عرفت السودان ايام حكمه المدني، حيث كانت الاحزاب السياسية تعمل بحرية، وتتنافس فيما بينها على إحراز الاكثرية، شعبياً وبرلمانياً: حزب الامة، والحزب الشيوعي، وتنظيمات جهوية، ونقابات عمالية ومهنية مؤثرة تشكل ركيزة للحياة السياسية عموماً ولذلك النوع من الديمقراطية الشعبية الطبيعية التي تجمع ولا تفرق..
ولقد شاركت في أكثر من لقاء كان فيه حزبيون من كل لون، يتباسطون بإخوة ومن دون عقد الخصومة.. والتقيت النقابي الممتاز والمميز بنضاله الشفيع احمد الشيخ.
كذلك عرفت القائد الشيوعي البارز عبد الخالق محجوب، وتكررت لقاءاتنا في الخرطوم وكذلك في القاهرة. واذكر انه جاء مرة إلى القاهرة، وكان الحزب الشيوعي في السودان شرعيا.. وهكذا فانه كان يحمل في يده الصحيفة الناطقة، آنذاك، باسم الحزب الشيوعي، وتشير إلى ذلك في صدر صفحتها الاولى. ولقد اقترب منه رجل الامن المكلف بمراقبة القادمين فلمح في يده الصحيفة، فاستأذنه أن يسمح بها للحظة، فناوله الصحيفة، ليعيد اليه “المخبر” الصحيفة بعد لحظات، ويسأل: لا مؤاخذة ده جرنال شيوعي!. ورد عبد الخالق محجوب: ايوه جرنال شيوعي! فقال المخبر ببساطة: ليه، هو انت لا سمح الله شيوعي؟ أجاب عبد الخالق: ايوه، ومش بس شيوعي.. انا الأمين العام للحزب الشيوعي في السودان.
استأذن المخبر طالبا من عبد الخالق الا يغادر مكانه، ودخل إلى بعض المكاتب، فجاء بعض رجال الامن واقتادوا محجوب إلى قلب القاهرة، حيث يقع مقر البوليس السياسي… وركبوا المصعد إلى مكتب رئيس ذلك الجهاز، وقرعوا الباب ففتح من الداخل، وتقدم عبد الخالق من “مضيفه” واذا بالرجل يصيح مرحباَ: اهلا عبد الخالق.. اهلاً بالرفيق القائد.. اهلاً بالصديق القديم!
وتقدم مدير البوليس السياسي مرحباً، وقال معتذراً وهو يضحك: آسفون يا رفيق.. لم يعرفك العسس، لأنهم مستجدون، فاعذرنا! في أي حال، لقد تبلغنا قبيل دخولك علينا أن “الرئيس” ينتظرك بعد ساعة، ويشرفنا أن ارافقك اليه!
روى لي عبد الخالق محجوب انه زار القاهرة، في اعقاب النكسة، (5 حزيران 1967) فوجد سامي شرف في انتظاره في المطار، وأخذه رأساً إلى منزل الرئيس جمال عبد الناصر في منشية البكري.. وبعدما استمع محجوب إلى حديث “الرئيس” تولى الكلام فقال:
ـ لقد عرفناك واحببناك وآمنا بك كقائد عظيم وصديق كبير.. وأعرف أن لديك العديد من الملاحظات حول السلوك السوفياتي عشية الحرب ثم خلالها، ولك مطالب كثيرة تتجاوز الماضي إلى المستقبل. وقد تكون في حرج من ابلاغ السوفيات بها، والأهم ما يحتاج الجيش المصري للرد على هذه النكسة بما يحمي شرف الامة وليس فقط كرامة الجيش المصري..
صمت محجوب لحظة، قبل أن يضيف: اما انا يا سيادة الرئيس ، فأستطيع، كشيوعي، أن اكون صريحا مع السوفيات إلى حد القسوة.. فهذه الهزيمة التي ضربت الامة العربية في كرامتها وعزتها، قد اصابت ايضاً الاتحاد السوفياتي في سلاحه ودوره وسمعته في العالم اجمع.. ولسوف يتقبلون مني، كقيادي شيوعي أعرفهم ويعرفونني منذ دهر، ما قد يمنعك الخجل أو الحرص على العلاقة وتعويض خسائرك في السلاح، بينما لا اجد أي حرج في مصارحتهم بهذه الحقيقة، التي قد تكون جارحة.
ها هو شعب السودان يملأ بغضبه شوارع الخرطوم “الخرطوم بحري وام درمان” محافظاً على سلمية تظاهراته وعلى روح الاخوة مع “جيشه” الوطني الذي امتنع، حتى هذه اللحظة عن قمع المتظاهرين ومطاردتهم بالرصاص، كما جرى لغيره في اقطار عربية أخرى. مع أن المتظاهرون يعتصمون الآن امام مقر قيادته.. وها هو الشعب يجاهر برفضه استمرار النظام، تماماً مثل شعب الجزائر الذي يخوض حراكا سلمياً رائعاً، هو الآخر ويجاريه الجيش الجزائري في سلميته، فيمتنع ـ أقله حتى هذه اللحظة ـ عن إطلاق النار على المتظاهرين وقتلهم في الشارع، بقصد اغتيال مطلبهم المشروع.
ولا شك أن سائر ابناء الشعب العربي يتابعون هذه المسيرات السلمية الرائعة، سواء في الجزائر بداية، ثم في السودان الآن، باعتزاز وغبطة، متمنين أن تكون ـ او ان تتمكن من ـ وضع نقطة النهاية لعصر الهزيمة والاستكانة والتسليم بالاحتلال الاسرائيلي وكأنه قدر لا مفر منه.
لقد كادت جماهير هذه الامة تنسى “الشارع” الذي طالما احتضن انتفاضاتها وثوراتها… قبل أن تصادره الدكتاتوريات فتقفله بالحديد والنار، فارضة على الجماهير أن تعيش القهر خلف ابواب مغلقة.
إن التزامن بين هاتين الانتفاضتين الشعبيتين، الرائعتين في سلميتهما كما في وضوح شعاراتهما، والعداء الاكيد للدكتاتور، والعنوان الثابت للعروبة، فلسطين، والاصرار على ان يتولى الشعب اختيار قيادته، لا أن يعينها الاجنبي، والاميركي تحديداً، عبر “ترئيس” ضابط يرفع نفسه بنفسه ليقفز من عقيد إلى مارشال كما فعل حسني الزعيم (قائد اول انقلاب عسكري في سوريا) بعد الهزيمة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وما جاورها كما يفعل الآن مع هضبة الجولان، وكما يفعل غدا مع تلال كفرشوبا وسفوح جبل الشيخ في الجنوب اللبناني.
لقد كاد المواطن العربي يفقد ايمانه بأمته، بعد مسلسل التنازلات التي بلغت ذروتها بزيارة الرئيس المصري انور السادات للكيان الاسرائيلي، اثر حرب تشرين ـ رمضان ـ اكتوبر 1973، وخطابه امام الكنيست، واستسلامه لشروط العدو في مباحثات كمب ديفيد، تحت الرعاية الاميركية..
إن المواطن العربي يكاد يختنق بالهزيمة والشعور بالهوان، وهو يتساءل: هل كانت الثورات العربية، بدءاً من مصر، إلى سوريا، فإلى العراق، فإلى الجزائر، فإلى اليمن، مجرد اساطير وحكايات ملفقة ام كانت وقائع سطرت صفحات مجد في التاريخ الحديث..
إن الحراك الشعبي في كل من الجزائر والسودان بشارة خير للامة جميعاً ولحقها في المستقبل الافضل الذي يقدر ابناؤها على اشادته فوق ارضها بسواعدها، ومن دون مساعدة من المروجين لانتهاء زمن الثورات في عصر ترامب ونتنياهو وملوك النفط والغاز والرؤساء الذي احترفوا التنازل ليبقوا في السلطة ولو غيبت بلادهم عن القرار في مستقبلها..
إن الايام حبلى بأخبار التغيير.. وها هي الشعوب تكتب تاريخها بأيديها، أخيراً!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي