تعاملت الدول العربية، عموماً، مع وباء “كورونا” على انه سر حربي، لا تجوز اذاعة اخبار انتشاره، وأعداد الاصابات، والوفيات أساساً، في كل من هذه الدول، كبراها والمتوسطة والصغيرة (ربما بغرض توقي شماتة الأشقاء وإشفاق الاصدقاء).
اختفت جامعة الثرثرة العربية، وبالتحديد منظمة الصحة العربية، وأغلق المسؤولون من “المتحدثين” في أي موضوع، مكاتبهم وأفواههم والتزموا الصمت والغياب تنفيذاً لتعليمات منظمة الصحة الدولية، وحجروا على السنتهم في أماكن سرية، حتى لا يؤخذوا بجريرة التقصير..
أما الحكومات فكانت مواقفها تتراوح بين “المعيبة” و”المخزية”، وقلة من بينها تصرفت بشكل طبيعي: هناك جائحة دولية تتمثل في انتشار مذهل بسرعته لجرثومة كورونا في أربع جهات الأرض، وتوقع آلاف الاصابات (والموتى) في دول الغرب، أوروبا أساساً إلى أن تصدرت الولايات المتحدة الأميركية القائمة بفارق هائل.. وكان ملفتاً انتشار فيروس كورونا داخل عواصم “نظيفة” نسبياً، وبعضها مثال للأناقة مثل باريس ولندن وروما وفيينا وجنيف، وصولاً إلى استكهولم وامستردام..
كل هذا قبل أن يحول الوباء مساره في اتجاه المشرق، وهنا برزت المفارقة جارحة: لقد واجهت معظم الدول العربية جائحة كورونا بالإنكار بداية، ثم تشجعت عندما أمطرتها عواصم الدول الكبرى بالأرقام الفلكية للمصابين فيها.
على أن ما بين ما خفف على العرب من حدة شعورهم بالذنب، ما أصاب الولايات المتحدة الأميركية على يد الوباء الذي وجه أقسى ضرباته إلى نيويورك ثم تمدد إلى سائر الولايات، اذ تناقضت وتضاربت المواقف المرتبكة والمتشنجة والمتناقضة والمستفزة التي صدرت عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب.. فضلاً عن توجيهه الاتهامات العشوائية تارة للصين، وتارة لمنظمة الصحة الدولية التي اتهمها بإخفاء الحقيقة..
المهم، أن العالم بدوله جميعاً، يعيش تحت وطأة الخطر الداهم الذي مثلته هذه الجرثومة الكامنة في الجسم البشري، والتي ذهب ضحيتها حتى الآن أكثر من مليون انسان، فضلاً عن بضعة ملايين ممن ساقتهم إلى المصحات أو أجبرتهم على البقاء في بيوتهم حتى لا تنتقل العدوى منهم أو اليهم.
ما يعنينا، هنا، علاقة الحكام في الدنيا العربية برعاياهم، حياتهم وأسباب اطمئنانهم إلى انهم في ايدي الدولة المؤتمنة على صحتهم وأسباب عيشهم وسلامة اجيالهم الآتية.
فالشعور بالأمان، والانصراف إلى الانتاج، والحرص على العائلة ومستقبل الأجيال الآتية، يتطلب حكماً يهتم بالشعب (أهله) ويتحمل المسؤولية عن تأمين حقوقه في الصحة والتعليم واللحاق بركب التقدم الانساني.
أن خطابات المسؤولين المفخمة، والتقارير غير الدقيقة (حتى لا نقول: المزورة) التي لا يمكن انكارها أو التستر عليها (كيف تخفي أرقام الأموات وجثث الراحلين بضربة كورونا القاتلة تتكدس في المستشفيات او في المقابر الجماعية للضحايا الذين يسقطون بالمئات وحتى بالآلاف ويدفنون معاً وبغير مشيعين”..)
لقد تبارى رؤساء دول العالم، الكبرى والعظمى، في اظهار شعورهم بالحزن والخطر، وتجاوزوا التعزية بالراحلين إلى التعهد بالعمل الدؤوب على ابتكار الدواء وأسباب العلاج، والأهم انهم قد تصرفوا كبشر يحزنون ويتوجعون على غياب “رعاياهم” مع التعهد بالعمل الدؤوب للوصول إلى انتاج الدواء الشافي، وبأسرع ما يمكن لحماية مواطنيهم.
في مثل هذه الحالات الاستثنائية تتأكد الحاجة إلى “الدولة” كراعية لشعبها، تحميه وتؤمنه ضد الظلم والقهر كما ضد الأمراض والأوبئة وغائلة الفقر، بقدر ما تهتم بالتعليم والمؤسسات العسكرية والأمنية التي يفترض فيها أن تحمي الوطن وشعبه من كل ما يتهدده في أمنه أو في رزقه وأسباب تقدمه وتوفير الغذاء والوقاية والمصحات والطبابة والعلاج.
وفي مثل هذه الحالات يصبح انكار انتشار المرض تواطؤاً معه ضد “الشعب”، والانكار ليس شهادة للنظام بديمقراطيته أو بحرصه على صحة مواطنيه وتأمينهم ضد الأوبئة كما ضد الفقر والجهل والمرض.
وفي التراث العربي خاصة، والدولي عموماً، توصيات وارشادات حول ضرورة حفظ الصحة ومنها “صوموا تصحوا” و”ما جاع فقير إلا بما أتخم به غني” و”درهم وقاية خير من قنطار علاج” و” الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه الا المرضى” الخ.
لا بد هنا من بعض الصراحة:
1 ـ لقد تأخرت الدول العربية في “الاعتراف” بانتشار الوباء فيها.. فلما انتبه قادتها إلى أن رؤساء أقوى دول العالم واكثرها تقدماً قد اطلوا عبر شاشات التلفزة، واحياناً اكثر من مرة يومياً، ليعلنوا الحقيقة أمام شعوبهم متعهدين بمواصلة الجهد لمكافحة هذا الوباء.. سارعوا عبر بعض وزرائهم أو حتى عبر بعض الأطباء المعروفين إلى الحديث العلني عن “الآخرين” مع تلميحات إلى ما يشهده الداخل.
واذا ما تجاهلنا حماقات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتذبذبه بين الانكار والاعتراف، ثم توجيه الاتهامات الجوفاء للصين بأنها مصدر الوباء والبلاء، ثم تراجعه بعدما افحمته القيادة الصينية بردها المقنع وبالأدلة الحسية، اندفع إلى مقعد المرشد الصحي موجهاً اللوم إلى الذين يتكدسون في المدن المزدحمة ولا يراعون أصول النظافة.. بل انه دخل في وصلات من التشاتم مع بعض مسؤولي ادارته، وخاصة مع بعض الطامحين إلى وراثته في البيت الأبيض.
2 ـ أما في البلاد العربية فلم يتكرم ملك أو رئيس دولة أو رئيس للوزراء بطمأنة الرعية إلى أن الدولة قد اتخذت التدابير الضرورية لحماية الشعب من مخاطر هذا الفيروس القاتل.
بل أن العديد من المسؤولين في الدول العربية قد عمدوا إلى انكار وصول الوباء اليها ثم اضطروا إلى الاعتراف بوجوده (عبر موظفين أرقاهم وزير) بعد تعاظم الاصابات وتناقص أسباب العلاج.
والانكار جريمة أخطر من الوباء.. فالعقل البشري يعمل بطاقته القصوى وفي مختلف عواصم التقدم الإنساني على انتاج الأدوية الشافية، وتتخطى الحكومات بعض التصريحات الرعناء للرئيس الأميركي ترامب، لتعمل متعاونة من اجل انتاج الأدوية المناسبة وأسباب العلاج الشافي.
والمصارحة نصف العلاج.
أما الكذب على الرعية فهو تحالف مع الوباء..
أدام الله عليكم نعمة الصحة، ووفر لنا جميعاً قيادات مخلصة تحترم شعبها فلا تخادعه إلى حد التحالف مع الوباء.. على سلامته!
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق