من قبل ان يكتب محمد حسنين هيكل، وتنشر »السفير« مع »الكتب وجهات نظر« المصرية، مقاله الدراسة عن سوريا والمفاوضات، كانت اندية دمشق ومكاتبها وبيوتها، تضج بالنقاش حول المفاوضات ووقائعها والتسوية وشروطها ومستقبل العلاقة مع العدو الاسرائيلي وآثارها المحتملة على الغد العربي.
وليس سراً ان مبدأ التفاوض بذاته ما زال محل نقاش، سورياً، برغم التسليم بضرورته.
وإذا كانت الثقة بقيادة الرئيس السوري حافظ الأسد قد جعلت الكثيرين يرون ربما مثله ان لا بد مما ليس منه بد، فإن المعارضين والمعترضين كانوا »يتصيدون« كل تفصيل، ولو في الشكل، قد يخدم منطقهم الذي يقوم على عبثية التسوية مع الكيان الصهيوني، ويدعو إلى الاستمرار في الصمود والاستعداد لمواجهة جديدة وإلا فترك الأمر للأجيال الآتية »لعلها تكون اقدر منا على القيام بأعباء الصراع التاريخي«.
جاء مقال الكاتب العربي الكبير في توقيت مناسب تماماً لتوسيع آفاق الجدل:
فالعودة إلى طاولة المفاوضات لم تتقدم بها نحو غايتها، ولم تفتح الطريق إلى التسوية، بل هي سرعان ما توقفت او تجمدت عند »المدخل الشرعي«، اي الانسحاب من الجولان.
وبالتالي فإن المناقشات عادت لتطرح السؤال حول فائدة العودة إلى التفاوض مع »عدو يعرف الجميع انه انما يريد أن يفرض اتفاق اذعان جديدا وبشروطه«.
كان ثمة تسليم عام بأن الوفد السوري المفاوض برئاسة وزير الخارجية فاروق الشرع كان صارما في التزامه بأصول التفاوض الاضطراري مع عدو، وأنه لم يتساهل في ابسط الشكليات، وانه لم يجامل صاحب الرعاية المضيف في ما يتصل بجوهر قضيته، وانه رفض كل ما كان لا بد من رفضه في حين لم يكن ثمة ما يمكن ان يقبله.
ولأن سوريا تختلف عمن سبقها إلى التفاوض فإن الشكل يكاد يتساوى عند المشاركين في النقاش مع المضمون، والمصافحة، مثلا، لا تقل في خطورتها عن التسليم بمطلب اسرائيلي، خصوصاً إذا ما تمت قبل الاتفاق، وكذلك الابتسامة وطريقة الجلوس ولمن يوجه الكلام والنظر، وأين يتوجب الاعتراض على »لفظة« او »تعبير« غير مقبول، حتى لو جاء على لسان صاحب الرعاية الخ…
وبقدر ما أثار هيكل تقدير السوريين في مقدمته التي اظهر فيها تعاطفه الصادق مع الرئيس الأسد، فهو قد أثار اعجابهم الشديد بالعرض الجيو سياسي الممتاز لبلاد الشام ودورها الذي لم ينقطع عبر التاريخ سواء في الإسهام في صنع الحضارة او في صنع المقادير في هذه المنطقة التي كانت مهد الحضارات ومهد التاريخ ومهد الديانات السماوية ايضاً.
على أن التقدير شابه شيء من العتب والاحساس بظلم ذوي القربى من خلال المراجعة النقدية التي أجراها هيكل للمسلك التفاوضي السوري، ان لجهة تردده، او لجهة تريثه في اتخاذ القرار، او لما رأى فيه الكاتب العربي الكبير اعتماداً للتقية، وهي تهمة يرفضها الجميع، المتشددون ضد المفاوضات والقابلون بها على مضض والذين يفترضون انها المخرج الاجباري.
وباختصار، فإن كثرة من المهتمين والمعنيين بهذا النقاش الحيوي الدائر في دمشق حول المفاوضات وشروط التسوية المقبولة، قد سجلت على المقال المتميز للكاتب العربي المتميز مجموعة من الملاحظات أبرزها التالية:
1 ان هيكل، مع تسليمه بأن السادات قد غدر بالأسد (اضافة إلى الجيش المصري والجيش السوري) في حرب اكتوبر تشرين العبور، إلا انه وجد بشكل متعسف وجه شبه ما في مغايرة المعلن للمضمر في ما يتصل بالتفاوض، وهذا ظلم صريح.
2 ان هيكل قد تجنى على سوريا حين قال انها سلمت اوجلان، نتيجة تخوفها من تهور القيادات العسكرية التركية التي قدرت انه قد يصل الى حد استدراجها الى حرب لا تريدها ولا هي تقدر عليها، هي التي لها جبهة مفتوحة مع العدو الاسرائيلي.
والحقيقة ان دمشق لم تسلم القائد الكردي عبد الله اوجلان، الذي اصطادته المخابرات التركية بعد جولة واسعة تعذر عليه فيها ايجاد الملجأ في اي دولة من تلك التي تقاذفته، وبينها دول كبرى ودول قوية ودول صديقة لقضية شعبه (روسيا، ايطاليا، اليونان، بلجيكا، المانيا، هولندا الخ) حتى وصل إلى افريقيا وأخذ من دار السفير اليوناني في نيروبي.
3 ان هيكل حاكم خطاب الشرع في البيت الأبيض وكأنه متفق عليه وفقا للاصول البروتوكولية، وبالتالي فقد اخذ عليه الحدة في بعض عباراته بينما غابت عنه نقاط مبدئية اساسية كان يجب ان ألا تغيب عنه، وكاد يرى فيه تطرفاً لفظياً لتغطية تنازل عملي.
والكل يشهد في دمشق بأن خطاب الشرع جاء من خارج السياق المتفق عليه للحفل المباغت الذي أقيم في اللحظة الاخيرة، وعلى عجل، وبناءً لإلحاح الرئيس الاميركي كلينتون، والذي لم يكن وارداً في الاصل… وهكذا فإن الجميع يثني على الشرع لتحوطه، وإعداده خطاباً يركز على المبادئ، ويذكر بسورية الجولان أرضاً وسكاناً، مشيراً الى ان حوالى نصف مليون من المواطنين السوريين (أهل الجولان) هم لاجئون في بلادهم منذ 5 حزيران سنة 1967، ناهيك بأن موشي دايان قد اعترف في مذكراته بأنه لم يكن ينوي احتلال الجولان لأنها لا تشكل مصدراً للخطر على اسرائيل، ثم اتخذ القرار باحتلالها في اللحظة الاخيرة.
وكان الشرع بتركيزه على الجولان، إنما يرد على الحملة الدولية التي نظمتها اسرائيل مظهرة »الخطر« الذي يتهدد المستوطنين (15 ألفا) اذا ما اضطروا لترك الجولان، والخسائر التي قدرتها بعشرات المليارات من الدولارات التي ستحتاجها للتعويض عليهم!!
أي ان اسرائيل كانت تحاول الابتزاز سياسياً ومالياً، وكان لا بد من تركيز الرد على مثل هذه المحاولات، خصوصاً ان الجولان هو الموضوع الاساسي للتفاوض وترسيم الحدود إنما هو القضية.
باختصار فإن خلاصة الرأي بين المتحاورين والمجادلين في دمشق ان هيكل قد انصف سوريا وظلم وزيرها ورئيس وفدها المفاوض.
***
ليست هذه مقدمة، ولا هي تصلح تقديماً لحديث فاروق الشرع امام اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، قبل أسبوعين، وهو حديث أشير إليه ولم ينشر في حينه، لأن وزير خارجية سوريا أراده »حواراً داخلياً«.
وبغير اتفاق، بل وبغير علم مسبق، فإن فاروق الشرع قد أجاب في هذا الحديث الداخلي عن كثير من التساؤلات التي طرحها محمد حسنين هيكل في مقاله الذي حاول أن يغطي الدور السوري، في الماضي كما في الحاضر، وفي السياسة كما في الثقافة، قبل الوصول إلى محطة »التسوية الاضطرارية« في السياق التاريخي للصراع العربي الاسرائيلي.
هنا مقتطفات اساسية من هذا الحديث المهم والمفيد، تنشرها »السفير« بغير اذن من الوزير الشرع او من الاتحاد، لأن طبيعته تجعله »حقا عاما« وتفرض ان يطلع عليه الناس جميعاً.
»جئت الى هنا لكي نكون معا نطرح همومنا عليكم وتطرحون همومكم علينا. والمسافة بيننا ليست بعيدة كما أرى ولن تكون بعيدة، اننا ننطلق من موقع واحد ولا ننطلق من موقعين والذي يساعدنا في ذلك ليس الاسلوب البلاغي الذي يمكن ان يتحدث بعضنا به، وهو شيق بطبيعة الحال، لكن أود منذ البداية ان أؤكد ان الحقيقة المطلقة لا يملكها الا الانبياء، وهم يملكونها بالايمان. ونحن نطمح ونأمل ان نلامس الحقيقة، وان نكون أقرب اليها، وان يكون فهمنا لها متطابقا الى اقصى الممكن، لأن التطابق التام في الافكار والاستنتاجات ربما لا يحصل حتى بين الاخ واخيه، بين الذات والذات، بين الصباح والمساء وحتى بالنسبة لنفس الفرد، للفرد الجائع والفرد المرتاح تتغير، احيانا الرؤية والنظرة ويتغير الاستنتاج في بعض الحالات.
أريد فقط ان اشير الى لمحة تاريخية سريعة فكلنا نذكر انه في نهاية القرن التاسع عشر ظهر مشروع صهيوني، وايضا ظهر مشروع قومي عربي. والمشروعان اخذا طريقهما بشكل او بآخر للتنفيذ. لكن الاختلاف كان كبيرا بين المشروعين، مشروع عدواني يبحث عن التوسع والسيطرة، جوهره عنصري. ومشروع قومي عربي، على العكس، يريد ان يثبت وجوده ووحدة تراثه ويؤكد عدالة قضيته برؤية انسانية الى حد كبير. واقول باختصار شديد ان المشروع الصهيوني تمكن من تحقيق معظم اطماعه وليس كلها، والمشروع القومي العربي للأسف، مر بتخبطات وهزات صعودا ونزولا، وكانت هناك لحظات مهمة في ذروة نجاح هذا المشروع، وكانت الآمال المعقودة عليه كبيرة، ولكن في سنوات اخرى خبا ضوء هذا المشروع واصبح تنفيذه ثقيلا والتمسك به صعبا. مررنا بنكسات وارتدادات منذ الحرب العالمية الاولى. ونتائج تلك الحرب كانت خطيرة على العرب برغم انهم قاتلوا الى جانب ما يسمى بالحلفاء. لقد خدع العرب خدعة كببيرة في غفلة من الزمن، فقسمت بلادنا باتفاقات سرية بين الدولتين العظميين آنذاك بريطانيا وفرنسا عام 1916، ثم بعد عام أو أقل ظهر وعد بلفور عام 1917 وبعد ذلك انتدبت بريطانيا وفرنسا على المشرق العربي وكان بالطبع المغرب العربي تحت السيطرة الاستعمارية المباشرة منذ عقود من الزمن.
ثم وكنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية قسمت فلسطين تنفيذا لوعد بلفور. ولم يعرف المشروع القومي كيف يتعامل مع هذه المعضلة فلا هو قبل التقسيم ولا هو رفض ايجابيا التقسيم، بمعنى الرفض الذي يمكن ان يمنع ذلك، او الرفض الذي يمكن ان يزيد من مساحة القسم العائد لنا… لقد حصل العكس تماما، فزاد من مساحة القسم الذي خصص للدولة اليهودية واتسعت رقعتها اكثر بكثير مما منحها اياه قرار الامم المتحدة الشهير رقم 181.
ماذا فعل العرب؟
بكل بساطة، ان الذين قاتلوا بمجموعات نظامية وغير نظامية سميت ظلما سبعة جيوش عربية كان يقودها الانكليز وليس العرب، فكانت الهزيمة محتومة والنتائج محسومة.
إسرائل عند السويس..
في أوائل الخمسينيات جاء عبد الناصر وألهب مشاعر الجماهير وأمم قناة السويس ولم يغفروا له ذلك فهاجمته دول ثلاث كانت اثنتان منها ما تزال عظمى (فرنسا وبريطانيا). لكن كانت المفاجأة ان اسرائيل وصلت الى قناة السويس قبل ان يصل البريطانيون والفرنسيون اليها. لقد لفتت اسرائيل بقوتها اهتمام كل العالم ربما باستثناء العرب الذين اعتقدوا ان اسرائيل لم تكن الا كيانا مسخا اقيم على جزء من أرض فلسطين. ومن الواضح ان الكثير من العرب مثقفين وبسطاء لم يغيروا قناعاتهم بصورة الكيان الاسرائيلي المصطنع وبقدرة اسرائيل حتى بعد ان وصلت قواتها العسكرية الى قناة السويس عام 1956 قبل وصول جحافل الانكليز والفرنسيين، وما كانت لتخرج لولا صمود الشعب المصري في بور سعيد والاسماعيلية ومدن اخرى، وضغوط دولية ووقوف سورية الى جانب مصر بكل ثقلها وتضامن شعبها معها.
لقد شعر الشعب السوري بأنه في خندق واحد مع مصر ضد العدوان الثلاثي. لكن للأسف فإن هذه المشاعر الهامة جدا والتي أحدثت انقلابا في الشارع العربي وألهبت مخيلات الشباب والشابات في ذلك الوقت لم تستمر طويلا رغم تجسيدها في عمل وحدوي، ولم تتبلور في فكر قومي عملي يبني الحاضر ليرسخ جذوره من اجل الصمود في المستقبل. وعلى كل حال، هم عاجلوا هذه التطلعات القومية التي جاء بها عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي والفكر التقدمي عموما في المشرق العربي، عاجلوا كل ذلك بعدوان 1967 والآن نحصد نتائج هذا العدوان ونعمل على ازالة آثاره. ولا أبالغ اذا قلت ان الحركة التصحيحية التي جاءت في عام 1970 بقيادة الرئيس حافظ الأسد بلورت لأول مرة في تاريخ العرب المعاصر فكرا قوميا ناضجا واقعيا، يقرأ الواقع قراءة المناضلين لا قراءة المستسلمين او المغامرين. يبني الحاضر ليرسخ جذوره من اجل تأمين الصمود في المستقبل.
والواقع ان مشكلتنا التي نعاني منها في الساحة العربية منذ عدوان 1967، سواء كمسؤولين، كمفكرين، كأدباء، كمحللين او كسياسيين هي كأنما نحن محشورون امام خيارين لا ثالث لهما: اما ان نقبل »السلام« وكأنه نوع من الاستلام والاذعان، وهذا ليس سلاما ابدا، او ان نرفض السلام دون ان نوفر لهذا الرفض الارضية الصلبة التي يستند اليها. وأقول ببعد كل التجارب التي مرت بها امتنا ان الاستسلام سهل والرفض السلبي سهل ايضا. اما النضال الحقيقي والصعب فهو ليس هذا وليس ذاك. وهذا هو جوهر فكر الحركة التصحيحية ان جاز لي ان اقول ما هو جوهر الحركة التصحيحية. واقول للأسف ان بعض الحكام العرب الذين سالموا اسرائيل لم يأخذوا بهذا النهج ولو اخذوا »بنهج الأسد« لما كانت الحلول المنفردة ضرورية ابدا ولا زيارة السادات للقدس إلزامية. لقد كانت مصر الدولة العربية الكبرى وكان التضامن العربي يومها بخير والتوازن الدولي افضل، لكن السادات كان مهزوما من الداخل وتصرف على هذا الاساس علما بأن الجيش المصري الشجاع لم يهزم، ولا الشعب المصري الذي خرج بالملايين ليعيد عبد الناصر عن استقالته كان لديه ادنى شعور بالاستسلام. كان الجيش المصري الذي حقق العبور شجاعا ومقداما كالجيش السوري الذي وصل تقريبا الى شواطئ طبريا في الايام الاولى للحرب، فواجهته طعنات من الشقيق قبل العدو.
زيارة القدس، الحرب على إيران،
غزو الكويت..
بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في 1979، حتى هوجمت الجمهورية الاسلامية الايرانية بلا مسوغ ومباشرة بعد نجاح ثورتها وبعدما اغلقت سفارة اسرائيل في طهران لتعطيها لفلسطين، وبعد ان تبنت اللغة العربية لغة رسمية في البلاد. والامر الغريب جدا ان تُهاجم ايران الاسلامية من قبل العاصمة العربية التي احتضنت الميثاق القومي والقمة العربية اللذين جاءا ردا على زيارة القدس المحتلة واتفاقات كامب ديفيد.
إن زيارة القدس اللا مبررة ثم الهجوم على ايران الذي لا مسوغ له كانا اكبر خطأين تاريخيين في النصف الثاني من القرن العشرين في الساحتين العربية والاسلامية. وقبل ان ينهض المواطن العربي ويستعيد انفاسه، هوجمت الكويت ايضا دون مبرر، كان يمكن فعلا للعراق وأنا اقول هنا ليس للنظام العراقي فقط وانما للعراق نظاما وحكومة وشعبا، ان يأخذ من الكويت من دون حرب ما يريد لأنه كان يسيطر على الكويت سيطرة تامة امنية وسياسية واعلامية. فلماذا كان الغزو؟ وما هي مبرراته؟ ثم ان العراق بلد من أغنى البلدان العربية، مع ذلك كنا نقول دائما لإخواننا في الخليج اننا يجب ان لا نقف عند تلك الفترة الى الابد ونحن كعرب وكجامعة عربية يجب ان نتجاوز تلك المحنة ويجب ان نضعها خلفنا لأن الجمود عندها سيصبح كارثة على الجميع.
هذه الخلفية شكلت انتكاسات، وهنا أستخدم وصفا ديبلوماسيا، ولا أستخدم عبارة أقسى، انتكاسة تلو انتكاسة في الساحة العربية، طعنة وراء طعنة في الجسد العربي، ثغرة تعقبها ثغرة في المشروع القومي العربي. من جانب آخر كان المشروع الصهيوني يتقدم على حساب اخطاء المشروع العربي، وإن لم يكن خاليا من الثغرات لكنه بالمقابل لم يواجه نكسات حقيقية وطعنات متتالية كالمشروع القومي، ولا أبالغ اذا قلت ان تصحيح مسار المشروع القومي كلما أصابته انتكاسة كان الفضل فيه يعود بصورة رئيسية لسورية وقائدها حافظ الأسد.
وبالرغم من التراجعات والنكسات المتعاقبة في الاوضاع العربية والدولية بما فيها كارثة حرب الخليج الثانية التي فتحت المنطقة امام اميركا والغرب واسرائيل، فإن سورية لم تخضع للآخرين ولا للمعايير المزدوجة واصرت على تطبيق قرارات مجلس الامن على اسرائيل وليس على العراق فقط. لقد كان جورج بوش عندما خاطب الكونغرس الاميركي في السادس من آذار عام 1991 يدرك جيدا ان سورية خصوصا والعرب عموما لن يقبلوا بتطبيق قرارات مجلس الامن على العراق ويتجاهلوا تنفيذ قرارات مجلس الامن المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي. لقد استجاب الرئيس الاميركي لأنه كان هناك ضغط شعبي الى جانب الضغط الحكومي وخاصة في اطار دول اعلان دمشق. إن قرارات الامم المتحدة يجب ان تطبق ايضا على اسرائيل ويجب ان تعاقب اذا لم تنفذ هذه القرارات. هذه نقطة هامة استطعنا تثبيتها وخاصة من قبل سورية، والسيد الرئيس شخصيا كان يلح عليها كثيرا في لقاءاته سواء اللقاءات مع الرئيس بوش في ذلك الوقت في جنيف حيث كان هذا الموضوع اساسيا او لقاءاته مع اعضاء الكونغرس او مع القادة الاوروبيين وحتى انعقاد مؤتمر مدريد.
هل كان فهم الآخرين كفهمنا؟ انا اقول لكم للأسف لا. لقد كانوا ابان الاحتلال العراقي للكويت متحمسين في موضوع تطبيق قرارات الامم المتحدة على العراق اكثر مما كانوا متحمسين لتطبيقها على اسرائيل. علما ان اسرائيل اقوى من كل الدول العربية مجتمعة والولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الاكبر تغذيها بكل انواع الاسلحة من البندقية الى الصاروخ الى الطائرة، الى الحواسب العملاقة التي لا يوجد منها في اوروبا، وتشركها حتى في حرب النجوم. واسرائيل ايضا بمساعدة من الولايات المتحدة اصبحت مصدرة للسلاح حتى تصدر مكونات معينة الى الصين البلد الكبير جدا. وتصدر بعض طائرات الاستطلاع التي تقاد بدون طيار الى عدد من دول اميركا اللاتينية وحتى بعض الدول الاوروبية. منذ اربعة او خمسة اسابيع قدمت المانيا هدية الى اسرائيل ثلاث غواصات من احدث الانواع التي يناسب حجمها اسرائيل والبحر الابيض المتوسط. والتي يمكن استعمالها بعد تزويدها برؤوس نووية على طول المتوسط لتهدد فيها مختلف دول المنطقة.
عن السلاح والسلام..
أريد ان اقول لكم ايضا ان حجم المساعدات المالية المباشرة وغير المباشرة الرسمية وغير الرسمية التي ترد لإسرائيل من الولايات المتحدة. فقط يجب ان نعلم ان ميزانية اسرائيل اذا ما قورنت بميزانية سورية فهي اكثر من عشرين ضعفا واذا اخذنا ميزانية التسلح بالاعتبار فإن ميزانية سورية للتسلح لا تتجاوز 7$ من ميزانية التسلح الاسرائيلية في العام. والآن اسعار الاسلحة في العالم متساوية لا يوجد سلاح رخيص تأخذه سورية وسلاح غال تشتريه اسرائيل والدول الاخرى. كل الاسلحة غالية الآن وكل قطع الغيار بسعر واحد في كل مكان بالعالم في موسكو او واشنطن او في لندن. نحن اصررنا على تنفيذ قرارات مجلس الامن وعدم ازدواجية المعايير وكان هناك مؤتمر مدريد الذي استغرق البحث حوله ثمانية اشهر وقد تستغربون لماذا.. لأن (شامير) رئيس وزراء اسرائيل في ذلك الوقت كان يريد فقط عقد مؤتمر اقليمي للمفاوضات المتعددة الاطراف تبحث التعاون الاقتصادي والبيئي والتعاون في نزع السلاح والمقصود (نزع سلاح العرب) والتعاون من اجل حل مشكلة اللاجئين على حساب العرب وليس بإعادتهم الى وطنهم فلسطين وموضوع المياه اي ان تأخذ اسرائيل قدر ما تستطيع من المياه من الجولان وغيره، كانت تريد مؤتمرا اقليميا ولم ترد ان يوضع في جدول اعمال المؤتمر اي شيء يتعلق بالأرض وزعم شامير في ذلك الوقت انه يجب ان يكافأ لأنه امتنع عن الرد على صواريخ (صدام) ويجب ان يكافأ على ضبط النفس، والمكافأة على ضبط النفس تعني بالنسبة له ألا تؤخذ من اسرائيل اي قطعة ارض محتلة لا سيما حسب رأيه وكما عبر عنه في ذلك الوقت ان حجم اسرائيل (28 ألف كيلو متر مربع) ويتضمن ذلك الجولان وجنوب لبنان وكل فلسطين وقال عندما ذهب مكرها الى مدريد انه يريد للمفاوضات ان تستمر عشر سنوات دون ان يتيح لها اي مجال للتقدم، هو لم يذهب الى مؤتمر مدريد للسلام مختارا وراغبا. لقد ذهب مكرها واراد ان يخرب مدريد منذ البداية. ويجب ان لا يغيب عن تفكيرنا اننا نحن الذين تمسكنا بمؤتمر مدريد وبمرجعية مدريد وبصيغة الارض مقابل السلام وليس اسرائيل التي كانت وما زالت تريد صيغة السلام مقابل السلام وتعطيل عملية السلام.
منذ نصف قرن وأكثر تزعم إسرائيل أنها تريد السلام مع العرب وتتمناه ولا تحصل عليه، وتدعي بأن العرب دعاة حرب ولا يريدون السلام. ونجحت إسرائيل في تضليل الرأي العام العالمي وخصوصا الاميركي. وحتى السادات فان الاسرائيليين تعاملوا مع زيارته للقدس وكأنه جاء اليها مهزوما لكي لا يسجلوا للعرب أنهم طلاب سلام! والسؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا وأنا هنا أتحدث عن السلام الحقيقي كما تفهمه سورية الأسد، هل سيساعد مثل هذا السلام إسرائيل على التوسع وإقامة إسرائيل الكبرى هدف المشروع الصهيوني؟ أقول، اذا كان السلام يساعدها على أن تحقق إسرائيل الكبرى فالحرب تستطيع ان تساعدها اكثر على تحقيق هذا الهدف وبصورة أسرع، لأنه لا يوجد توازن بين العرب وإسرائيل عندما يتعلق الامر بالمجابهة العسكرية. ولكن اذا حولنا المجابهة العسكرية الى تنافس سياسي اقتصادي تجاري ثقافي بكل أبعاده وعزلنا السلاح العسكري الذي بيدها وحيدناه ماديا ونسبيا لأنه موجود خلف الستار ويجب ان يؤخذ بالاعتبار دائما، فان النتائج يمكن ان تكون أفضل والكوارث بالضرورة ستكون أقل. لأننا سنحمل إسرائيل على ان تستخدم وسائل اخرى غير الوسائل العسكرية التي تصر الولايات المتحدة وغيرها على ان تتفوق فيها على كل العرب مجتمعين. ربما نوفق، على كل حال جربنا خمسين سنة من الصراع المسلح وبقىنا وحدنا ولبنان. هذا لا يعني اننا سنلقي سلاحنا في حال السلم. أرجو ان لا نفهم خطأ. هناك حرب وسلم وهناك لا حرب ولا سلم ومعظم السنوات لا حرب ولا سلم نحن الآن نجرب السلم (لم يحصل شيء حتى هذه اللحظة) ونحن ما زلنا في حالة حرب. واقامة حالة السلام في المستقبل تعني تحويل هذا الصراع الى صراع سياسي فكري اقتصادي تجاري ربما نصبح في موقع أفضل وبالتالي يجب ان نعطي هذا النوع من الصراع فرصة كما أعطيت فرصة للصراع العسكري دون ان نقع في خطأ. معنى الصراع هل هو صراع حدود أم صراع وجود وندخل في جدل بيزنطي لا أول له ولا آخر. لكنني أكرر ما قلته في واشنطن وفهم البعض عكس ما هو مقصود ربما بسبب سوء الترجمة والبعض أخذ من الصحف وبنى عليها دون ان يعود الى النص، أنا قلت »اذا كان الاسرائيليون غير مستعدين ان يعيدوا جميع الأراضي العربية المحتلة لأصحابها الشرعيين فانهم يوجهون رسالة الى العرب بأن الصراع في هذه الحالة هو صراع وجود وليس صراع حدود« لقد وضعت المسؤولية على إسرائيل وأمام المجتمع الدولي حين قلت: اذا كانت إسرائيل تريد ان تحتفظ وتستمر في احتلالها للأراضي العربية فانها تعطي رسالة للعرب بأنه لا يوجد مجال أمامهم او خيار الا لصراع الوجود. اي اما نحن او هم. وهم على كل حال أصحاب فكرة صراع الوجود في مشروعهم الصهيوني وينظرون الى العرب كهنود حمر يجب إبادتهم.
في مؤتمر مدريد وقد كان معركة بكل ما تعنيه الكلمة سلاحها (الارض مقابل السلام تنفيذ قرارات مجلس الامن ومرجعية مدريد) وكان السلاح الآخر هو التنسيق العربي. أرادوا من العرب ان يذهبوا منفردين (وفد أردني وفد فلسطيني وفد سوري وفد لبناني) ونحن لم نكن في وضع يمكننا ان نذهب كوفد عربي موحد وسبب ذلك ان اخواننا في الأردن كانوا مع صدام، (وعرفات) كان ايضا مع صدام ونحن كنا ضد الاحتلال للكويت، نحن نتكلم عن الأطراف العربية المشاركة في عملية السلام.
لقد كان لدى سورىة استعداد لأن نقلب الطاولة على رأس الاسرائيليين والاميركيين الذين أصروا على وفود مجزأة ممنوع عليها التنسيق. نحن أصررنا على ان نكون في مكان واحد وفي زمان واحد خلال المفاوضات ثم عندما يخرج اي وفد من لقائه الثنائي (الفلسطيني او الاردني او اللبناني او السوري) تجتمع الوفود كلها وتتحدث ماذا طرحت إسرائيل عليها حتى نبطل اي نوع من المناورة او التكتيك او المماطلة او اللعب في تفسير القرارات الدولية. وقلنا ان أفضل شيء هو التنسيق بين العرب اي بين الأطراف العربية المعنية بعملية السلام. فبدأت اتصالاتي بعد ان انتهى افتتاح المؤتمر باعتبار ان سورية هي التي يجب ان تتصدى للثغرات حرصا منها على تحقيق أفضل شكل من التنسيق العربي.
لكن للأسف كان واضحا منذ اليوم الاول لمحادثات السلام في مدريد ان الأطراف العربية باستثناء لبنان لم تكن راغبة في التنسيق. وزير خارجية لبنان فارس بويز كان متحمسا للتنسيق. وكان وزير خارجية الاردن مهتما بموضوع التنسيق لكن تبين ان رئيس الوفد الاردني المفاوض هو ليس كامل أبو جابر بل كان شخصا آخر لا يعير للأسف موضوع التنسيق أي اهتمام.
قلت: لنتحدث مع الاخوة الفلسطينيين! فتبين ان ذلك يحتاج الى موافقة عرفات من تونس ولقد انتظرنا، لم تأت الموافقة على التنسيق ولقد رأيت الدكتورة حنان عشراوي وقلت لها ان الموضوع خطير وحساس فقالت لي أنا مع التنسيق، وكان قد وصلها توجيه من عرفات ان تعلن عدم التنسيق، ولقد امتنعت عن إعطاء هذا التصريح الذي طلبه منها عرفات. جاءت برقية من تونس تقول ان لا الدكتور حيدر عبد الشافي ولا حنان عشراوي مخولان ببحث هذا الموضوع. حاولت ان أتجاهل ما علمت به من رفض عرفات للتنسيق وتحدثت مع جيمس بيكر وقلت له كلنا كأطراف عربية نريد ان تكون محادثات السلام في مكان واحد وزمان واحد، وقلت له ان الأخوان في فلسطين والاردن قبلوا بالتنسيق. قال: لا! حتى أسمع منهم! فقلت له: يا سيد بيكر نحن وصلنا الى مدريد بعد جهد جهيد، لا تضيع هذه الفرصة وهي إنجاز شخصي لك وللولايات المتحدة. نحن كسوريين لن نذهب غدا الى المفاوضات الا في مكان واحد وتوقيت واحد.
قال لي وهو في حالة غضب شديد: أنت تهدد أميركا! قلت: أنا لا أهدد أميركا، هل يصدق أحد ان وزير خارجية سورية يهدد أميركا، لماذا يهددها؟ ثم سورية بالمقارنة مع اميركا لا يمكن ان تشكل تهديدا لأميركا. كانت المناقشة طويلة وساخنة مع (بيكر) ولم نتوصل الى حل.
لكن القصة أخيرا انتهت الى رئيس وزراء اسبانيا وبيكر قال لا يمكن لا يوجد مكان آخر، وهذا المكان يريده الملك (خوان كارلوس) لزائريه ولا يوجد مكان آخر يتسع لكل هذه الوفود في مدريد، قلت له: أنا أتدبر الامر مع أصدقائنا الاسبان… وذهبت الى وزير خارجية اسبانيا وكان انسانا جيدا وأخذني الى رئيس وزراء اسبانيا (غونزاليس) ووافق وأمن مكانا جيدا جدا فانزعج الاميركيون. وقد قال لي وزير خارجية اسبانيا: هؤلاء الاميركيون يريدون ان يحتلوا مدريد لا يريدون ان يعطوا اي هامش للاسبان لكي يفكروا بمقر إقامة الوفود.
على كل حال القصة هنا لم تنته، أما التنسيق العربي فقد انتهى منذ ذلك الوقت. خضعوا للقبول في اليوم الاول ثم لم يوافقوا وأصبحت الاتصالات تأتي من تونس مباشرة ولا نعلم بها. ولم يبق منذ ذلك الوقت غير سورية ولبنان معا. التنسيق انتهى منذ شهر تشرين الثاني 1991 في مدريد وعندما ذهبت الوفود الى واشنطن كانت تجتمع ولكن اجتماعات شكلية حتى توقيع اتفاقات اوسلو في أيلول 1993. لقد كان وفدنا يطلع الوفود على ما يجري ولا تطلع الوفود الفلسطينية والأردنية الوفد السوري على ما يجري. والواقع ان التنسيق العربي انتهى منذ أن قبلت الاطراف العربية الدخول في المفاوضات المتعددة الأطراف، اي التعاون الاقليمي والذي من المفترض ان يأتي بعد إنجاز السلام وليس قبله بأي حال.
أتذكر ان عرفات زار سورية قبل بداية المفاوضات المتعددة، وكنا في اللاذقية. قال لسيادة الرئيس: أنا جاهز لكي لا أذهب الى المتعددة أنا مع سورية، أنا أساسا ليس عندي دولة حتى تطبع مع إسرائيل. أنا الذي يجب ان أشكر سورية على انها ضد المفاوضات المتعددة الأطراف.
فعلا شعرنا بارتياح كبير وقلنا ان هذا الموقف سيفتح صفحة جديدة مع عرفات. لكن فوجئنا بعد ان ذهب الى عمان انه غادر الى الهند والصين وسمعنا من هناك يعقد مؤتمرا صحفيا يدعو فيه الصين والهند للانضمام الى المتعددة. تصوروا كم كان ملتزما بما وعد به. لو انه التزم مع سورية ولبنان أنا أعتقد انه لو التزم لما كان أحد قد تجرأ على الذهاب الى المفاوضات المتعددة.
في زيارة اخرى اقترح عرفات على السيد الرئيس إيقاف عملية السلام، هذا الكلام كان في نيسان 1993، قال له سيادة الرئيس هذا القرار كبير وخطير ويجب ان ندرسه كلنا ونلتزم به لأنه سيؤلب العالم كله علينا ولكن اذا وجدنا فعلا مبررات مشتركة عربية جماعية فنحن على حق ولا يستطيع العالم ان يقف ضدنا وخصوصا ان إسرائيل لم تقدم شيئا. عندما لمس عرفات ان السيد الرئيس جاد في دراسته الموضوع قلب عرفات الموضوع رأسا على عقب وأصبح يتحدث عن التلاميذ الفلسطينيين في نابلس وغزة وإلخ.. لم يعد راغبا بمتابعة هذا الموضوع ولم يعد مكترثا في متابعة الفكرة التي هو كان متحمسا لها. وتبين لنا في ما بعد انه كان يتفاوض في نفس تلك الفترة في أوسلو سرا.
لم نطلع إطلاقا على المفاوضات التي كان عرفات ومجموعته يجرونها سرا في أوسلو. سمعنا عنها بالصحف مثل المواطنين العاديين، بقي يتفاوض ثمانية الى تسعة أشهر من نهاية عام 1992 الى أيلول عام 1993. أنا أستغرب أحيانا ان يقول احد اخواننا الفلسطينيين اين التنسيق؟ ويدعي ان سورية ترفض التنسيق، التنسيق على ماذا. وما هي الأرضية التي يتم التنسيق على أساسها؟ وهل ممكن ان يلتزم، كم مرة حصل تنسيق والالتزام لا يستمر أسبوعا واحدا. كان المطلوب من التنسيق فقط ان يبلغوا الاسرائيليين ماذا حصل خلال اجتماعات التنسيق. اذا كان أحدنا يتصور ان عرفات يمكن ان يجمع بين يديه فكرة ويحافظ عليها حتى بينه وبين نفسه او بينه وبين زملائه يكون مخطئا، فكيف يمكن ان يلتزم بالتنسيق مع أربع او خمس دول عربية؟
للأسف هذه حال من أقسى ما يمكن وأنا أتألم عندما أشاهد الفلسطيني والسوري يجابهان بعضهم بعضا على الفضائيات. هذه مؤامرة تستهدف إثارة السوري على الفلسطيني والفلسطيني على السوري وعلى العربي. هذا شيء خطير ويجب ان يتوقف. كأننا لا ننتمي الى أمة واحدة. هذا شيء غير معقول.
كلكم سمعتم بما أطلق عليه وديعة رابين اننا في المفاوضات منذ اول مؤتمر مدريد لم نقبل إطلاقا ان نناقش اي عنصر من عناصر السلام قبل ان يحسم موضوع الانسحاب الكامل، والانسحاب كي يكون كاملا يجب ان يكون كاملا الى خط الرابع من حزيران لا يبقى لا مدنيون ولا عسكريون اسرائيليون ولا شبه مدنيين او شبه عسكريين ولا يبقى محطة أرضية ولا يبقى إسرائيلي في أي محطة أرضية، هذا مفهوم الانسحاب الكامل كان وما زال ولن نتراجع عنه تحت أي ظرف من الظروف، قلنا لهم: لو جعنا فلن نتخلى عن طلب الانسحاب الكامل الى خط 4 حزيران. اما مراهناتهم على ضعف سورية فهم مخطئون، سورية قوية بقائدها بشعبها بطاقاتها بقدراتها بإنسانها بمنظماتها بأحزابها ولا يمكن ان تضعف أمام المطالبة بحقها واستعادة كامل أرضنا.
ان سورية لن توقع اتفاقا فيه اي نوع من الاملاء او الشروط غير المقبولة لها او التي تمس بسيادتها ولن توقع. فحافظ الأسد لا يوقع على مثل هذا الاتفاق.
وسورية مهما سمعتم من تسريبات هنا وهناك هي أشياء لا أساس لها مطلقا ولا وجود لها، والأمور التي نشرت في صحيفة »…« عندما كنا في (شيبردزتاون) زاعمة ان سورية مطلوب منها اعادة النظر ببنية الجيش السوري وتركيبته وعدد الاسلحة، كل هذا الكلام الفارغ لا أساس له من الصحة ولم يبحث أساسا وثانيا سرب وقيل ان سورية وافقت على اعادة النظر بالبرامج التربوية هذا الموضوع لا أساس له من الصحة ولا يجرؤ الاسرائيليون ان يبحثوا هذا الموضوع معنا، وقيل أيضا ان سورية ستطرد الفلسطينيين او المنظمات العشر. هذا الكلام لا أساس له من الصحة ولن ندفع اي فلسطيني للمغادرة الا عندما يعود الى وطنه فلسطين، ولذلك نقول ان سورية وفي المقدمة الرئيس حافظ الاسد والقيادة السورية لن يقبلوا باتفاق الا اذا كان مشرفا. لن نقبل باتفاق فيه اي شيء يمكن ان ينال من تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا ومن أمتنا، اذا لم يوافق الاسرائيليون فسيخسرون، واذا نجحنا في استعادة حقوقنا كاملة وأرضنا كاملة فهذا نجاح مهم لجيل وجيلين وثلاثة، واذا فشلنا لا سمح الله لن نخسر لأننا سنكون قد كسبنا الرأي العام العربي والدولي وسيقف العرب معنا شاؤوا أم أبوا، لأننا سنقول لهم بذلنا كل شيء، نحن أردنا وذهبنا وقلنا وانفتحنا عقلا وقلبا لكن هؤلاء التوسعيون العنصريون يريدون فرض شروطهم علينا وعلى العرب ويجب ألا نقبل هذه الشروط ابدا، ولن يقبلها أي عربي يؤمن بعروبته بقوميته بتاريخه بتراثه بدينه، وهو سيقف معنا وأنا متأكد من ذلك حتى في أقصى شبه الجزيرة العربية وحتى موريتانيا التي قدمت سفيرها بالامس الى وايزمن.
اذاً في الحالتين لن نخسر. واستغرب أن يقول البعض البعض اننا سنخسر في الحالتين. هذا كلام غير واقعي ويعبر عن مشاعر لا تعبر عن الواقع ولا تلامس مشاعر الناس في كل مكان. ولا بد انكم تسمعون آراء الناس جميعا (الفلاح العامل التاجر الضابط المهندس الجندي) الذين يكدحون ويبحثون عن لقمة العيش بكرامة، شاهدوا كل هؤلاء الناس فلا يجوز التفكير بعيدا عن روح الجماهير وعن نبض الشارع اطلاقا وانتم يجب ان تعلموا ان حافظ الأسد لا يتخذ خطوة الا بعد ان يدرس نبض الشارع. حاول الاسرائيليون ان يتركوا موضوع الانسحاب الى آخر المفاوضات من اجل ان يبتزوا الوفد السوري لكي يصبح موضوع الانسحاب رهينة بيدهم لكي يفاوضوا عليه في عناصر السلام الاخرى، قلنا لهم أبدا لن نقبل، وشكلت لجان أربع ولجنة ترسيم الحدود في المقدمة ويجب ان تعمل على رسم خط الرابع من حزيران 1967 دون ذلك لا استئناف للمفاوضات، نحن ما زلنا نملك زمام المبادرة ويجب ألا تضيع من يدنا، وتأكدوا أننا في الموقع الاقوى، رغم كل أسلحتهم، ولا تتصورا ان العرب الذين واكبوا هذه الاسلوب الجديد من التفاوض يمتدحوننا هكذا بدون اي جوهر او اي مضمون. هم لمسوا الفارق. في البداية كان البعض يحلو لهم ان يقولوا ان السوريين كغيرهم حتى يبرروا ما فعله الآخرون منذ سنين طويلة بأسلوب خاطئ وتفاوض بتنازلات مجانية، ولكنهم في النهاية لم يتمكنوا من ذلك لأنهم لمسوا ان الصحافة الاسرائيلية نفسها وتصريحات المسؤولين الاميركيين بالذات اكدت على ان الوفد السوري لمحادثات السلام كان ذكيا غيورا على مصالح بلاده متمسكا بحقوق بلده ومتشبثا بسيادة وطنه ومحافظا بأمانة على كرامة وطنه وشعبه وسيبقى كذلك.
ربما اطلت عليكم كثيرا لكن احببت ان تكونوا في
كامل الصورة حتى اخفف عنكم بعض الأسئلة ولكن هذا لا يلغي امكانية القبول بأي سؤال تطرحونه.
بين السلام والتسوية..
بعد هذا العرض الشامل، طُرحت على الوزير الشرع اسئلة عدة نقتطف هنا الابرز منها ومن اجاباته عليها..
سؤال: كيف يمكنكم التفريق بين التسوية والسلام كإجراء وكمفاهيم؟
جواب: الواقع انا اجد احيانا ان هناك نوعا من الجدل البيزنطي الذي لا يفيد كثيرا ونصبح مثلنا مثل من يخطئ باللغة العربية ويصير الخطأ هو موضوع الحوار وليس مضمون الحوار، التسوية ليست كلاما خاطئا او خطأ او مشينا. التسوية من سوَّى الشيء جعله مستقيما يعني تسوية خلافات بوضعها على ارضية صحيحة. اما السلام مفهومه اعمق بدون شك، السلام اذا ما قورن بالتسوية فمفهومه اعمق، السلام ممكن ان يعني كل شيء واحيانا يمكن ان تكون كلمة فارغة لا تعني شيئا بالنسبة لاسرائيل… لأن اسرائيل صنعت سلاما مع مصر، غير انني لا ارى ان هناك سلاما بين مصر واسرائيل، هي لا تحترم كلمة السلام ومفهومها للسلام يمكن ان يكون المصافحة والسفارات والعلم ومثل هذه الامور، ولكن هل هي تحترم الثقافة والحضارة العربية، وهل تفهم مشاعر الانسان العربي؟ هل تعيد تقويم الارتكابات الخطيرة التي مارستها على الارض ضد الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين والعرب عموما؟ كم قتلت ونفذت مجازر من دير ياسين الى قانا مرورا بمجزرة الحرم الابراهيمي؟ على الاسرائيلي الجديد اذا كا يريد سلاما حقيقيا مع العرب ان يدين كل ما ارتكبه من اخطاء بحق العرب. هل الاسرائيليون جادون في مسيرة التسوية؟.. قسم جاد طالما نتكلم عن التسوية، وقسم لا يريد التسوية بأي شكل من الاشكال وعلى استعداد لأن يقتل من زعمائه الاسرائيليين ان هم ارادوا التسوية.
الوفد الإسرائيلي المفاوض نوعان: نوع من جماعة حزب العمل ونوع من الليكود حضروا مع الوفد الاسرائيلي، و/باراك/ يحاول ان يتسلح بالمعارضة والمتشددين وبالتظاهرة التي قالت انهم ضد السلام مع سورية وضد اعادة الجولان هم يتكتكون ويوجد ابتزاز طبعا وأيضا يجب ان تعرفوا انه حتى /نتنياهو/ عندما يكون هناك مصلحة اسرائيلية عليا يقف مع /باراك/، حتى /نتنياهو/ العدو اللدود ل/باراك/ في الانتخابات يقف مع باراك عند المفصل الحساس لأنه يضع المصلحة العليا لاسرائيل فوق كل اعتبار.
سؤال: هل انتم متحمسون مع ما قلتم ومقتنعون به وبالسلام مع اسرائيل؟
جواب: انا منسجم مع كل ما اقول. انا لا اقول شيئا غير مقتنع به. هذه مسيرة حياتي الشخصية. وانا اقول لكم باعتزاز انني امثل الفكر والنهج الحقيقي للرئيس الأسد. هكذا افهم الرئيس الأسد لا يكذب على الناس، لا يكذب على نفسه، وهو صادق وله رؤية ثاقبة ويؤمن بالسلام، ولكن يرفض الاستسلام رفضا باتا ولا يقبل أي تهاون في مسائل الوطن والأمة الاساسية لا يقبل بأي تراجع ولا أي تساهل. وانا اعتبر نفسي منفذا أمينا لهذا النهج.
لا لوجود إسرائيلي
في المرصد..
سؤال: ما صحة الاتفاق حول مرصد جبل الشيخ، بأن يحل فيه اميركيون وفرنسيون وغيرهم بوجود اسرائيل؟
جواب: نحن رفضنا رفضا قاطعا ان تبقى أي محطة أرضية لاسرائيل في الجولان، او في جبل الشيخ او في أي جزء من الارض السورية، هم ما زالوا حتى الآن يصرون على وجود اسرائيلي في جبل الشيخ، نحن رفضنا ولن نقبل. على كل حال، هذا الرفض قاطع وليس موضع مساومة. هم ربما يظنون اننا بعد اسبوع او اسبوعين او شهر او شهرين يمكن ان نقبل . لن نقبل تحت أي ضغط لأن وجود محطة ارضية اسرائيلية سيكون رمزا للاحتلال، ولأنه في مثل هذه الحالة نكون فعلا قد ابقينا على رمز للاحتلال وكأن الجولان لم يُستَعد ولم يُحرر، يجب ان يحرر كاملا لا يبقى فيه ولا جندي اسرائيلي ولا مدني اسرائيلي.
سؤال: أليس من الظلم ان نعتبر ان المشروع الصهيوني وحده هو الذي هزم المشروع القومي العربي؟
جواب: الواقع أنا لم اقل ذلك، وأنا كنت موضوعيا في رؤية الأمور وقلت ان هناك لحظات تراجع وهبوط وسنوات كانت فيها ذروة الانتصار يعني تأميم السويس وفي بور سعيد وفي الاسماعيلية والوقوف ضد الغزو الثلاثي.. هذه لا يجوز نسيانها، ثم يجب ان لا ننسى حرب تشرين. اذاً فالمشروع القومي كانت له نجاحات وإخفاقات والمشروع الصهيوني كان له نجاحات واخفاقات أيضا، لكن المدد الخارجي متوفر لاسرائيل والقدرة على الاستمرار أكثر، لأن اميركا خلفهم وكل الغرب بشكل أو بآخر. لكن كان لهم انتكاساتهم أيضا وفي تقديري ان حرب تشرين احدثت خللا كبيرا في الجسد الاسرائيلي وهزت اسرائيل في العمق، كما انهم هزموا سياسيا في غزوهم للبنان، وبيغن مات محبطا لأنه لم يستطع ان يحافظ على الاراضي التي احتلها وصولا الى بيروت، وانسحب تدريجيا رغما عن انفه، بفعل المقاومة وصمود سوريا وآلاف الضحايا التي قدمتها سوريا في لبنان ومن يقرأ منكم لكتّاب غربيين سيعرف حجم الصمود السوري وخصوصا قرب خط دمشق بيروت وايضا معركة السلطان يعقوب وأيضا خلال حصار بيروت، والمقاومة اللبنانية بمختلف فصائلها اسلامية وقومية وحتى ماركسية ناضلت في السنوات الاولى نضالا شرسا واستمرت حتى الآن تناضل وانتم تسمعون عن الخسائر الكبيرة التي تمنى بها اسرائيل وانها تريد الانسحاب اليوم قبل الغد من لبنان.
أقول لكم اننا إذا لم نحصل على ارضنا من خلال عملية السلام فسنكسب الرأي العام الدولي والعربي لأن اسرائيل استمرت تدعي بأنها مع السلام دائما والعرب ضد السلام. وصحيح ان الاعلام موجه ضدنا ولصالح العدو الى حد كبير، لكن يمكن احداث اختراق في هذا الاعلام الجبار المعادي لنا وربما لدي مثال بسيط وليس مثالا كبيرا: عندما القيت بيانا في واشنطن امام البيت الأبيض ظهرت مقالات تندد بمزاعم قيلت عن مضمون وفحوى ما تحدثت به، ولكن بعد يومين او ثلاثة عندما رجعوا الى المراجع، ودققوا في الامور التي تحدثت عنها اضطروا ان يراجعوا انفسهم ويقولوا: وزير خارجية سورية كان على حق فعلا، لم نكن نعلم ان هناك نصف مليون مقتلع من الجولان، ولم نكن نعلم بمذكرات /موشيه دايان/ التي اعترف فيها بأن الاسرائيليين هم الذين كانوا يستفزون السوريين قبل عام 1967.
صحيح انه ليس لنا هذا الرصيد والكم من وسائط الاعلام كما تملك اسرائيل لكن الموقف القوي المتناسب الصلب والمثابر، تأكيد الثوابت بأسلوب مقنع لا بد يجد صداه.. الحجة مهمة جدا في الاعلام. نحن نريد ارضنا وحقوقنا فقط، هم الذين انكشفوا الآن. انهم لا يريدون اعادة الأرض، عملية الكشف هذه هي بتقديري مهمة جدا، ومن الضروري ان نكشفهم بأنهم لا يريدون السلام…
وإذا جرى الاستفتاء فعلا على اتفاق سلام مع سورية، وفشل هذا الاستفتاء في هذه الحالة لن تجد اسرائيل اذنا صاغية حتى في واشنطن ونيويورك وباريس، وفشل الاستفتاء سيكون كارثة بالنسبة لمستقبل إسرائيل.
سؤال: الوسائل الاعلامية الاسرائيلية تؤكد على لسان باراك ان المحادثات بين الوفدين الاسرائيلي والسوري ستبدأ بعد اسابيع قليلة، ما هو موقف سورية، هل هناك ديبلوماسية سرية؟
جواب: لا توجد دبلوماسية سرية. نحن منذ البداية رفضناه