الصحافة وحدها لا تصنع ديموقراطية
يميل الناس في بلادنا الى تحميل الصحافة اكثر مما تطيق من آمالهم، وربما من أحلامهم… وقد يتحول هذا الميل الى عتاب وربما الى غضب والى اتهامات قاسية بتنكر الصحافي لرسالته، وبهربه من قدره: أي الاستشهاد من أجل الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان!
ويميل الصحافيون احيانا الى تعظيم ادوارهم، وادعاء القدرة على تغيير الكون، مفترضين ان سلاح الرأي يكفي لتفجير الثورة، او ان فضح المخبوء من ممارسات المسؤولين، حكاما على وجه الخصوص ومراجع وقيادات سياسية وحزبية ونقابية، يفتح الطريق الى التغيير المنشود.
فأما الناس فإنهم كلما تفاقمت خيبات أملهم من »المؤسسات« الديموقراطية ورموزها، الرسمية منها كالبرلمان، او الشعبية كالاحزاب والنقابات، التفتوا الى الصحافة بالعتب او حتى بالغضب، فصارت مثل »طنسه« مطالبة بكل ما لم يستطعه الاوائل.
وأما الصحافيون فإن اليأس من الاصلاح او من التغيير قد يأخذهم الى الاستكانة، والتنصل من دور يتجاوز قدراتهم، وقد يدفع بعضهم الى المشاركة في اللعبة، بالانحياز مع المصلحة او مع الهوى.
وتبقى قلة قليلة تقبض كمثل كل المؤمنين على الجمر ملتزمة بشرف الرسالة، من ضمن وعيها بأنها تخطئ ان هي سبقت حركة التقدم في مجتمعها فاستحال على الناس ان يسمعوها، وتفقد مبرر وجودها ان هي تخلفت مكتفية بدور الشيطان الاخرس، وتحت شعار: ناقل الكفر ليس بكافر.
* * *
هل الصحافي صانع أحداث أم انه مبشر او نذير ثم مواكِب بالشرح والتفسير، وربما بالاعتراض والنقد المنير؟!
هل الصحافة صوت صارخ في البرية،
أم الصحافي مجرد صدى للسياسي (والاقتصادي) قد يصل الى حد امتهان الترويج، او قد يندفع بالمعارضة الى حدود التشهير؟!
هل الصحافة إخبار وإعلام، ام انها منتدى للحوار، ومساحة للرأي والرأي الآخر، ومنارة ثقافية، وجهاز كشف للحقائق التي تطمسها المصالح او الاغراض، أم هي مزيج من ذلك كله؟
هل الصحافي قيادة سياسية في البلاد، يحاسب على القصور والتقصير، أم انه في مطبوعته أداة تنوير، يقدم المعلومة الصح ويكشف الغلط تاركا لمؤسسات اخرى، كالبرلمان والقضاء والاحزاب والتنظيمات الشعبية وكل ما يسمى، مجتمِعا، الرأي العام، ان يحاسب فيدين، او يصحح او يثبت بطلان التهمة؟!
* * *
في الظروف الصعبة التي تعيشها منطقتنا، ومن ضمنها بلادنا، ليست الصحافة صانعة أحداث. أقولها بأسف شديد، ولكنها الحقيقة ولو مُرّة.
ان الصحافة مهنة سياسية، فكيف يمكن ممارستها إذا ما تم تعطيل السياسة او تجميد حركة الصراع الفكري، او فرض الشلل على العمل الحزبي والنقابي، او صارت الغلبة للغرائز الطائفية والحساسيات المذهبية؟
الجو الطائفي يغتال الحقائق.
كيف تحاكم الموظف اللص او المرتشي او المقصر اذا ما خفتَ من ان يذهب الاتهام الى طوائف هؤلاء لا الى اشخاصهم.
إن الأمثلة طرية في أذهان اللبنانيين بعد (الملفات والمحاكمات تحت عنوان التطهير والاصلاح الاداري).
بل كيف تحاسب القيادات السياسية اذا ما قدمتَ طائفة الرئيس على مهام منصبه السامي، فصار نقد رئيس الجمهورية مثلا تعريضا بالموارنة، ونقد رئيس المجلس اهانة للشيعة، ومحاسبة رئيس الحكومة تحقيرا للسنة؟!
ثم… كيف تناقش البطريرك الماروني او المفتي السني او رئيس المجلس الشيعي او شيخ عقل الدروز او مطران الارثوذكس، الخ، وفي وجهك سَد من حصانة المرجعية، يطلق لسانه ويده، ويحجر على رأيك حتى لا تُتهم بإيقاظ الفتنة (التي كانت نائمة) وتحل عليك لعنات المراجع جميعا؟
الطائفية تلغي الديموقراطية، وتبطل عمل الفكر، وتجعل حق الاختلاف إثارة للنعرات… فكيف تكون صحافة؟!
ثم، كيف تصنع الصحافة حدثا، اذا كان الرؤساء او الوزراء مثلا يتصارعون فيسرب بعضهم ما يلائم مصلحته من الوقائع، بينما يسرب الثاني وقائع اخرى مناقضة، ويتبرع الثالث بتصحيح ما سربه رفيقاه او بتكذيبهما معا؟!
* * *
سنونو واحدة لا تصنع ربيعا،
والصحافة وحدها لا تصنع ديموقراطية.
فالديموقراطية حصيلة نضال طويل لبناء مجتمع موحد الاهداف وان تعددت ضمنه الآراء والاجتهادات.
الصحافة، في احسن الحالات، احدى مؤسسات الديموقراطية. لكن غياب المؤسسات السياسية الأم يفرض على دورها إما الضمور بالعجز وإما ادعاء ما لا تقدر عليه ومحاولة تعويض الغائبين، وهو ما يتجاوز طاقتها.
وفي مجتمع تكاد الخلافات فيه تصل الى البديهيات فإن الصحافة تكون أولى الضحايا: ألسنا نختلف على الشهداء، في لبنان كما في فلسطين؟
وأسوأ حكم على صحيفة ان يساق اليها الاتهام بالتحيز استنادا الى طائفة صاحبها او الكتّاب فيها، فإذا لكل كلمة معنى غير المقصود بل غير معناها الاصلي.
ان الصحافة لا يمكن ان تكون أقوى من مجتمعها.
لا صحافة في بلد يخاف حاكمه من شعبه، ولا في بلد حاكمه أقوى من شعبه وأضعف من عدوه.
ولا صحافة حرة في مجتمع منقسم على البديهيات، ومسمَّم بالغرائز الطائفية التي هي في حقيقتها استثمارات سياسية.
الصحافة القوية دليل على قوة المجتمع وسلامته وحصانته.
واعترف بأن صحافتنا ضعيفة، لأن مجتمعنا مريض وضعيف.
لقد عشنا كصحافيين، قبل الحرب، فترات من الازدهار… لان الصراع في منطقتنا، ومن ثم في بلدنا، كان سياسيا، وبأدوات سياسية.
كانت بيروت المنتدى الثقافي للوطن العربي، وكانت صحافتها صحافة العرب، بيسارهم واليمين، بالهاشميين والسعوديين والناصريين والبعثيين والماركسيين، وكانت الشارع الوطني العربي، كما كان »شارعها« يمور بحركات الاعتراض والاحتجاج والمطالبة بالحقوق الطبيعية للمواطنين في دولة تأخذ بالنظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني.
اليوم منطقتنا مريضة، وتكاد لا تقوى على الوقوف.
وبلادنا تعيش حالة من البطالة السياسية المفجعة، تطيفت الاحزاب فأنهت الصراع العقائدي، ببعديه السياسي والطبقي، وشرذمت النقابات، وأضعفت مؤسسات المجتمع الاهلي.
صار همنا ان نتجنب الفتنة، وان نتحاشى الاصطدام برموز السلطة حتى لا نحاسب من خارج السياسة واصول المهنة.
لعل جيلنا قد تعب،
لكن أسباب القصور في اداء الواجب المهني المشرّف لكل المنتسبين الى مهنة الصحافة، سياسية بالدرجة الاولى.
وما استمر غياب السياسة او تراجعها لحساب الطوائف، فستظل صحافتنا ضعيفة، تدل بضعفها على علة تنهش وحدة مجتمعها، وعلى محاذير تمنعها من ان تقوم بمهمتها التي سبق لها ان أدتها بنجاح، ذات يوم مضى.
لا صحافة قوية في مجتمع هش، وفي دولة ضعيفة، وفي منطقة يقرَّر مصيرها خارجها.
ولا صحافة قوية في غيبة قوى الاعتراض والتغيير، تلك التي تحمل الاحلام بغد افضل وتناضل من اجلها، وتفيد من الصحافة كسلاح هجومي لاقتحام موانع التقدم، وأخطرها الطائفية التي تصير استثمارا مجزيا لها من يدافع عنها وإدامتها ولو أدى الأمر الى التضحية بآخر مواطن.
إن محاسبة الصحافة هي، بنسبة أساسية، محاسبة للذات. فلنباشر المحاسبة.
كتاب الخلسة… الجاهينية!
لولا الخوف من التورط لكسبت الصحافة كاتبا متميزا بشفافية الروح وجزالة العبارة وعمق الارتباط بالتراث الديني والثقافي.
لكن امين الحافظ خضع لغواية السياسة، او انه ذهب الى ميدانها الملغم مرغما، فنُسب اليها بغير ان يكون جاهزا لممارستها بالعدة التقليدية التي تجافي طبيعته.
وهكذا بقي امين الحافظ، هنا ايضا، على حافة البئر: لا هو شرب فارتوى، ولا سقى الناس فروى ظمأهم الى ما يخرج عن التقليد القاتل للمواهب.
أجمل ما في كتاب الخلسة »مع الناس« الذي اعادت ليلى عسيران إصداره، تكريما للزوج الممتنع عن الكتابة والممنوع عن السياسة، انه ذكّرنا بغائبين: قلم أمين الحافظ، أمد الله في عمره، وريشة احد عباقرة فن الكاريكاتور العربي واحد أروع الشعراء الشعبيين في مصر، وأحد حداة الثورة، بكلماته ذات الوهج الانساني النبيل: صلاح جاهين.
لعل الذكرى تنفع »أبا رمزي« فيعود الى الناس بقلمه من خارج السياسة: بالفن والثقافة والمشاهدات والانطباعات، وهي »جاهينية« في بعض وجوهها، و»عسيرانية« في بعضها الآخر. لكنها »حافظية« بمجملها.
الفرح في »حوش الذهب«
الفرح لا يحتاج الى بطاقات دعوة، والنشوة لا تقف على الأبواب في انتظار ان يؤذَن لها بالدخول. وفي »حوش الذهب« تجمع المصادفات من فرّقهم النقص في فرص العمل وامتلاء الوقت بمواعيد البحث عمن يشتريه.
الأناقة جزء من الوظيفة، لكن المشاعر تبقى رهينة المحبسين: التوجس والخوف من الغلط، اذ لا تتسع لها المكاتب المبردة بأكثر مما تحتمل القلوب والحناجر التي تفضل الظمأ على الشرب من المياه المعلّبة التي لها طعم البلاستيك.
تطفئ اللقاءات المنظمة بين الأغراب المتنافسين على الامكنة المحدودة، التماعة العينين، ويبدد البحث عن الرزق اللغة الى مفردات متقاطعة، ويغوص الوجد في دوامة العلاقات اليومية الهشة التي سرعان ما تنشئ لمساراتها شبكة عنكبوتية تشكل بدلا من ضائع او تعويضا عن غيبة الأحبة والأمكنة الأليفة.
وتخوض العيون حروبا شرسة على ساحات الغيرة، بينما تنهمك العقول في معاركها الضارية على المرتبات والمواقع وضمانات الاستمرار ولو على حساب خبز الآخرين.
وفي حين تتناقص رجولة الرجال، فإن التنافس يستشري حتى القتال بين النساء على احتلال مرتبة الأنثى الأكثر استقطابا لأولئك الذين يريدون التعويض هنا عن تبعيتهم وانكسارهم أمام الوظائف المذهبة.
لا يستعيد الجمع شيئا من الإلفة والانسجام إلا مع الموسيقى والغناء والصوت الشجي الذي يحل الذكريات محل الوقائع، او يجعل التمنيات ترف بأجنحة الفراشات في سماء القاعة المقفلة على البحر وطيوف الأحبة القابعين على الضفة الاخرى البعيدة.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يسألني الناس عن الطريق الى الحب، فأعجب من غفلتهم. الحب كالنور والهواء، يملأ الفضاء ويظلّل الأرض جميعا. ضع قلبك في عينيك تجد حبيبك. افتح صدرك للريح، افتح عينيك للنور، فإذا حبيبك أمامك، ومِن حولك، وفيك.