السؤال الذي تدوي أصداؤه في مختلف أرجاء المنطقة العربية، الآن هو: من بعد السودان؟ من هي الدولة الثانية المؤهلة للتمزيق والتشطير؟
فليس سراً أن العديد من الكيانات السياسية العربية التي أنشئت أو أقيمت في غيبة من «الأهالي» الذين صيروا «شعوباً» في ما بعد، لم تكن لها مقومات «الدول» سياسياً واجتماعياً واقتصاديا أو حتى جغرافياً.
ان الخرائط الرسمية لهذه الكيانات تكشف الافتعال، بل الغرض من استيلادها ورعايتها وفرضها كأمر واقع، على أهلها بداية، ثم على محيطها، وصولاً الى رفع علمها على المبنى الزجاجي الأزرق في نيويورك: الأمم المتحدة.
لقد تم فصل جنوب السودان عن شماله، ديموقراطياً، وسط تهليل العالم أجمع، بدءاً بنظام الحكم القائم في الخرطوم وصولاً الى صاحب الرعاية لهذا الانجاز، الإدارة الاميركية التي تولت مباشرة الاهتمام بالتفاصيل، وانتهاء بمصر ذات العلاقة المميزة مع هذه الدولة التي كانت ذات يوم بعض المملكة المصرية تحت عرش فاروق.
وكان طريفاً ذلك اللقاء الطارئ الذي انعقد في الخرطوم وجاء اليه الرئيس المصري وعقيد ليبيا والرئيس الموريتاني (لسبب غير مفهوم) لكي يناقشوا ما يترتب على الانفصال الديموقراطي للجنوب مع الرئيس السوداني و«نائبه» الجنوبي الذي شارك باعتباره طرفاً خامساً.
بديهي الافتراض ان «الضيوف الكبار» الذين أتوا متأخرين جداً لمناقشة ما كان قد غدا بحكم الأمر الواقع، إنما كانوا يحاولون حصر التداعيات المنطقية لهذا الحدث الاستثنائي على أوضاع أنظمتهم، وبالتحديد على كيفية إقفال حدودهم في وجه انتقال فيروس الانفصال عبر القبائل وأشتات الشعوب المتناثرة عند الحدود المشتركة في تلك الصحارى البلا حدود، والتي زرعت في رمالها العلامات التي طالما تجاهلها الرعاة وأبناء القبائل الذين لم يدرسوا الجغرافيا في المدارس بل أخذوها عن ظروف حياتهم في أرض الله الواسعة.
لقد فقدت دولة السودان التي درسنا عنها في كتب الجغرافيا ثلث مساحتها لتقوم فوقها الدولة الجديدة، من دون أن يقفل الباب أمام احتمال تشطير جديد لدولة الشمال كما لدولة الجنوب… ولعل ذلك ما يقض مضاجع أهل النظام العربي في سائر دولهم!
هل تفيد العودة الى الماضي في قراءة أدق لأحداث الحاضر واحتمالات المستقبل؟
لنقرأ الخريطة السياسية للكيانات العربية: من استولدها وكيف ولماذا، ولأية أسباب يعاد النظر في خرائطها، الآن، ومن هو المستفيد ومن المتضرر… لعل ذلك يقدم لنا بعض ملامح المستقبل الذي يعد لنا ويساعدنا في الاستعداد لمواجهة التداعيات المحتملة؟
قبل قرن واحد من الزمان لم يكن للعرب إلا «دولة» واحدة في المشرق كله، هي مصر، و«دولة» أخرى في المغرب هي المملكة المغربية الشريفية.. أما ما تبقى من أقطار صيرت دولاً مع نهاية الحرب العالمية الأولى، فكان «العرب» يعيشون فيها بوصفهم رعايا سابقين لسلاطين بني عثمان يتوزعون على أشتات ولايات عثمانية وإمارات عشائرية ومشيخات قبلية تعاني من ترسبات مملوكية وتشوهات صليبية وتغلغل فاضح للنفوذ الغربي في أحشاء السلطنة التي كانت قد باتت حقاً «الرجل المريض».
بعد الحرب العالمية الأولى وانتصار «الحلفاء» أي الغرب البريطاني – الفرنسي، استنبتت، فجأة وبلا مقدمات ومن دون الاستناد الى أية مسوغات تاريخية أو تبريرات جغرافية، مجموعة من «الدول» في المشرق العربي بتشطير سوريا الطبيعية كيانات ليس لها مبرر في التاريخ أو في الاقتصاد هي: سوريا الحالية، ولبنان والأردن والعراق، (وهذا هو منطوق معاهدة سايكس ـ بيكو بين بريطانيا وفرنسا عام 1916)، في حين استبقيت فلسطين تحت رعاية وعد بلفور 1917 لتكون نواة الدولة الصهيونية التي ستقام بعد ثلاثين سنة، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية باسم إسرائيل، وتحت الرعاية الكونية الشاملة.
أي ان أكثرية «الدول العربية»- أقله في المشرق – قد أنشئت ككيانات سياسية، بقرارات الدول الغربية المنتصرة في الحربين العالميتين، ولأغراض تخصها وبعيداً عن إرادة أهلها.
تماما كما أنشئت دولة السودان ثم ألحقت بعرش أسرة محمد علي في مصر، تحت الانتداب البريطاني، مكافأة لها على مشاركتها بجيوشها في قمع بعض حالات التمرد والعصيان، وكان ضرورياً انتظار قيام الثورة في مصر (2 تموز- يوليه 1952) لكي يعلن سقوط ذلك الاتحاد الوهمي الذي لم يكن له من صفات «الاتحاد» بالمعنى السياسي إلا التسمية المفرغة من أي مضمون.
ربما لهذه الأسباب تعيش دول المشرق العربي حالة من القلق الدائم على كياناتها، وتعلو فيها أصوات فئات من رعاياها تتهم فئات أخرى بنقص الولاء للكيان، أحيانا بذرائع دينية أو عنصرية، وأحيانا بالعودة الى افتراق في الأنساب أو في تناقص المصالح بين الرعاة من البدو الرحل والحضر من أهل المدن والقصبات، وقد أضيف، مؤخراً، الى أسباب الافتراق والمطالبة بالانفصال اختلاف المذهب في قلب الدين الواحد، أو الاختلاف في الدين.
[[[[[
هي «دول فاشلة» حسب التعبير السياسي الجديد الذي اعتبرت الإدارة الاميركية أنها المرجعية الكونية الصالحة لاعتماده في تصنيف الدول.
وها هي الإدارة الاميركية تشهر سيف هذه الشرعية الدولية المبتدعة في وجه أية دولة يحاول نظام الحكم فيها ان يحمي مصالحه الوطنية او سيادته، من دون الرجوع اليها في طلب الإذن او في نيل الموافقة المسبقة.
في الأيام القليلة الماضية صدرت عن الإدارة الاميركية مجموعة من التصرفات المستفزة لعدد من الدول العربية المصنفة «صديقة»:
في مصر، مثلاً، خرقت السفيرة الاميركية ومعها مجموعة من سفراء الدول الغربية الأصول المعتمدة في العلاقات بين الدول ذات السيادة، وذهبوا مباشرة الى البابا شنوده لتعزيته في ضحايا التفجير الإجرامي لكنيسة القديسين في الإسكندرية.
لم تقصد السفيرة الاميركية مارغريت سكوبي ومعها عدد من السفراء الغربيين قصر الرئاسة أو وزارة الخارجية، مثلاُ، للقيام بهذا الواجب، بل ذهبوا مباشرة، ومن فوق رأس الدولة، الى المرجعية الطائفية التي يحفظ لها المصريون، بل والعرب جميعاً، دورها الوطني الجامع وموقفها المبدئي الصارم من الكيان الصهيوني ومن خطيئة الصلح مع العدو الإسرائيلي..
وفي هذا تجاوز خطير، وتحريض مكشوف لأولئك المتعصبين أو المرتهنين لإرادات أجنبية، ممن حاولوا توظيف هذه الجريمة الفظيعة في تأجيج المناخ الطائفي في الدولة التي كانت عبر التاريخ رمزاً للتسامح الديني، والتي تظل المرجع الوحيد الصالح لشؤون مواطنيها جميعاً، لا سيما اذا ما كان هناك خلل في التعامل مع فئات محددة من شعبها، سواء في مجال التوظيف أو خاصة في مجال التمثيل السياسي المتناسب مع حجم الطائفة وكفاءات رعيتها (وهم بداية وانتهاء مواطنون مصريون أصحاب حق في وطنهم ودولتهم مساو تماما لسائر إخوانهم من أتباع الدين الإسلامي).
ان الدولة هي المرجعية الطبيعية لمواطنيها، وهي المطالبة بإنصافهم كمواطنين، لا يحتاجون في ذلك شفاعة طرف أجنبي، ولا تدخل مرجعية دينية سامية كالفاتيكان.
وصحيح أن ثمة خللاً في العلاقة بين السلطة وبين الكثير من مكونات المجتمع المصري، الدينية والسياسية، ويجب إنهاء هذا الخلل، حتى لا يظل يوفر مساحة لتدخل السفراء والعواصم الأجنبية… والعلاج سياسي بداية وانتهاء، أما المراثي ونداءات التعاطف والتنبه فجأة الى الاختلال في ميزان العدالة والوعد بإصلاحه ثم تناسي الأمر بعد هدوء العاصفة، فإن ذلك كله لا يفيد إلا في تعاظم المشكلة وتحولها الى أزمة وطنية تهدد تماسك المجتمع واستقراره وتدمغ الدولة بالفئوية بما يوسع الباب أمام مزيد من التدخل الأجنبي الذي سيجد عندئذ «مسوغات « تبرر»رعايته» لفئة من الشعب وصولاً الى فرض حمايته.. من فوق رأس الدولة.
ان واشنطن ترعى مباشرة، وعلنا، انفصال جنوب السودان عن شماله، وبعض كبار المسؤولين الاميركيين يتنقلون بين الخرطوم وجوبا، يشرفون على كل تصرف، بما في ذلك بطاقة الاستفتاء، ينثرون الوعود للطرفين، مع تعهد «بالعفو» عن الرئيس عمر البشير وإهمال شأن التحقيق الدولي في «جرائم الابادة» التي ارتكبها نظامه ضد الجنوبيين.
وواشنطن تبلغ القيادة التونسية لومها بل تؤنبها على إهمال مطالب الناس مما دفع بهم الى الانتفاض على الظلم والإفقار الى حد.. الانتحار في الشارع!
وواشنطن في اليمن تتابع شؤون السياسة والأمن والاقتصاد وتعطي رأيها في كيفية مواجهة «المتمردين» الذين تدمغهم السلطة بالانتساب الى «القاعدة» ابتزازاً للإدارة الاميركية وحلفائها من أهل النظام العربي.
بالمقابل فإن فرنسا ساركوزي قد وجدت الفرصة سانحة للدخول على خط التأثير والاستثمار ومحاولة اكتساب مساحة لنفوذها في المنطقة عن طريق تقديم نفسها في صورة «حامية المسيحيين في الأرض الإسلامية» والعربية أساسا… وهكذا فإن الرئيس الفرنسي لم يجد حرجاً في أن يندد، خلال استقباله سفراء دول إسلامية وعربية، «بسياسة التطهير الديني» التي تستهدف المسيحيين في الشرق.
وفي السياق ذاته انبرت الصحف والمجلات الفرنسية خاصة والغربية عموماً الى إصدار ما يشبه الأعداد الخاصة عن اضطهاد المسيحيين في الشرق بدءاً بالبلاد العربية (لا سيما مصر ولبنان والعراق) وصولاً الى إيران والباكستان وأفغانستان الخ..
على أن المستهجن ان ترتفع في القاهرة كما في بيروت، أصوات لمراجع دينية وسياسية تنذر المسيحيين بأن المسلمين سيطرودنهم قريباً من لبنان بل من المشرق عموماً كما طردوا من العراق!
وكان لافتاً في هذا السياق أن يذهب مسؤولون كبار في لبنان الى الكنيسة القبطية في إحدى ضواحي بيروت للتعزية بشهداء التفجير الإجرامي في كنيسة القديسين بالإسكندرية بدلاً من الذهاب الى السفارة المصرية التي لم تفتح سجلاً للتعازي في هذه المناسبة المحزنة.
أما ما كان محزناً فهو أن توجه بعض المراجع الطائفية بيانات نعي للوجود المسيحي في لبنان بداية وفي المشرق، وهو بالضبط ما ترغب فيه إسرائيل لتبرير وجودها الاستعماري الاستيطاني بوصفها حامية الأقليات في الشرق بوصفها دولة يهودية – ديموقراطية، مقدمة النموذج لما جرى في السودان وما يجري بعيداً عنه في المشرق العربي.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية