أحيت الانتفاضات الشعبية الحاشدة، ضد النظام القائم في الجزائر ثم في السودان آمالا عريضة عاش بها وعليها جيلان من ابناء هذه الامة الولادة في النصف الثاني من القرن العشرين، قبل أن يلتهمها اليأس او العجز عن انجاز التغيير المنشود.
كانت شعارات الوحدة والتحرير وانهاء مخلفات حقبة الاستعمار تملأ الافق، وهتافات الشباب في شوارع العواصم العربية تستولد وتزخم الامل بالتغيير، وتؤكد القدرة على صنع الغد الافضل والانتصار على قوى الاستعمار والرجعية واعداء الشعوب من اجل الحق في استعادة القرار الوطني وبناء المستقبل بالإرادة الوطنية والاحلام القومية العريضة.
في البداية كانت ثورة يوليو (تموز) العام 1952 في مصر تأكيدا للقدرة على التغيير الثوري، وهي التي تكاملت بالقرار التاريخي الذي اتخذه جمال عبد الناصر، في الذكرى الرابعة للثورة معلنا فيه تأميم قناة السويس..
ولقد تعززت هذه الثورة بانفجار الغضب في الجزائر على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي استطال لأكثر من مائة وخمسين سنة، فارضاً على الجزائريين هويته (من الدرجة الثانية) ولغته الفرنسية، ملغيا وجودهم وارادتهم في أن يكونوا “هم”. وكان طبيعياً أن تقف مصر الثورة إلى جانب الشعب الجزائري في ثورته من اجل استعادة هويته وبلاده لتكون له حقيقة.
بالمقابل، كانت دولة العدو الاسرائيلي قد وطدت اركانها بفضل الدعم الخارجي الذي تلقته، بوصفها تحقيقا لمشروع صهيوني لاستعادة “ارض الميعاد” يتكامل مع النزعة الغربية للسيطرة على المنطقة العربية، ذات الاهمية الاستراتيجية الفائقة، وذات الثروات الهائلة في صحاريها وبحارها، النفط والغاز.
…وهكذا تحالفت قوى الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا) مع الاستعمار الاستيطاني الجديد (اسرائيل، محتلة فلسطين ومهددة الامن القومي في الوطن العربي بأكمله..) فكان العدوان الثلاثي على مصر التي شاركت فيه الدول الثلاث، ولم تعترض عليه الولايات المتحدة الاميركية، واعترض عليه الاتحاد السوفياتي الذي ستتوثق علاقاته بعدئذ بمصر عبد الناصر، فضلاً عن سوريا..
ما بعد 1956 تاريخ عربي جديد، بين محطاته الكبرى قيام أول. دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث نتيجة اندماج مصر وسوريا في “الجمهورية العربية المتحدة” بقيادة جمال عبد الناصر في 22 شباط / فبراير 1958) وهي لم تعمر ـ مع الاسف ـ الا ثلاث سنوات ونصف، فانهارت في 28 ايلول / سبتمبر العام 1961.
كانت مصر عبد الناصر بمثابة المعين والداعم لثورة الجزائر التي حققت انتصارها التاريخي، في أيلول (سبتمبر 1962).. فاستعادت هويتها العربية معززة الموقف العربي والطموح إلى بناء المستقبل الافضل، لا سيما وقد رأى فيها قادة التيار القومي رداً على انتكاس دولة الوحدة، كما على العدوان الثلاثي وإعادة الاعتبار لوحدة الامة العربية وحقها في الغد الافضل.
هذه النبذة التاريخية الموجزة عن جزائر الثورة، “وجبهة الصمود والتصدي”، التي لم تنجح في تعويض غياب مصر بعد اتفاق كمب ديفيد الذي ذهب اليه الرئيس المصري انور السادات لإبرام “معاهدة صلح” مع العدو الاسرائيلي برعاية الرئيس الاميركي جيمي كارتر في 17 ايلول / سبتمبر العام 1978.
وهكذا تراجع الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية التي حاولت قيادتها ممثلة بياسر عرفات اعادتها إلى دائرة الضوء بإعلان “الدولة الفلسطينية” ومحاولة الحصول على اعتراف الدول ـ عربية واجنبية بها، لكن ذلك لم يعوض وهج القضية المقدسة، وانتهى به إلى التسليم باتفاق اوسلو مع العدو الاسرائيلي، والذهاب من بعد إلى واشنطن لتوقيع “السلام” مع رئيس الحكومة الإسرائيلية اسحق رابين في 13 ايلول /سبتمبر العام 1993 في البيت الابيض وبرعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون.
لا بد من الاشارة هنا إلى أن اسرائيل كانت قد اجتاحت لبنان في صيف 1982 واحتلت جنوبه وبعض بقاعه وصولاً إلى العاصمة بيروت، حيث كانت تقيم قيادة منظمة التحرير بفصائلها المقاتلة، على اختلافها بقيادة ياسر عرفات.. ثم كان أن تدخلت الادارة الاميركية عبر موفدها الخاص فيليب حبيب لعقد اتفاق اخرجت بها المنظمة وقيادتها من لبنان إلى تونس، بينما تم توزيع مقاتليها على عدد من الدول العربية التي قبلت “باستضافتها”..
وبعد الاتفاق بين القيادة الاسرائيلية والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في واشنطن برعاية بيل كلينتون، سمحت تل ابيب بعودة مجموعات من هؤلاء المقاتلين الذين كانوا قد باتوا كهولاً إلى انحاء محددة، وتمت رقابة مشددة، إلى بعض المناطق في الضفة الغربية، في ظلال اعلان قيام “دولة فلسطين”… وهذه مبالغة بل خديعة لفظية لان فلسطين ما تزال تحت الاحتلال، و”السلطة الفلسطينية” رهينة لا يستطيع رئيسها أن يتحرك من دون اذن اسرائيلي مسبق..
…وأما السودان والثورة التي تتفجر الآن فيه مجدداً، فان بلاد الخير ذات تاريخ مضيء في النضال من اجل الحرية. اذ كانت خلال الستينات والسبعينات سنداً لمصر، ولحركة التحرر العربي عموما، خصوصاً وان فيها حركة سياسية ناشطة، لعل بين ابرز عناوينها “حزب الامة” بقيادة الزعامة التاريخية لآل المهدي، والحزب الشيوعي السوداني، وهو احد ابرز واعرق الاحزاب الشيوعية في الوطن العربي، وكان لزعيمه الراحل عبد الخالق محجوب علاقة مميزة مع الرئيس جمال عبد الناصر.. وكان الحزب الشيوعي ومعه الاتحاد العام للنقابات العمالية بقيادة الراحل الشفيع احمد الشيخ دور مؤثر في الحياة العامة في السودان.
على أن عدوى الانقلاب العسكري قد ضربت هذا البلد ذا النيلين (الابيض والازرق) والشاسع بمساحته، والمفتوح امام التدخلات العربية والخارجية.. وهكذا توالت فيه الانقلابات العسكرية حتى استقرت، مؤخراً فيه، ولمدة 30 سنة متصلة، بين يدي المشير عمر البشير الذي اتقن اللعب على الحبال، بين مصر والسعودية ومعها دول الخليج، وبين الروس والاميركيين، وصولاً إلى الصين. وكان ملفتا أن يقوم قبل شهرين تقريباً بزيارة مفاجئة لسوريا التي “تقاطعها” معظم الدول العربية، بعد “طردها” من جامعة الدول العربية باقتراح قطري “صدقت” عليه الجامعة العربية.
المهم، أن الشعب السوداني مقيم منذ اسبوعين في شوارع الخرطوم والخرطوم البحري، يطالب بإسقاط النظام، لا يغادر المعتصمون الشارع ليلاً ونهاراً.. وقد نجح هذا الحراك السلمي الممتاز في “اقناع” الجيش بخلع البشير، وتشكيل مجلس رئاسي مؤقت لمدة سنتين، وبالتالي ارجاء تسليم السلطة “للمدنيين”. لكن “الشعب” رفض هذه المخادعة، واستمر في حراكه، يحتل الشوارع بشبابه وصبايه، بأحزابه ونقاباته مطالباً بإنهاء الفترة الانتقالية في اقرب وقت، وتسليم الحكم “للمدنيين”، والدعوة إلى انتخابات عامة تعيد اعتبار الديمقراطية إلى التي عبر عنها الشعب السوداني افضل تعبير طوال مدة اعتصامه وبقائه في الشارع منذ شهر او يزيد..
وبالتأكيد فان شعب السودان، صاحب التجربة السياسية العريقة، سينتصر بإرادته الحرة في اعادة بناء الحكم الديمقراطي ومؤسساته التشريعية والتنفيذية، متخطياً “تحايل” العسكر بخلع من تولى اذاعة البلاغ الرقم واحد بضابط آخر، واستمرار التماطل في تسليم السلطة لأهلها، عبر انتخابات نزيهة في اقرب وقت.
هل هي مبالغة أن نفترض أن هذه الامة تستيقظ الآن بعد موات استطال زمنه حتى نسيت امكاناتها وقدرتها على التغيير، طلباً للغد الافضل؟
إن شعبين عربيين يقيمان الآن في شوارع الجزائر وقسنطينة ووهران وتيزي اوزو، كما في كامل ارجاء الخرطوم والخرطوم بحري، يطالبان بالتغيير واستعادة حقهما بالقرار في كل ما يتصل بشؤون بلديهما..
..وهما يقدمان تجربة فريدة في بابها التي تجمع بين رافديها في الجزائر والسودان: النزول إلى الشارع، والابتعاد عن العنف وتخريب مؤسسات الدولة، والاصرار على أن يستعيد الشعب حقه في القرار، في ما يتصل بيومه وحاضره.
وأبرز الدلالة على وعي الشعب الذي يملأ الساحات، سواء في الجزائر او في السودان، انه قد رفض العنف، وحرص على الاستمرار في التظاهر السلمي، ورفض اللجوء إلى القوة في المواجهة، بل أن المتظاهرين كانوا يحملون اجداث الشهداء، ثم يعودون إلى مواقعهم في الشارع..
ثم أن الشعب في الجزائر كما في السودان قد رفض المخادعة التي لجأ اليها الجيش في العاصمتين: فأكد على ضرورة انهاء الفترة الانتقالية في أسرع وقت وبالتالي انهاء حكم العسكر، عبر انتخابات حرة ونزيهة، ولو بعد شهور قليلة، تشرف عليها “حكومة محايدة” لتعود الحياة إلى هذين البلدين العربيين اللذين قدما نموذجين مشرفين للعزة والكرامة والحرص على الهوية القومية وعلى الامنية العزيزة على القلوب جميعاً: الديمقراطية.
هل كثير على هذه الامة أن تأمل باستعادة حقها في السيادة على ارضها والتحرر من قيود الاستعمار قديمه والجديد ( الاميركي ـ الاسرائيلي)؟
امة تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد ازر الصديق وترد كيد “العدو”.
هل كثير علينا، كعرب، أن نتنفس وان نعيش في بلادنا ولها وبها وتاريخها مكتوب بدمائنا..
تنشر بالتزامن مع السفير العربي