في ”الزيد” كان اللقاء مع الشاعر سلطان العويس.
و”الزيد” واحة نشأت عليها قرية فقيرة، ثم حولها الى ”مدينة” ريفية الخير الذي تدفق من بعد على أبناء تلك الاشتات من القبائل التي انضوت قبل ربع قرن في دولة الامارات العربية المتحدة.
لا أثر تقريباً لـ”الزيد” القديمة غير عصبية ابنائها وتمسكهم بها موطناً ومسكناً دائماً، فإذا تعذر فمنتجع، او مزرعة او بيت ريفي يهربون اليه في الإجازات او طلباً للهدوء والراحة والغرق في صمت الصحراء المؤنسنة الآن بشبكة الطرق الحديثة والكهرباء ومياه الري.
المجلس تقليدي: يجيء ”الحواريون” وبعض البطانة، ليكونوا في خدمة الضيوف المتوقعين دائماً، ويظل ”الشعر” ضيف شرف عظيم المقام.
عندما وصلنا الى مزرعة سلطان العويس في ”الزيد” كان في حضرته شيخ احدى القبائل السعودية المستوطنة بقعة غير بعيدة عن مكة المكرمة. وكان الشيخ الجهوري الصوت، المتين البنيان، الوسيم الطلعة والانيق الملبس، يروي ”شعره” وكأنه على منبر الجنادرية!
كان يقدم للقصيدة بحكايتها، ثم تنطلق الابيات كقذائف مدفعية ثقيلة، مع ”ضابط إيقاع” من اتباعه، يردد خلفه النهايات المقفاة، لتنشيط الذاكرة او استثارة الحماسة في السامعين.
وفهمنا، في وصلات ”النثر” ان شيخ القبيلة السعودي الذي يقرض الشعر فصيحاً وعامياً، يحضر لرسالة دكتوراه في السوربون.
كان ”الجمهور” عويسياً، ولكنه استمع تأدباً الى ”قصائد” الشيخ السعودي متعددة المناسبات والاغراض، بعضها للتشكي من ظلم ”المنصوب” وبعضها في الفخر، وبعضها الثالث غزليات فيها مناخ الشعر الجاهلي.
لولا المكيف وسيارات المرسيدس الفخمة في الخارج والمصابيح المنارة نهاراً لسافرنا رجوعاً عبر الزمن الى اي قرن خارج الدورة الحالية للأيام والعصر..
وتملكني خاطر ساذج طارحاً عليّ السؤال الصعب عن العلاقة بين ساعة ”الكارتييه” الباهظة الثمن في يد شيخ القبيلة السعودي وبين شعره العفوي الذي يكرر، مبنى ومعنى، ما كان يقوله اجداده في ازمان غابرة، بغير ان يحس بالحاجة الى اضافة او تعديل وصولاً الى التجديد.
كان سلطان العويس يحاول التدخل، بين حين وآخر، مصححاً او شارحاً او مذكراً بأبيات مشابهة في المعنى او في المبنى لما يقوله الشيخ السعودي.
ثم زاد ضغط ”الجمهور” على ”ابي علي”، الذي انشأ منذ بضع سنوات جائزة باسمه يمنحها للمبدعين في مختلف مجالات الأدب والفن، نثراً وشعراً، رواية ومسرحاً، فحمل البعض ديوانه وأخذ يقرأ قصائد معينة اعظم وقعاً من تلك التي رواها الشيخ السعودي،
ولما استذكر نفر من الجمهور ام كثلوم ومعها مصر، انتقل الديوان الى يدي سلطان العويس، فقلب في صفحاته حتى عثر على قصيدته في رثاء ام كلثوم، ثم اخرى في تحية مصر.
قال سلطان العويس: ان الغناء المتميز يحتاج إلى ثلاثة: الشاعر والملحن ثم الصوت الجميل والحساس والعظيم الدربة.
وروى سلطان العويس بعض لقاءاته مع الشاعر الراحل احمد رامي، العاشق الأعظم لأم كلثوم، الذي كان يمضي اليها عصر كل يوم، فيجلس اليها كالمتعبد، وتسمع منه شعره وشعراً لغيره، وقد تناقشه في بعض ما قاله فيعدل فيه نتيجة لملاحظاتها الذكية.
دارت القهوة المرة، مرة أخيرة، وتهامس الحواريون ان قد جاء وقت القيلولة، وقام الشيخ السعودي مودعاً، فركب سيارة المرسيدس الفخمة التي اكرم بها بعض مشايخ دبي وفادته، وعدنا نحن نتابع رحلتنا عبر الصمت الصحراوي… الموزون والمقفى!