجيش الاحمر« الذي جاء لنجدتنا في فلسطين من اليابان، فلم يقدم لبنان لابطال عملية »مطار اللد« منه إلا السجن في انتظار الترحيل الى اي بلد يقبلهم… وظلت امية معهم، ولعلها ما تزال.
فيروز الياس عبود؟!
ولكنني اعرف أهلك قبلك. فلأحدثك عنهم قليلاً!
* * *
التقيت الياس عبود، لاول مرة، في مجلة »الاحد« تحت قيادة نقيب الصحافة الراحل رياض طه. وبرغم انني كنت »رئيسه« في العمل فقد تعلمت منه اكثر مما افاد من خبرتي المهنية. كان فلاحاً خارجاً للتو من بعض روايات تولستوي، بشاربيه الكثين وكفيه العريضتين وايمانه الراسخ بالأرض وانها البداية والنهاية، وايمانه العظيم ببسطاء الناس والفقراء الذين يقدرون على تغيير العالم متى اجتمعوا.
ولقد عرّفني الياس عبود الى كثير من »الملعونين« الذين كانوا يشكلون مصدراً للأمل في زمن الموت المجاني، وبينهم الروائي الذي قتله الكمد فؤاد كنعان، والكاتب الممتاز الذي كسر قلمه احتجاجا صلاح كامل، وتوفيق يوسف عواد الروائي العظيم الذي قتله الغلط عندما اجتاح العقول والارادات والنوايا والشوارع والبيوت التي على شرفاتها اصص ورد ونرجس وعطر بألوان مبهجة.
… ثم سافر الياس عبود معي الى الكويت اوائل الستينيات، حيث اصدرنا مجلة »دنيا العروبة« لصاحبها الذي كان قد أسس جريدة »الرأي العام«، واستحق بكده وذكائه المعوض عن الثقافة ان يطلق عليه لقب »عميد الصحافة الكويتية« المرحوم عبد العزيز المساعيد.
آه يا فيروز لو انني اتقن كتابة الرواية كأبيك، لكنت جعلت من حكايتنا في الكويت التي كانت في بداية اطلالتها على الدنيا آنذاك، رواية تحكي ما يعجز الخيال عن تمثله مما يرافق التحولات الكبرى في المجتمعات مع انتقالها من البداوة وجدب الارض والغربة عن العصر الى قلب الدنيا.
في اي حال فقد عوض عجزي احد اعظم روائيي العرب عبد الرحمن منيف حين اصدر رائعته الخماسية »مدن الملح«… مع الفوارق طبعا بين المجتمعين المتجاورين المتباعدين: الكويت والسعودية.
* * *
حاشية: ذات ليلة، جلسنا امام شقتنا الصغيرة على السطح، التي انزلنا فيها المساعيد موقتاً. كان الجدار العالي يحيط بنا من الجهات الاربع فيحجب عنا كل ما عداه، وتبقى السماء بنجومها والقمر، متى ظهر، المجال الوحيد للبصر…
تنهد الياس وقال: آه، لو استطيع ان احدث ثقباً في هذا الجدار. آه لو استطيع ان أرى ما خلفه ولو كان يبابا… ثم طفقنا نبكي، بلا سبب!!
* * *
باعدت الايام بين الياس عبود وبيني لسنوات، فلم يتجدد اللقاء إلا عشية تأسيس »السفير«.
دخل عليّ »ابو وليد« وسأل من خلال دخان سيكارته: أين مكتبي؟! ثم تركني الى القاعة، فاختار عدداً من الشباب والصبايا الآتين بزخم حماستهم الى هذه الجريدة الجديدة والمختلفة عن غيرها ليكون منهم فريق التحقيقات.
وكان اول تحقيق لالياس عبود ومن معه نموذجياً ويمكن تدريسه في معاهد الاعلام: »نهر المليون فقير«!. عن الليطاني من منبعه في »العليق«، بين »السعيدة« و»ايعات« في منطقة بعلبك، حتى »ابو الاسود« عند بوابة صور، جامعاً في طريقه الطويل روافد متعددة في البقاع الاوسط والبقاع الغربي وجبل عامل.
لم تكن السيرة للنهر، وانما للناس على الضفتين. للفلاحين والمزارعين الذين يناضلون ضد الجدب والفيضان معا وضد المحتكرين والتجار والسماسرة والاهمال الرسمي، فيتعبون ويكدون ويبذلون العرق طيلة السنة، يبذرون ويزرعون الشتل، ويسهرون على رعاية مواسمهم، وينفقون ايامهم في رعاية مزروعاتهم حتى اذا جنوا خيرات الارض وجدوا انفسهم رهائن المحتكرين الذين يتحكمون بالاسعار، فيضطرون الى البيع بشروطهم المجحفة وإلا لما وجدوا من يشتري عرق الأيدي والجباه.
وكان الشمندر حلقة العقد في تلك المأساة السنوية.
* * *
هل لي ان اسألك يا فيروز عن تلك السيدة العظيمة التي يمكن لأي منا ان يتعلم منها الكثير: عن الصبر والجلد وكبر النفس وصلابة الوطنية ورسوخ الايمان بالعقيدة، ومقاومة الضعف وخذلان الاصدقاء؟!
هل لي ان اسألك عن تلك التي خرّجت جيشاً من المقاتلين المؤمنين بقضيتهم العادلة، »أم الشهيدين«، بل أم الشهداء: أفليس الياس عبود شهيداً، وان قضى عليه كمده وحزنه وخيبة الأمل؟! أفليس وليد وفؤاد وامية بين الشهداء الاحياء؟! ثم أوليست أم وليد اعظم الشهداء وان كانت تواصل حتى الساعة نضالها (الاجتماعي) في القرعون التي عادت إليها لانها بنت الارض التي تؤمن بأن الارض هي مصدر الكرامة والعزة والايمان بقدر ما هي مصدر الحياة؟
يا بنت الياس عبود: شبر ارض، وغربة، والنهر الحزين، ولبنان الحكاية، ولبنان المهجر، والكتب السياسية الاخرى… يا بنت القلم الذي لم يُصمته إلا الموت… هل تريدين ان اعرّفك اكثر بأبيك الذي قتله اليأس وبأمك التي تعيش بقوة ارادتها في رفض الهزيمة؟!
ليست مصادفة يا فيروز ان تكوني الآن في فلسطين، زوجة لمشروع شهيد، وأما لمشروع شهيد.
أنت صفحة اخرى في كتاب »أم وليد« ولادة الشهداء، واولهم أبوك الذي كان يتمنى ان »يعبر« النهر الآخر الى فلسطين… وها أنت قد حققت حلمه.
بعد التعارف لنبدأ الآن حديثنا في ما اتيت من اجله!
عزمي بشارة يريد تجويعنا… فكيف نقاوم؟!
لا يتعب عزمي بشارة من مقاتلة اليأس ومن تعذيبنا والتشهير بنا لجبننا وتقاعسنا عن مواجهة ما لا مفر من مواجهته مهما سفحنا من ماء الوجه ومن الحقوق ومهما تطوعنا لتقديمه من تنازلات عما لا يجوز التنازل عنه.
لكأنه يستمتع بالتشهير بنا كعرب، كأصحاب قضية لا تفتأ تكبر وتتعاظم في حين يتصاغرون، فتتسع المسافة بين الحق وأهله حتى يكاد يضيع منهم بسبب ضياعهم (بل تخليهم بالرعب) عنه…
انه مزعج بل هو لا يطاق هذا العزمي بشاره.
كلما رقدنا في قلب الاستسلام للقدر الاسرائيلي افسد علينا هناءة النوم بابتكار اسلوب جديد وبابتداع سلاح جديد للمقاومة وتحدي الهزيمة في صدورنا.
لكنه اليوم يستخدم سلاحا يعرف سلفا اننا لا نملك ما يوازيه قوة وفعالية: لقد اعتصم في خيمة واعلن الاضراب عن الطعام، في محاولة قد تبدو محدودة الاثر لاستنهاض من لا ينهضون لمنع اسرائيل من الاستمرار في بناء جدار الفصل العنصري الذي يلتهم فلسطين بيتا بيتا، قرية قرية، مدينة مدينة، شجرة شجرة، مدرسة مدرسة، مسجدا مسجدا، وكنيسة كنيسة، ونبيا إثر نبي!
لقد جرب الف وسيلة لاقناعنا بأن المقاومة مجدية، وان لها وسائل كثيرة جدواها اعظم من السلاح: كتب وخطب، نظم وتظاهر وخاض الانتخابات (تحت القيد الاسرائيلي) وفاز ودخل الكنيست من دون التنازل عن هويته، لكنه افاد مما يتيحه حرص الاحتلال على صورته الديموقراطية. جاء الينا يعلمنا ويشرح لنا طبيعة المجتمع الذي يقاتلنا بلا هوادة وفي مختلف المجالات، وبالاسلحة الاعظم فعالية في هذا العصر، وهي ادعاء الحرص على حقوق الانسان، وادعاء التمسك باهداب الديموقراطية، ومحاولة نفي الحقيقة العنصرية عن هذا المجتمع الذي اقيم بحد السيف على قاعدتين من الدين والعنصرية.
لجأ الى التاريخ، وكرز علينا فصولا من دروس فلسفته، نبهنا الى ما نملك من مصادر القوة. حاول ان يشرح لنا ان عدونا القوي فيه من نقاط الضعف واسبابه ما لا يتطلب منا الا الارادة والثبات على ايماننا بحقنا والتضامن. تحمل الاتهامات المتجنية بانه يبحث عن الزعامة والشهرة… بل لقد كاد بعضنا يشكك في وطنيته للتخلص من »شبحه« المزعج.
على انه هذه المرة يستخدم سلاحا يعرف سلفا اننا لا نقدر على حمله، بل لا نقبل على »كرامتنا« ان نلجأ اليه: انه يريدنا ان نجوع!
كيف بالله عليكم يمكننا ان نقاوم اسرائيل ونحن جوعى؟!
الا يكفينا جوعنا الى الحرية، الى الديموقراطية، الى العدل، الى التقدم، الى الكرامة حتى يجيئنا عزمي بشارة بهذه البدعة، فيقرر حرماننا من آخر متعة تبقت لنا وهي الأكل؟!
لقد خانك ذكاؤك يا عزمي بشارة!
لذا سينكرك »اهلك« الذين يحبون اوطانهم (اي نعم) لكنهم لن يذهبوا الى تحريرها وهم جياع… فالجوع كافر كما تعرف، وهو لو كان رجلا لخرجوا اليه بسيوفهم.
اما فلسطين فيمكنها ان تنتظر زمن »الشبع« الذي لا يجيء!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يتسع القلب للناس جميعا، لكنه لا يمتلئ الا بواحد.
الشك ضعف بينما الحب نبع للقوة لا ينضب، تجدد ماءه كل همسة، كل لمسة، كل كلمة تسبقه اليها بينما هو يهم بنطقها.
ها هو يسبقني مرة اخرى فيقولها: حبيبي. سأعيدها اليه، إذن، فأغمض عينيك عنا!