حملت شهادة تخرجي في المعهد العالي للسينما بالقاهرة سنة 1966، وتوجهت إلى مكتب النجم السينمائي أحمد مظهر. كان صديقه المنتج روفائيل جبور، نسيب والدتي، قد رتّب لي ذاك اللقاء. لم أقصد فتى الشاشة الأول الشهير بصفته هذه، بل لأنني كنت سمعت أنه يستعد لأن يتحول إلى الإخراج السينمائي لأول مرة.
كان المحامي عادل كامل أعطى صديقه أحمد مظهر غرفتين في مكتبه الكائن في شارع 26 يوليو في وسط البلد مقراً لشركة الإنتاج الجديدة. استقبلني أحمد مظهر بدماثته المعهودة، وأطلعته على شهادة التخرج وفيها أنني الأول على الدفعة، وأخبرته عن رغبتي في العمل معه كمتدرب. قال “إنت جيت في وقتك.. أنا استعد لإنتاج وإخراج فيلم “نفوس حائرة” وإنت ستساهم معي في السيناريو وتعمل مساعد مخرج أيضا”.
كان تصميم الفيلم أن يكون من أربع قصص قصيرة. كتب أحمد مظهر ثلاثا منها: “هروب”.. “روح إنسان”.. “ترانسفرنس”.. وكلفني كتابة الرابعة “بنت الليل”. وبعد وضع اللمسات الأخيرة على السيناريو والحوار بدأنا الخطوات التحضيرية للإنتاج والإخراج. وأخبرني مظهر أنه اكتشف وجها جديداً، فتاة رائعة سيكون لها مستقبل في السينما المصرية، إسمها ميرفت أمين!
تأخرت تجهيزات الإنتاج وفي الأثناء عرض الممثل أحمد رمزي على ميرفت أمين المشاركة في فيلم من إنتاجه. وخشي مظهر من عواقب ذلك الاقتراح، خصوصاً وأن ميرفت أمين كانت تستعجل الظهور في السينما. آنذاك كان أحمد مظهر يملك حقوق إنتاج قصة “التفاحة والجمجمة” للكاتب محمد عفيفي في فيلم سينمائي. عرض على أحمد رمزي دورا رئيسياً في الفيلم، ووقع العقد معه، وفي المقابل تنازل رمزي عن التعاقد مع ميرفت أمين.
سافرت إلى لبنان وأقمت بصفة دائمة في بيروت واعتذرت عن مواصلة العمل في الفيلم. أتتني رسالة من أحمد مظهر أخبرني أنه بعد تصوير القصص الثلاث أصبح الفيلم في حدود 85 دقيقة وسيكتفي بها، لأن تصوير القصة الرابعة سيجعل الفيلم أطول من المألوف. وبعد انتهاء مونتاج الفيلم عُرض “نفوس حائرة” سنة 1968 وفيه ميرفت أمين بطلة لأول مرة وأحمد مظهر مخرجاُ لأول مرة.
كرر أحمد مظهر تجربة الإخراج مرة ثانية وأخيرة سنة 1976 في فيلم “حبيبية غيري” مع النجمة نادية لطفي. وكان من المفروض بين الفيلمين أن يخرج فيلما في بيروت في شتاء 1968 من إنتاج وبطولة عايدة هلال. هذا الفيلم أبصر النور لكن من دون مشاركة أحمد مظهر فيه!
كانت الممثلة اللبنانية عايدة هلال عادت واستقرت في لبنان بعدما شاركت في القاهرة بالتمثيل في نحو 15 فيلما مصرياً أبرزها “شهيدة الحب الإلهي” أمام رشدي أباظة وفيه أدّت دور رابعة العدوية. وفي بيروت أسست شركة للإنتاج السينمائي. أخبرتني أن زوجها الصحافي المصري عبود فودة كتب سيناريو فيلم عنوانه “مريام الخاطئة”، وأنها بصدد البحث عن مخرج وبطل من مصر. رشحتُ أحمد مظهر ليقوم بالمهمتين. هو نجم مشهور وقد جرّب الإخراج، وبمشاركته ثمة توفير في مصروفات السفر والإقامة، التي ستكون لشخص واحد بدلاً من شخصين. لقي الاقتراح ترحيبا فاتصلت بأحمد مظهر وأخبرني أنه آت إلى بيروت لتمثيل دور البطولة مع مريم فخر الدين في فيلم “لقاء الغرباء” للمخرج سيد طنطاوي. كنتُ أثناءها أعمل مساعداً ثانياً في فيلم “الحب الكبير” مع المخرج بركات (فريد الأطرش، فاتن حمامة، يوسف وهبي). لم أكمل عملي في هذا الفيلم لكي أتفرغ لفيلم “مريام الخاطئة” وفيه سأكون المساعد الأول للمخرج.
أثناء مناقشة السيناريو اختلف مظهر مع عبود فودة على طريقة كتابة بعض المشاهد، وحاول أن يقنعه بوجهة نظره غير أن الأخير لم يقتنع. فما كان من أحمد مظهر إلا أن أعلن صراحة أنه لن يقبل إخراج مشاهد يعتبرها غير مبررة. أدى اختلاف الرأي إلى قطيعة. وتمسك مظهر برأيه واعتذر عن مواصلة العمل وقفل عائدا إلى القاهرة. وكان أن تولّى سيمون صالح إخراج الفيلم وقام إيهاب نافع بدور البطل. (وهو أول أفلام سيمون صالح كمخرج بعدما عمل طويلا كمساعد لكبار مخرجي السينما المصرية).
اكتفى أحمد مظهر بفيلمين فقط في رصيده الفني كمخرج. وفي المسرح رصيده مشاركتان أيضا. الأولى في مسرحية “التفاحة والجمجمة” وكان تنازل عن انتاجها سينمائيا فقام حسن يوسف وإيمان ببطولة الفيلم الذي أخرجه محمد أبو سيف سنة 1986. والثانية في مسرحية “حب لا ينتهي” أمام سهير البابلي. ولما سألته عن أول مشاركة له في مسرحية “الوطن” سنة 1948 ضحك وقال: “ليست مشاركة بالمعنى الصحيح. يمكن أن نقول أول علاقة لي بمهنة التمثيل. ولو أني كنت في هذه المسرحية كومبارس! لا يفتح فمه! ولمدة ليلة واحدة فقط! مثلت دور ضابط إنكليزي يبارز ضابطا آخر. كان المخرج هو الشهير زكي طليمات وكانت المسرحية من بطولة يحي شاهين وحسين رياض”.
ومن باب الفروسية دخل إلى السينما. كان ما يزال في الخدمة في سلاح الفرسان بالجيش المصري عندما استدعاه المخرج إبراهيم عز الدين سنة 1951 لدور “أبو جهل” في فيلم “ظهور الإسلام”. طلب الضابط أحمد مظهر إذنا من قيادة الجيش وحصل عليه. وبعد تأدية الدور عاد إلى قواعده مديرا لمدرسة الفروسية لكن التمثيل السينمائي استهواه. إلى أن التقى بالصديق الضابط السابق عز الدين ذو الفقار وكان قد شاهده في فيلم “ظهور الإسلام” وعرض عليه دورا رئيسيا في فيلم “ردّ قلبي” الذي كان يستعد لإخراجه عن قصة يوسف السباعي، أقدم الأصدقاء وأقربهم إلى قلب أحمد مظهر.
وكان يوسف السباعي زميل الصف اثناء الدراسة في الكلية الحربية. بل وثمة زملاء اشتهروا في الحياة السياسية المصرية ومنهم رئيسان: جمال عبد الناصر وأنور السادات. ومن الزملاء أيضا حسين الشافعي وعبد اللطيف البغدادي. هؤلاء جميعا خريجو سنة 1938 بعضهم في الربيع وبعضهم في الخريف. وحين عُرض عليه الدور في “ردّ قلبي” سنة 1956، كان جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية وبقية الزملاء أعضاء في مجلس قيادة الثورة. طلب مظهر تصريحا من قيادة الجيش لكن لم يحصل عليه. تفاجأ وعتب لأن وزير الدفاع كان صديقه عبد الحكيم عامر.
ظلت علاقة أحمد مظهر بالرئيس عبد الناصر ومن بعده السادات وكل “الضباط الأحرار” علاقة مودة، ولم يكن بحاجة إلى منصب أو إلى أي دعم رسمي. ظل بعيدا عن السياسة. وفي عيد العلم سنة 1967 صعدت طفلتان شقراوان توأم إلى المنصة وقدّما الورد إلى الرئيس عبد الناصر، كما جرت العادة أن يقدم أطفال الورود لرئيس الدولة. وقبل أن تبتعد الطفلتان أمسك بهما المشير عبد الحكيم عامر وكان بجوار الريّس وهمس في أذنه فاستدعى الريس الطفلتين وقبلهما. كنت شاهدت ذلك في التلفزيون لدى نقل الاحتفال على الهواء. ومن أحمد مظهر عرفت أنهما ابنتاه وهذا ما همس به المشير في أذن الريّس.
طغى حب العمل في السينما على الخدمة في القوات المسلحة فقدم استقالته من الجيش وهو برتبة عقيد، وعمل موظفا إدارياً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وكان برئاسة يوسف السباعي. لكنه قبل المشاركة في “ردّ قلبي” كان قد ظهر في فيلم “رحلة غرامية” من إخراج محمود ذو الفقار الأخ الأكبر لعز الدين. كتبوا في عناوين الفيلم مع “الوجه الجديد” حافظ مظهر! وحافظ هو اسم والده. وبهذا الاسم ظهر في أفلامه الأولى: في “الطريق المسدود” و”ردّ قلبي” و”حتى نلتقي” أمام فاتن حمامة التي كانت قد مثلت معه في “الطريق المسدود” وشاهدته في “ردّ قلبي” فرشّحته إلى المخرج بركات.
استقال من الوظيفة وقرر التفرغ للتمثيل بعدما لقيت أدواره الأولى إعجابا لدى الجمهور والمنتجين والمخرجين. وفي أفلامه الأولى في عام 1958 أصبح اسمه الحقيقي أحمد مظهر يتصدر ملصقات الدعايات، في “جميلة” (أمام ماجدة التي لعبت دور المناضلة الجزائرية، وهو من إخراج يوسف شاهين) و”دعاء الكروان” (أمام فاتن حمامة وإخراج بركات). وانطلقت مسيرته السينمائية وسطع نجمه بطلا في أفلام أدّى فيها أدوارا مختلفة الألوان.
من الأفلام السياسية: “جميلة”.. “بورسعيد”.. “عمالقة البحار”.. ومن الأفلام الدينية: “ظهور الإسلام” .. “وا إسلاماه”.. “الشيماء”.. ومن الأفلام الكوميدية: “الأيدي الناعمة”.. “لصوص لكن ظرفاء”.. “العتبة الخضراء”.. والأفلام المقتبسة عن روايات الأدباء: “ردّ قلبي” و”نادية” (يوسف السباعي).. “النظارة السوداء” و”الطريق المسدود” (إحسان عبد القدوس).. “دعاء الكروان” (طه حسين).. “غصن الزيتون” (محمد عبد الحليم عبد الله) “شفيقة ومتولي” (صلاح جاهين) “القاهرة 30″ و”الشحاذ” (نجيب محفوظ).
مع نجيب محفوظ ارتبط أحمد مظهر بصداقة من نوع آخر. كلاهما كان ركناً من أركان شلّة الحرافيش، وهي حلقة من مجموعة أصدقاء يجتمعون مرة في الأسبوع، عصر يوم الخميس، ويتبادلون الأحاديث في الآداب والفنون والشجون. وأعضاء الشلة جميعهم من أهل الأدب والفن. منهم: المخرج السينمائي توفيق صالح، والرسام بهجت عثمان، ومجموعة المواهب صلاح جاهين، والأديب والصحافي الساخر محمد عفيفي، والمحامي عادل كامل، والأخير أديب أيضاً وهو مؤلف رواية قيّمة بعنوان “مليم الأكبر”. ومن طريق أحمد مظهر تعرّفت على هؤلاء جميعا، ما عدا توفيق صالح الذي كنت أعرفه من قبل إذ كان أستاذي في معهد السينما. وثمة ما لفت نظري، هو أنه برغم الصداقة القوية بينهما لم يشترك أحمد مظهر كممثل في أيّ من الأفلام التي أخرجها توفيق صالح!
ولم يشترك مع أخته الصغرى فاطمة مظهر سوى في فيلم واحد عنوانه “الاتحاد النسائي” مع مديحة كامل ومن إخراج ناجي أنجلو. وتأخر ذلك اللقاء الفني بين الأخوين إلى سنة 1984. وراجت الشائعات تقول إنه حارب أخته بسبب اشتغالها بالتمثيل. وسمعت منه وجهة نظره، قال: “أولاً أنا أكبر منها بـ 26 سنة. نحن من جيلين مختلفين. كل ما في الأمر أنني نصحتها في البداية أن تكمل دراستها الجامعية قبل أن تحترف التمثيل”.
أثناء تجهيز العمل في فيلم “نفوس حائرة” دعاني أحمد مظهر في فبراير 1967 إلى العزبة التي يمتلكها على مقربة من أهرامات الجيزة، وفيها يمارس رياضة الفروسية والرماية. وكان قد زرع فيها الفواكه والورود. وكان آنذاك من مصدّري الورود إلى أوروبا. في إحدى زياراتي اللاحقة إلى القاهرة، سنة 1989، أمضيت يوما في العزبة برفقة المخرج توفيق صالح. وكان مظهر قرر الاستغناء عن زراعة الورود “لأنها متعبة وما بقتش تجيب تمنها”.
مات أحمد مظهر في 8 مايو / أيار 2002 عن عمر ناهز الخامسة والثمانين. وقد شيعت جنازته بشكل مهيب من مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، ودفن بمقابر باب الوزير قرب قلعة صلاح الدين الأيوبي، “الناصر” الذي برع في تأدية شخصيته في الفيلم الشهير.