لأن ثورة مصر، بعد ثورة تونس ومعها، قد فتحت أبواب الأمل بعودة الروح الى شعوب الأمة العربية جميعاً لكي تنهض فتنجز المهمات التي كانت تبدو مستحيلة في ظل حكم الطغيان الذي دمر الحاضر العربي او كاد، يرى كل عربي ان من حقه المشاركة في الحوار الخصب الذي يدور في القاهرة وسائر أنحاء المحروسة حول «الدولة» و«النظام» وحقوق المواطن في وطنه التي كانت وما تزال مختطفة او مصادرة في معظم أرجاء الأرض العربية الفسيحة.
لهذا جئنا الى القاهرة، وقصدنا «الميدان» الذي صار قبلة المناضلين من اجل حقوقهم في أوطانهم، محمولين على أمواج الفرح واللهفة وشيء من الخوف على الثورة الوليدة، والتعرف الى من صنع المعجزة التي لم نكن لنتخيل امكان إنجازها حتى في أحلامنا.
من المطار الى المطار، واكبتنا أسئلة القلق التي حملناها معنا في صدورنا والعقول، حول قدرة الثورة الفتية على إنجاز المهمات الثقيلة، وأخطرها رفع ركام النظام الذي أسقطته الجماهير التي كانت مغيبة فحضرت، ثم مواجهة مسؤوليات بناء نقيضه المرتجى.
وفي لقاءاتنا التي شملت مفكرين وكتابا ورجال اعمال وزملاء صحافيين وبعض شباب الثورة استمعنا الى أسئلة أكثر مما تلقينا أجوبة. كان الكل يسأل، وكان شيء من القلق يفرض نفسه على النقاش الدائر في المساحة الواسعة للتمنيات.
في الصحف وبرامج التلفزيون وتصريحات المسؤولين كان الموضوع المركزي للنقاش حول المشكلات الموروثة اساساً أو المستولدة حديثاً: الخوف من الثورة المضادة التي تطارد حلم التغيير في مختلف المجالات وبأقذر الأسلحة، من الطائفية الى التخريب الأمني فإلى الشائعات التي تسمم المناخ وتفسد على أهل الثورة فرحهم بالإنجاز التاريخي.
كان أخطر الأسئلة: كيف تحمي «الدولة» وأنت تهدم «النظام»، خصوصاً أنك لا تملك مشروعاً متكاملاً او تصوراً محدداً للنظام الجديد الذي تراه ملبياً لطموحاتك… خصوصاً أن «الميدان» كان يريد من إسقاط النظام حماية الدولة واعادة الاعتبار إلى مواطنيها وإلى حقهم فيها؟
… ويكاد هذا السؤال ذاته يملأ الأفق في تونس التي ما يزال ثوارها يضغطون برفض من لا يريدون، وما لا يريدون، أكثر مما يحددون خطتهم لإعادة بناء «دولتهم» الجديدة. ونفترض انه يفرض نفسه على المعتصمين في ميادينهم في اليمن، وعلى الطامحين الى التغيير في الجزائر، أما المنتفضون في ليبيا بقوة السلاح من اجل حقهم في بلادهم فلهم الله والقرارات الدولية التي لم تنقذ مرة شعباً من الطغيان، بل إنها كانت في الغالب الأعم، تمالئ أنظمة الطغيان التي تحظى بدعم «الدول» صاحبة القرار في مجلس الأمن، والتي تتقدم مصالحها بطبيعة الحال على حقوق الشعوب في أوطانها وفي بناء دولها بما يتناسب مع طموحاتها.
ومع اختلاف الظروف في «الدول» العربية التي مسخ الطغيان مؤسساتها او دمرها بالفساد والنهب المنظم، وحول الانتخابات الى استفتاءات يتحكم بنتائجها جهازه البوليسي المغطى دائماً بقشرة من النفاق السياسي بحيث لا ينجح فيها الا مستنبتات أهل النظام من رجال الأعمال الذين يظهرون فجأة وينخرطون في شبكة المصالح التي تأخذ الى «الخارج» القوي، فإن المشكلات التي تواجه الثورات والانتفاضات العربية وهي تحاول إعادة بناء دولها تكاد تكون واحدة: اين النموذج الذي نعتمده ونتخذه هدفاً لنضالنا من اجل الغد الأفضل؟
ولأن النموذج الاميركي يتبدى من خارجه، باهراً بمؤسساته الديموقراطية وقدراته الهائلة على تجديد الواجهة الجاذبة، بينما النموذج الاشتراكي قد وجد نهايته المحتومة في عجزه عن التجدد وتحول أنظمته التي يفترض ان تحقق العدالة وتكافؤ الفرص والقدرة على الإنجاز الى دكتاتوريات معادية لأساس وجودها (الفكري) ولطموحات شعبها، وإلى أنظمة شبه ملكية لا يتبدل رأسها الا بالموت او بالانقلاب من داخل الحزب القائد.
ولأن مسألة الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص تتقدم على كل ما عداها في لحظة الزهو بانتصار الثورة على نظام الطغيان.
ولأن التركيز على الداخل يشغل عن الانتباه الى ما يدبر في الخارج، من محاولات لاحتواء الثورة بما يضمن ابتعادها عن «التطرف»، سواء أكان «اسلاميا» يأخذ الى «الإرهاب», أو مغالياً في وطنيته الى حد الارتطام بواقع الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية في فلسطين وما حولها.
ولأن جيل الثورة مهتم بإعادة بناء دولته بما يتناسب مع طموحاته، وبالتالي فلا يريد لأية مسألة أخرى أن تشغله عن هذه المهمة.
لكل ذلك ينهمك جيل الثورة بهموم الداخل، مرجئاً الالتفاف الى الخارج في انتظار ان ينجز إقامة دولته الحديثة، القوية والعادلة، الموحدة والقادرة على تمكينه من ان يعيش حياته في مناخ من الحرية.
لكن «الخارج» ليس بعيداً الى هذا الحد، بل انه في «الداخل» يتابع ويحاول احتواء الثورة، ان لم يكن بالتخريب فبالغواية، وتقديم النموذج الفذ للنظام الاميركي، وكأنه التجسيد الحي للديموقراطية وكرامة الإنسان… في حين ان هذا النظام ذاته كان هو الراعي والحامي وموفر الذرائع لإدامة نظام الاستبداد الذي نجحت الثورة في خلعه.
لقد ظل نظام صدام حسين تحت الرعاية الاميركية لعقدين او يزيد: ارتكب المذابح ضد شعبه في الداخل شمالاً وجنوباً، نظم قوائم الإعدام المتتالية بحق رفاقه في حزبه وكبار الضباط في جيشه، وقاتل ايران الثورة لثماني سنوات طويلة مستنزفاً العراق وسائر دول النفط العربي… وهو لم يفقد هذه الرعاية الا حين قام بمغامرته الجنونية بغزو الكويت، فحق عليه العقاب. ومع ذلك لم تتحرك الإدارة الاميركية لإسقاطه الا من ضمن خطتها لفرض هيمنتها على المنطقة العربية جميعاً (ودائماً بالشراكة مع العدو الإسرائيلي) عبر الاستغلال المتواصل لضرب مقاتلي القاعدة البرجين في نيويورك، والتي لم يكن من بينهم أي عراقي!
وها هو النظام اليمني يقاتل ضد شعبه منذ سنتين وأكثر فلا يفقد الرعاية الاميركية، بل ان الإدارة الاميركية لا تخجل من الادعاء أنها تحميه لان بديله المرتقب سيتمثل في سيطرة «القاعدة» على اليمن، وكأنما «القاعدة» تملك الجيوش والأساطيل والامكانات لحكم بلد شعبه لا يجد ما يمكنه من العيش بكرامة، الا إذا رهن نفسه لإرادة الطغيان فمنّ عليه بوظيفة لا فرق بين ان تكون مدنية او عسكرية المهم ان تقيم الأود…
وها هو نظام البحرين التي حوّل شيخها نفسه الى ملك، في غمضة عين، والذي بادر الى تقديم الجزيرة قاعدة للأسطول الاميركي مباشرة بعد جلاء الاحتلال البريطاني عنها، لا يهتم كثيراً للنصائح الاميركية بضرورة اعتماد الديموقراطية ولو ملطفة ومخففة، بل يندفع – بوعي – الى تحويل المسألة الوطنية الى اقتتال طائفي، مستغلاً الصورة المضخمة للخطر الإيراني على دول الجزيرة والخليج العربي… مع التذكير بأن شعب البحرين، بأكثريته الشيعية، قد رفض وعبر استفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة الانضمام الى إيران الشاه او التنكر لهويته الوطنية وانتمائه الثابت الى أمته العربية.
بالمقابل فإن الاحتلال الاميركي للعراق الذي ورث الحكم عن طاغيته صدام حسين لم يبن النظام الديموقراطي في ارض الرافدين، بل انه تسبب في كارثة إنسانية عز مثيلها، ذهب ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين فضلاً عن تشريد بضعة ملايين منهم خارج وطنهم، معظمهم في دول الجوار، أما أغنياؤه فقد اختاروا اللجوء الى حيث وظفوا ملياراتهم في استثمارات داخل الولايات المتحدة وبريطانيا او في جوارهما.
باختصار فإن الديموقراطية الاميركية، وبغض النظر عن بريقها، للاميركيين، ومن المهين لكرامة أي شعب حقيقي ان يعلن فشله في بناء نظامه الديموقراطي الا على أيدي الاميركيين او بناء على نصائحهم.
[[[[
عدنا من القاهرة مشبعين بالأمل، فأنديتها ومقاهيها فضلاً عن مكتباتها وصحفها وإذاعاتها المسموعة والمرئية ، تمور بالنقاش الصحي والحوار المفتوح حول «الدولة الجديدة» التي يريد شعب مصر أن يبنيها بإرادته الحرة وبإمكانات وطنه الغني اذا ما حفظت ثروته لأبنائه، وإذا ما تحقق الأمل في اقامة نظام ديموقراطي يلبي طموحات المصريين، ويكمل إنجازهم الوطني فيحوله الى نموذج قابل لاعتماده في سائر الأقطار العربية التي أطال قهر الطغيان تغييب شعوبها عن القرار فيها.
وتاريخ النضال الوطني الديموقراطي في مصر عريق، والخبرات المؤهلة لصياغة ما يطمح اليه فتية الميدان المعبرون عن ضمير وطنهم تستطيع إنجاز الهيكلية الدستورية للنظام الجديد الذي يبنى الآن تحت رقابة شعبية مباشرة يشارك فيها الملايين.
المهم حماية الثورة باستكمال التخلص من بواقي النظام ومؤسساته التي كانت تؤمن استمراره بالزور والتزوير والقمع المنهجي وتهجير الكفاءات او شطبها من دائرة التأثير، والحجر على الفكر حتى لا يرتفع صوت بالاعتراض على الطغيان.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية