أعمارنا مساحات خلاء بين حربين هزيمتين!
التهمت الحروب أعمارنا فبتنا نعيش في عراء الهزائم: سنواتنا مثل الدبابات المدمّرة المتروكة في ساحة الميدان… مثل دخان الأحلام المحترقة، والتمنيات التي يصادرها »العدو« باعتبارها غنائم حرب.
نؤخذ من حرب إلى حرب بإرادة المعتدي الذي نكرمه بالتوصيف المهاب: الغاشم، الغدار، المتغطرس، الطامع، الغاصب، الدموي، البطاش!
مرة واحدة كان لنا القرار بالرصاصة الأولى، ولكننا تركنا للعدو الميدان بعدها فأردى القرار وآمالنا المغتسلة بدمائنا بالطلقة الأخيرة!
على أننا كنا دائماً ضحية الحروب التي لم نقرّر، في الغالب الأعم، مكانها وزمانها.
أعمارنا مساحات تحدد الحروب بداياتها والنهايات.
تقول، مثلاً: وُلدت في الحرب الأولى، تزوجت في الحرب الثانية، رُزقت بولدي الأول قبل الحرب الثالثة بيومين، أما ولدي الثاني فقد جاء بعد انفجار الحرب الرابعة بأسبوع!
لا نحتاج الشموع لإحياء أعياد ميلادنا. غالباً ما تكون الشموع هي مصدر الضوء في مناسباتنا الحميمة الآتية من رحم الحرب أو المرتبطة بها أو الواقعة في نقطة ما بين رصاصتها الأولى والهزيمة المولودة في خيمة الاستسلام!
تداهمنا الحروب قبل أن نتعرّف على واقع بلادنا. تغطي على عقولنا، وتعشش في ذاكرتنا مجتزأة ومنقوصة. فأول ما يسعى إليه المهزوم طمس الحقيقة لإخفاء مسؤوليته عمّا وقع فلم يقدر على مواجهته، أما المنتصر فقادر على التحكّم بالوقائع يظهر منها ما يخدم مصالحه ويشهّر بخصمه ويخفي ما لا يناسبه.
إن الحروب بنتائجها المخيّبة للآمال قد جعلتنا نكره أنفسنا ونحتقر تاريخنا وننكر أهلنا وننفر من بلادنا نطلب الهويات الأجنبية كضمانة للمستقبل.
إن الحروب المقرّرة من طرف العدو، في الموعد الذي يناسبه، وعلى الأرض التي يختارها، وبالسلاح الذي لا نملك ما يضاهيه فعالية… إن ذلك كله لا يترك لنا فرصة لأن نتعرّف إلى أنفسنا وإلى بلادنا: تدمّر قدراتنا قبل أن نفيد منها، وندفع أكلاف حروب خاسرة من الرصيد المدخر لبناء حاضرنا ومستقبلنا.
إن الحروب المفروضة، دورياً، علينا بنتائج كارثية معروفة سلفاً إنما تلغي أعمارنا. إنها تقرّر موتنا من قبل أن نولد.
كم حرباً عمرك؟! أتمنى أن نلتقي بأعمارنا مرة خارج الهزيمة. هيا بنا لنطفئ شمع الهزيمة الجديدة!
البصرة وسامراء: أيام كان العرب يبنون الدولة!
من »رحلة المقدسي« أيضاً. أقتبس هنا هذا النص عن مدينتي البصرة وسامراء.. والبصرة بناها العرب المهتدون إلى الإسلام في أيام الخليفة عمر بن الخطاب، أي في السنوات الأولى لقيام مشروع »الدولة« الأولى في التاريخ العربي الحديث:
÷ البصرة: قصبة سرية احدثها المسلمون أيام عمر، كتب الى صاحبه: ابنِ للمسلمين مدينة بين فارس وديار العرب وحد العراق على بحر الصين، فاتفقوا على موضع البصرة، ونزلها العرب. ألا تراها الى اليوم خططاً، ثم مصّرها عتبة بن غزوان، وهي شبه طيلسان قد شق إليها من دجلة نهران نهر الابلة ونهر معقل، فإذا اجتمعا مدا عليها. وتشعب إليها أنهار الى ناحية عبادان وناحية المذار، فطولها ممتد على النهر، ودورها في البر الى البادية، ولها من هذا الوجه باب واحد، وهي من النهر الى الباب نحو ثلاثة أميال. وبها ثلاثة جوامع أحدها في الأسواق بهي جليل عامر آهل ليس بالعراق مثله على أساطين مبيضة، وجامع آخر على باب البادية وهو كان القديم، وآخر على طرف البلد. وأسواقها ثلاث قطع الكلاء على النهر، وسوق الكبير، وباب الجامع، وكل أسواقها حسنة. والبلد أعجب الى من بغداد لرفقها وكثرة الصالحين بها. وكنت بمجلس جمع فقهاء بغداد ومشايخها فتذاكروا بغداد والبصرة فتفرقوا على أنه إذا جمعت عمارات بغداد واندر خرابها لم تكن أكبر من البصرة. وقد خرب طرف البصرة البري. واشتق اسمها من الحجارة السود كان يثقل بها مراكب اليمن فتلقى ثم وقيل لا بل حجارة رخوة تضرب الى البياض، وقال قطرب: من الأرض الغليظة. وحماماتها طيبة والأسماك والتمور بها كثيرة ذات لحم وخضر وأقطان وألبان وعلوم وتجارات، غير أنها ضيقة الماء، منقلبة الهواء عفنة عجيبة الفتن. الأبلة: على دجلة عند فم نهر البصرة من قبل الشمال، الجامع أعلى القرية، عامرة كبيرة أرفق من البصرة وأرحب. شق عثمان: بإزائها من نحو الجنوب، الجامع في آخرها حسن. وسائر المدن على أنهار من جانبي دجلة عن يمين وشمال وجنوب وشمال، كلهن جليلات كبار.
÷ سامرا: كانت مصراً عظيماً ومستقر الخلفاء في القديم، اختطها المعتصم وزاد فيها بعده المتوكل، وصارت مرحلة، وكانت عجيبة حسنة حتى سميت سرور من رأى ثم اختصر فقيل سرمرى، وبها جامع كبير كان يختار على جامع دمشق قد لبست حيطانه بالميناء وجعلت فيه أساطين الرخام ورش به وله منارة طويلة وأمور متقنة وكانت بلداً جليلاً والآن قد خربت، يسير الرجل الميلين والثلاثة لا يرى عمارة وهي من الجانب الشرقي وفي الغربي بساتين، وكان قد بنى ثم كعبة وجعل طوافاً واتخذ منى وعرفات، غرّبَهُ أمراء كانوا معه لما طلبوا الحج خشية أن يفارقوه، فلما خربت وصارت الى ما ذكرنا سميت ساء من رأى ثم اختصرت فقيل سامرا. الكرخ: مدينة متصلة بها، وأعمر منها من نحو الموصل، وسمعت يوماً القاضي أبا الحسين القزويني يقول: ما أخرجت بغداد فقيهاً قط إلا أبا موسى الضرير، قلت: فأبو الحسن الكرخي، قال: لم يكن من كرخ بغداد وإنما كان من كرخ سامرا.
فأما البصرة فقد تمّ احتلالها، وأما سامراء فتنتظر!
مريم شقير في سن القريض!
… ولأن »الشاعرة« في مريم شقير ابو جودة قد تعسرت ولادتها فتأخر الاعتراف بها، فإن القلم الذي ترعرع في أحضان الصحافة الفنية والاجتماعيات، على وجه الخصوص، يحاول تعويض الزمن الفائت بغزارة في الانتاج، فإذا بمريم تتهاطل شعراً وإذا كل عام ديوان او اكثر.
»غنت« مريم لبناتها، ثم للحفيدات، وها هي الآن تدخل حديقتها لتغني اسمها وأنوثتها باعتبارها »المرأة«، »جلالة الانثى اهازيج الكلام في دمها العطر، في فمها السر«… بل »النساء جميعاً«… ولأن الادعاء جلل تستدرك مريم التي من ميس الجبل: »… ما من امرأة إلا وفيها نساء الارض تختصر«! لكنها تعود الى المعنى ذاته تؤكده بلا تعب: »اني انا الكل لا نصف تراوغه ولست ضلعاً كسيراً فيك يكتمل«.
تندفع مريم التي تحب كل الناس، في نرجسيتها الآن الى منتهاها، وإن اعطتها قناع الدفاع عن حقوق المرأة، التي كانت عند مريم »فائضة« دائماً عن نصيبها »الشرعي« و»المدني« المنسجم مع آخر صيحات اسقاط التمييز بين الجنسين:
»نحتاج وقتاً للحوار / نحتاج ان ينسى الرجال للحظة / ان النساء جميعهن العورة الانثى / ويحفظها الستار.
وبأن نهر العفة المخبوء لا يبقى مصوناً دون ان يحرسه السيف الذكوري الذي يأبى الانكسار«!
استفاقة متأخرة على »استعباد الذكورة للحريم« بينما »شهريار« صار مهرجاً تعبث بأساطيره الشهرزادات التي تقتل كل منهن ألف رجل في الليل الواحد، ومريم تعرفهن وتعرف الضحايا.
مع ذلك يبقى صحيحاً التساؤل: »فلماذا الرجل الشرقي يقتل نصفه الثاني فيبكي كي ينام«؟!
هي مريم، الجدة، »الحاجة«، العرافة الآن، قد اصابتها لوثة الانتقام لجنسها، بغير مناسبة، لأنها لم تكن في اي يوم »حرمة«، بل هي »الأم البتول« التي تحتفل اليوم بعيد مولدها الألف:
»لا شهرزاد أنا تغفو على هلع / ولست ليلى التي في عشقها خبلوا«.
وهي التي: »تقتات من جسد الكلام / وتصنع العشاق من ورق ومحبرتها حقول / وتجلس في كتاب الشعر يكتبها الهديل«.
على ان هذا كله لا ينسي مريم »سيد العشاق« الذي هو الذي خلاّها انثى، وهو الذي حررها في جسدها، وهو الذي جعلها كل النساء.
في »حديقة مريم« المهداة لأمل نجار نكتشف وجهاً جديداً لهذه التي لها ألف قلب، مريم شقير: انها قد بلغت سن القريض… وأجمل الكلمات ما ليس تقول!
خيمة للحب والمقاومة..
تناثرت خيامك في المدينة فجعلتها مضارب بدو يرحلون فلا يغيبون..
صار للمدينة بعض ملامحك.. ولكأنها استحمّت بعطرك فبات لمهاجع المواعيد المختلسة شيء من شميمك.
لكِ الليل تسرحين فيه وتمرحين وكأنكِ تمسكين بمفاتيح فجره فلا يطل إلا عبر خيمتك وبإذن من الحارسين القائمين عند الباب يذبان النوم عن العيون المثقلة بالعشق.
في كل حي من أحيائها أثر منك يهمس للعابرين أن اذهبوا إلى حبكم سالمين، فالحب جنة الحياة الدنيا من لم يعرفه لم يدخلها، ومن دخلها سما حتى كاد يصير شاعراً أو نبياً..
في زمن الحرب تصير خيمتك حصني ومتراسي، فالحب روح المقاومة ورمحها…
الوطن أحلام وذكريات وخمائل مواعيد وخيمة للعشق أيضاً.
الوطن مساحة حب، وأعظم المقاتلين هم العشاق الذين يأخذهم حبهم إلى الشعر!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
المدن ليست مجرد بنايات وشوارع ومحلات تجارية ومكاتب للشركات. المدن ببشرها.. وهناك مدن بلا قلب، باردة، عواطفها من زجاج…
أما بغداد فإن سيرتها ديوان عظيم لقصص حب خالدة. ألم تكن أميرة الشعر؟! وهل ينبجس الشعر إلا بقوة الحب! لولا الحب لما غنّى الإنسان ولما عرف الفرح… مدينة الفرح بالحب محاصرة الآن بليل الكراهية!